عدنان الزرفي... بين الشرعية الدستورية والأزمة السياسية
لم يعد منصب رئيس الوزراء في العراق امتيازاً للائتلاف الشيعي كما كان في السنوات الثماني الأولى التي تلت الغزو عام (2003 - 2011)، فقد استعجل السياسيون الشيعة بسماع نصيحة حلفائهم الإيرانيين بإمكانية توافر مظلة أمنية تجعلهم أمينين في الحديقة الخلفية التي ستوفرها طهران كمظلة لهم، لتنفيذ ما يريدون بتحويل العراق من بلاد الجيوش والمؤسسات والشعب المتعلم الذي تعوّد أن ينتج أكثر ممّا يأكل، إلى شعب يخدم عجلة المشروع الإيراني...
صحوة الشعب العراقي المدوية
شعب تعوّد على التّمرد، يسعون في تحويله إلى شعب مطيع "حبّاب" يكتفي باللطم وتنظيم مواكب العزاء المبالغ فيها ويحظى بمسيرات عاشورية طيلة العام، ليشعروا بأنهم يمارسون الطقس الذي حُرموا منه طيلة العقود الماضية. وها هم يسمعون ويرون جحافل المواكب التي تمتد من العاصمة بغداد إلى النجف وكربلاء، ومن البصرة إلى هاتين المدينتين المقدستين، وكأنّ الحياة التي ينشدونها تلخّصت بهذا المشهد الحزين. وحين عادوا ليحاسبوا الساسة على نتائج الميزانيات التي أُنفقت بمئات المليارات والمشاريع التي ينتظرونها بفارغ الصبر، وجدوا أنفسهم بلا ماء وبلا كهرباء وبلا مشاريع تحدثت عنها وسائل الإعلام طويلاً، ورأوا طبقة سياسية تزداد ثراءً على حساب الشعب الجائع، الذي رافقه تراجع في القطاعات الخدماتية والإنتاجية والحياة المؤسساتية، والأزمات لا حصر لها تحاصر البلاد، فاضطر الشعب وهو يواجه كل تلك التناقضات إلى أن يسأل السياسيين "من أين لكم هذا؟"
التظاهرات مظهر الاحتجاجات غير المتوقعة
لكنّ الشعب جوبه بمواجهات عنيفة على يد مسلحي الأحزاب، وسيارات الميليشيات تحاصر الشوارع وتهدّد كل من يطالب بمحاسبة الفاسدين، وتصاعد عنف الشوارع مع تصاعد الأصوات التي تظاهرت واحتجت في العاصمة بغداد والناصرية وقبلها البصرة وميسان والديوانية والمثنى وواسط، فصار المجتمع الشيعي الذي يمثل الغالبية السكانية والتمثيلية بأكثر من 180 نائباً في البرلمان، يواجه تساؤلات الشارع ثم يواجه تظاهرات واعتصامات في بغداد وسواها من المحافظات، حتى أدرك الشعب أن الهلع والتخويف والاستفاضة في جرع الطائفية ما هي إلاّ وسائل للابتزاز وغطاء للفساد وتأسيس لمجتمع مافيوي، تتقاسمه قوى منتفعة استولت على قصور النظام السابق وحوّلتها إلى ثكنات للحمايات الخاصة والأموال المنهوبة من المال العام.
المنطقة الخضراء وكر السلطة
المنطقة التي أسماها الأميركيون بـ"الخضراء" أثناء وجودهم لغاية 2011، حوّلها ساسة العهد الجديد في السلطة الحاكمة باسم الطوائف والملل والنحل، إلى مراكز جديدة للقهر السياسي للشعب، الذي يهتف في الشوارع العامة منذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى اليوم لإسقاط السلطة، رافضين العملية السياسية التي يصفونها بـ"الفاسدة" ويطالبون بمحاسبتها.
سقوط حكومة عبد المهدي مؤشر للانهيار
أمام هذا المشهد، أُسقطت حكومة عادل عبد المهدي واستقالت في الأول من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وتركت البلاد في فراغ دستوري، بل تمادت تلك الحكومة التي رهنت نفسها للمشروع الإيراني، بأنها أخفقت في إعلان الميزانية السنوية قبل مغادرتها، وأكتُشف في ما بعد أنها مصابة بعجز مقداره 85 مليار دولار وفق إعلان رئيس اللجنة المالية البرلمانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحديات أمام المكلف عدنان الزرفي
تحديات كبرى تتوالى أمام المشهد السياسي العراقي، ومهمة المكلف الجديد لرئاسة الحكومة عدنان الزرفي رئيس "كتلة النصر" النيابية، تضعه في حال لا يُحسد عليها منذ لحظة تكليفه من قبل برهم صالح، رئيس الجمهورية، الذي استخدم صلاحيته الدستورية وفق الفقرة 76 ثالثاً، بتكليف الزرفي كمرشح توافقي من بين حشد من المرشحين المتساقطين عند بوابة القصر الجمهوري.
من هو رئيس الحكومة المكلف الجديد؟
فمن هو عدنان الزرفي المكلف الثاني بعد محمد توفيق علاوي من قبل رئيس الجمهورية؟ وهل اختير وفق الدستور ومؤازرة المحكمة الدستورية، السلطة العليا في البلاد؟
عدنان خضير الزرفي، ابن الكوفة اللصيقة بمدينة النجف التي تكتسب قيمتها من مرقد الخليفة الرابع للمسلمين علي بن أبي طالب ابن عم الرسول الأعظم (ص) وزوج ابنته. عاش الزرفي في كنفها وتعلّم من عوالمها المليئة بالحكايات والأفكار حتى هرب منها إلى رفحاء في السعودية بعد اشتراكه بما يُسمّى "الانتفاضة الشعبانية" لدى العراقيين الشيعة، وتسمّيها سلطة صدام حسين "صفحة الغدر والخيانة".
كان عدنان الزرفي وقتها شاباً يافعاً طلب اللجوء إلى أميركا واستقر في ميشغان، وبدأ حياته هناك حتى نال الجنسية والجواز الأميركي، وقضى 12 سنة هناك حتى لحظة الغزو عام 2003، ليعود هو ومئات سواه للعمل كمترجمين ووسطاء لدى الجيش الأميركي كونهم يعرفون اللغتين، ويعرفون طبيعة مناطقهم التي غادروها لاجئين، حتى أسند إليه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، تولي إدارة محافظ النجف عام 2004، لكنه أُقصي من منصبه بعد سنة بتهمة الفساد، ليتحوّل إلى العمل في وزارة الداخلية بدرجة مساعد رئيس وكالة المعلومات فيها، وتحوّل من عضوية "حزب الدعوة" الذي بدأ حياته السياسية معه في رفحاء عام 1991، ليؤسس حركة "الوفاء العراقية" الشيعية، التي حصلت على ثمانية مقاعد في مجلس محافظة النجف، وليصبح عضواً في البرلمان في الانتخابات الأخيرة عام 2018، مع "كتلة النصر" بزعامة حيدر العبادي، رئيس الوزراء السابق، ويتولى رئاسة الكتلة في البرلمان الحالي. وعُرف عنه أنه صدامي الشخصية، متنمّر على خصومه من أصحاب الميليشيات الذين يعتبرهم آفة البلاد وعنوان ومسوّغ الفساد فيه.
الإشكالية الدستورية لترشيح الزرفي
إشكالية دستورية وقانونية رافقت ترشيح الزرفي، تمثلت في أنه لم يأتِ من الكتلة الأكبر في الانتخابات الأخيرة التي عارضت ترشيحه ومن قبله محمد توفيق علاوي في التكليف الأول، الذي تلى إستقالة الرئيس عبد المهدي في الأول من ديسمبر الماضي. فالمجموعة المناوئة لرئيس الجمهورية الكردي برهم صالح عارضت الزرفي، كـ"الفتح" بزعامة هادي العامري و"صادقون" بزعامة "عصائب أهل الحق" وزعيمها قيس الخزعلي و"كتلة عطاء" بزعامة فالح الفياض و"دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، وميليشيات متفرقة تابعة لها، أهمها "كتائب الإمام علي" و"النجباء"، و"كتائب حزب الله" التابعة لـ"حزب الله" اللبناني، أي جلها من المجموعة الموالية لإيران والتي تدين لها بالطاعة والولاء وتنفيذ الأوامر.
لوم وتقريع للمحكمة العليا
المجموعة السابقة التي اعترضت على المكلَّفَيْن علاوي والزرفي، ترى أنّ المحكمة الاتحادية التي أيّدت ترشح الأخير وقعت في ما أسمته لعبة رئيس الجمهورية بقوله "عدم تقديم مرشح متفق عليه"، كونها غير موصفة أو واردة في النص الدستوري باعتبار المادة 76، تقرّ بمرشح "الكتلة النيابية الأكثر عدداً"، ولم تقل بمرشح "متفق عليه"، على الرغم من أنّ الفقرة ثالثاً من المادة 76 التي استندت إليها المحكمة الاتحادية تنصّ: "يكلف رئيس الجمهورية مرشحاً جديداً لرئاسة مجلس الوزراء خلال 15 يوماً عند إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف، تشكيل الوزارة خلال المدة المنصوص عليها"، وهذا يعني من وجهة نظرهم مرشح جديد من الكتلة الأكبر عدداً وليس على هوى رئيس الجمهورية، ولم يقل يختار (لرئيس الجمهورية) بل يُكلف، وعُدّ قرار المحكمة الاتحادية سياسياً ولم يكن دستورياً.
انقسام البيت الشيعي
من هنا، نشب خلاف، بل انقسام بين كتل الائتلاف الشيعي وانقسم حول التصويت للمرشح المكون المقبل، بل صار المنصب عقدة شيعية في السياسة العراقية، بحسب توصيف سياسيين عراقيين.
في وقت يرى بعض المشرعين والسياسيين المؤيدين لترشيح عدنان الزرفي في مسعى تذكير بأن المرشح الشيعي السابق لم يخضع لمعادلة الكتلة الأكبر عند انتخاب عادل عبد المهدي، فلم يأتِ من كتلة أكبر، بل مرشحاً توافقياً، كذلك المكلف الخاسر محمد توفيق علاوي الذي سبقه، وفي حال مضي شهر من التكليف.
الإشكالية الدستورية المحتملة
وفي حال تكرار رفض المكلف الجديد لرئاسة الوزراء من الفصائل الشيعية المناوئة، تكون المادة 76 من الدستور قد استنفذت، ولا توجد معالجة دستورية لذلك، وهذا يعني أنّ هناك ترجيحاً بأن الكتل الموالية لإيران تريد التلويح والإبقاء على عادل عبد المهدي، على الرغم ممّا وصفه هو بأنه في حالة "غياب طوعي"، فهي تناور على حساب الوقت وصولاً إلى ترتيب الانتخابات المقبلة على قياساتها، وهذا يجعل البلاد في حالة فراغ دستوري لأكثر من أربعة أشهر، بلا ميزانية مصادق عليها تفرض ووقف الإنفاق على كل المشاريع الاستثمارية، وهي تنتج حالة أشبه ما تكون حكومة طوارئ أو تصريف أعمال من دون إعلان رسمي. ترك البلاد بلا بديل ولم يرشح عبد المهدي شخصية متفق عليها، وكأنه يعيد إلى الأذهان قوله "أوجدوا البديل وسأترك المنصب خلال ساعات"، على حدّ تذكير سياسيين متابعين للشأن العراقي.
سهام النقد للمحكمة الاتحادية
الإشكالية الدستورية التي وقع فيها ترشيح رئيس الحكومة الذي تتصارع على اسمه الكتل والأحزاب الشيعية، توجه فيها اللوم إلى المحكمة الاتحادية التي أوجدت سابقة في إلغاء ترشح فوز الدكتور إياد علاوي وقائمته الوطنية في انتخابات عام 2010 من خلال تفسيرها للكتلة الأكبر، التي لم تحسب أصوات الكتلة الفائزة بقرار تصويت الناخبين الفوري، بل انتظرت تحالف الكتل من مجموع المكون وخضعت لمنطق المحاصصة الطائفية كما فسّر المراقبون وقتها، لدى المرشح الفائز على الرغم من أن علاوي علماني يحظى بقبول المكونات الأخرى، وبذلك، أسست لقاعدة الكتلة التي تتشكل بعد الفوز. وفي الأنظمة البرلمانية مثل العراق، فإنّ ترشيح رئيس الحكومة حصري بتصويت مجلس النواب من الكتلة الأكثر عدداً، بعكس الأنظمة الرئاسية عندما يكون الترشيح مناطاً برئيس الجمهورية المنتخب من الشعب مباشرة. غير أن رئيس الجمهورية في العراق يرشحه البرلمان بتوافق على أن يكون من المكون الكردي، وهو عرف وليس قانوناً أو دستوراً. لهذا، فإنّ الإشكالية التي تكررها المحكمة الاتحادية في حال تكليف عدنان الزرفي، أنها منحت رئيس الجمهورية صلاحية ترشيح رئيس الحكومة، وصفها أحد المراقبين: إنها ابتكرت نظاماً سياسياً جديداً لا علاقة له بالفقه الدستوري القائم على توصيف دقيق للمُرشح والمرشح.
التحديات أمام المكلف لرئاسة الحكومة
المكلف الحالي أمامه تحديات كثيرة ألزم نفسه فيها، وهي موزعة على 12 التزاماً قدمه في خطابه المنشور في اليوم التالي لترشيحه. لكن التحدي الأكبر أمامه مروره من الترويكة الشيعية التي لا ترغب في التصويت له، وجلها من أحزاب وقوى مسلحة تمثل الدولة العميقة، ثقيلة اليد عليه وعلى غيره من المكلفين لمنصب رئيس الوزراء، كما أنها ماضية في المطاولة بكسب الوقت لإبقاء حليفها عبد المهدي أطول فترة، على الرغم من تأييد الأكراد والسنّة والصدريّين الذين لن يعترضوا على ترشيح الزرفي، وعُدَّ سكوتهم علامة الرضا. لكن هناك من يؤشر بأن زيارة مستشار الأمن القومي الإيراني علي شمخاني كانت مسعى لإبقاء عبد المهدي لحين تخطي إيران أزمتها المتراكمة والمركبة، وأن عبد المهدي الحليف السخي لديهم الذي يمتثل لأوامرهم من دون تردد.
عوامل مؤاتية لترشيح الزرفي
وقد تلعب الظروف العراقية الداخلية والدولية على ترجيح تكليف الزرفي نتيجة تفاقم الأزمة العراقية المتمثلة في المطالبة بالإسراع بإعلان الميزانية التي تواجه عجزاً مقداره 85 مليار دولار، وشلل الاقتصاد العراقي نتيجة عدم وجود صلاحية صرف من حكومة مستقيلة منذ أكثر من أربعة أشهر، فإنّ ذلك يؤشر إلى أنّ الكتل الشيعية الرافضة لحسم ملف رئيس الحكومة ستُحرَج أمام جمهورها في حال فشل المكلف الجديد، مطالبة المكوّنين الكردي والسني بضرورة تمرير الحكومة وتخطّي الشيعة أزمتهم في تمثيل المكون، مع وجود تأييد من قطاع شيعي عريض تقبل بقناعة تعهدات المرشح بمحاكمة قتلة المحتجين، وأولويته في مكافحة وباء "كورونا" بتفعيل خلية الأزمة ورفع التخصيصات الطبية، التي شهدت انحساراً غير مسبوق في حكومة عادل عبد المهدي. كذلك تعهده بالسيطرة على السلاح المنفلت وحصره بيد الدولة، وتفعيل المؤسسات الحكومية وفرض الأمن، يساعد كل ذلك التاريخ الحافل لعدنان الزرفي في مواجهاته مع خصومه من الميليشيات، تعطي الجمهور الثقة بقيادته التي ستلجم الخارجين عن القانون، كما يتوقع مساندوه.
وتظل صورة رئيسه في "تحالف النصر" حيدر العبادي ماثلة للأذهان كونه الرئيس الذي تخلّص من "داعش" وانتصر عليه، وتمكّن من رفع معنويات العراقيين ورصيدهم المالي. فقد ترك المنصب وفي الميزانية فائض مادي لأكثر من 16 مليار دولار، تجعل العراقيين ميالين إلى رجل قوي أكثر شباباً وإرادة للتغيير، بعد أن ملّوا من سياسة الفساد والضعف واللهاث خلف القرار الإيراني في حكومة عبد المهدي المتداعية، التي ارتكبت الكبائر بقتل المتظاهرين واتهّمت من أسمتهم بـ "الطرف الثالث" بمقتلهم من دون محاكمة.