عندما لا تخسر أميركا ولا تربح إيران
بعد الانتخابات البرلمانية العراقية في أبريل (نيسان) 2018، لم تكن دهشة الجنرال قاسم سليماني قليلة أمام المشهد الذي رآه جراء تصرفات قيادات فصائلية شيعية من الحشد الشعبي في المشاورات التي كانت جارية بحثاً عن مرشح لتولّي منصب رئاسة الوزراء. وهذه الصدمة لم تقتصر على هؤلاء، بل شملت أيضاً الحلفاء من المكوّن السني الذين تربطهم بطهران تحالفات من المفترض أن تكون استراتيجية.
مصدر الدهشة كان متأتّياً من الاتصالات الحثيثة بعيداً من الأضواء التي كان يجريها قادة المكوّن الشيعي "الولائيين" مع سفراء العواصم الغربية، خصوصاً سفراء أميركا وفرنسا وبريطانيا لدى العراق، في محاولة لتقديم أوراق اعتماد أمامهم للحصول على تأييد هذه العواصم لتبنّي ترشيح أي من هؤلاء ليكون في رئاسة الوزراء، رأس السلطة التنفيذية والقيادة العليا للقوات المسلحة. وقد كان رئيس منظمة بدر ومساعد نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي وزعيم تحالف الفتح هادي العامري أكثر جرأة من غيره، ولم يحجب أو يخفِ أمر اللقاءات التي جمعته مع السفيرين الأميركي والبريطاني في بغداد لبحث موضوع رئاسة الوزراء في ظل الانقسام الحاد الذي كان سائداً حول موضوع الكتلة الأكبر، ومن هو صاحب الحق في التسمية من بين التحالفات الشيعية.
على المقلب الآخر، فإضافةً إلى اللقاءات المكّوكية التي كان يعقدها سليماني مع القيادات الشيعية بمختلف توجّهاتها الموالية أو المنتقدة أو المستقلة لتسويق الأفكار التي يريدها، لم ينعم السفير الإيراني ايرج مسجدي بالهدوء والراحة، خصوصاً في ما يتعلّق بموضوع استحقاق المكوّن السني في رئاسة البرلمان، فتحوّل مكتبه في السفارة الإيرانية إلى محجّة سرية لقادة وزعماء الكتل الممثلة للمكوّن السني، وكل واحدة منها تسعى إلى أن تكون صاحبة الحظ في الحصول على هذا الموقع لتدعيم وتعزيز جهودها لاحتكار التمثيل السني في السلطة على حساب الكتل والأحزاب الأخرى.
هذه المشهدية سمحت لأحد المقربين من سليماني القول نقلاً عنه، إن الزعماء والسياسيين الشيعية يعقدون لقاءات علنية مع الجانب الإيراني وأخرى سرّية مع الجانب الأميركي، في حين أن الزعماء والسياسيين السنة يعقدون لقاءات علنية مع الجانب الأميركي وسرّية مع الجانب الإيراني، والكل كان يؤكد للطرف الذي يلتقيه سرّاً أن أسباب التواصل السرّي معه يخضع لضرورات المرحلة ودقّة التحالفات التي يرتبط بها والخطاب الجماهيري الذي يتبنّاه، لكنه في المقابل كان يبدي الكثير من الاستعداد للتعاون إلى أقصى الحدود مع ما يضمن مصالح الطرف الذي يتحدث معه.
واعتماد عادل عبد المهدي كخيار لرئاسة الوزراء من بين كل الأسماء الطامحة لهذا المنصب التي لم تبخل بالجهد والتعهّد من أجل تحقيق ذلك، لم يكن من باب أنه الأقوى والأجدر بين هذه الشخصيات، بل لأنه الأضعف. فتجربته في المواقع التي شغلها كنائب لرئيس الجمهورية ووزير للنفط في مرحلة ما بعد الحكومة الانتقالية لا توحي بقدرته على مواجهة الأزمات، لأنه لجأ في الموقعين إلى خيار الاستقالة في مواجهة التحدّيات التي فرضها موقعه، ولأنه أعلن انسحابه من الحياة السياسية عندما استقال من المجلس الأعلى لعدم قدرته على مواجهة مركزية القرار التي يمارسها السيد عمار الحكيم، الذي لجأ هو الآخر إلى التخلّص من الحرس القديم وما يشكّلونه من عبء على حركته السياسية والشعبية، فترك المجلس برمزيته التاريخية ليؤسس تيار الحكمة. من هنا، شكّل عبد المهدي الحلقة المناسبة بين الأسماء الطامحة لتمثيل المكوّن الشيعي ومدخلاً لحسم الصراعات التي دخلت في دائرة التفجّر على خلفية ما يدّعيه كل طرف بشأن أحقّيته واستحقاقه لهذا الموقع. وهو اختيار يساعد اللاعب الإيراني على إحكام قبضته على السلطة التنفيذية، التي تُعتبر منصة للتأثير والسيطرة على سلطتي رئاستي الجمهورية والبرلمان، بالتالي سمحت لسليماني الحديث عن انتصار إيراني بثلاث نقاط مقابل صفر للأميركي.
الحراك الشعبي والاحتجاجات والاعتصامات وما رافقها من مواجهات وعنف وقتل وقنص واعتقالات قامت بها السلطة، ودخول المرجعية النجفية على خط الموقف السلبي من الأداء الحكومي دفع عبد المهدي إلى إعلان استقالته، بعدما خسر آخر ملاذ يوفّر له الحماية المتمثل في حياد المرجعية، الأمر الذي أربك الحسابات الإيرانية وخلط أوراقها وأدخلها في نفق البحث عن بديل في حال لم تستطع إعادة تثبيت المستقيل في منصبه لاستكمال دورته الوزارية. إلّا أنّ الجهود التي بذلتها طهران كانت تصطدم بعودة التنافس بين القيادات الشيعية وطموحاتها الرئاسية إلى حدّ أنها لم تتردّد في حرق وإسقاط جميع الخيارات التي طُرحت لخلافة عبد المهدي، ليس لأسباب استراتيجية أو عقائدية، بل بسبب مصالح وتوزيع الحصص وشروط الشراكة التي كانت تفرضها على هؤلاء المرشحين.
الخطوة المتقدمة والتصعيدية التي قام بها رئيس الجمهورية برهم صالح بتكليف عدنان الزرفي لتشكيل الوزارة بموافقة وتأييد من رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، شكّلت رسالة واضحة لطهران بأن المعادلة التي أرستها قبل سنة لم تعد قائمة أو هي إلى الانهيار، وأنها على أبواب واقع جديد وتغيير معادلة ثلاثة مقابل صفر لصالح واشنطن، وأنها ستكون قريبة من خيار الذهاب إلى مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة ذات بعد عسكري وأمني أكبر من عملية اغتيال سليماني واستهداف قاعدة عين الأسد، ما قد يحمل لها نتائج وخيمة، أقلّها خسارة الساحة العراقية والخروج منها وتدمير كل ما بنته من تحالفات خلال العقد والنيف الماضيين. وهو مسار أيضاً لا ترغب فيه إدارة الرئيس دونالد ترمب، إلّا أنّها لن تتردّد في استخدامه أو اللجوء إليه في حال تمسّك الإيرانيون بمعادلة الغالب والمغلوب. من هنا جاء خيار تكليف مصطفى الكاظمي ليكون المخرج من هذا المأزق غير المرغوب من الطرفين في هذه المرحلة، فتولّيه رئاسة الوزراء لا يشكّل انتصاراً واضحاً لواشنطن، وعلى الأقل يضمن لها عدم ذهاب طهران إلى الحديث عن هزيمتها. في المقابل، لا يحقّق نصراً لطهران، لأنها أُجبرت على الذهاب إلى خيار كانت تفضّل عدم الوصول إليه، كونه لا يحقّق انتصاراً لها، بل يقلّل من وقع الخسارة عليها من باب أنها دفعته إلى هذا الموقع من باب تسهيل التوافق داخل البيت والمكوّن الشيعي المعني بالتسمية.
في المرحلة المقبلة وفي ظل حكومة الكاظمي، سيكون على طهران إعادة تقييم أسلوب وآليات عملها مع القوى العراقية وإعادة ترتيب أولوياتها وتعزيز قدرات الكاظمي على تدوير الزوايا وضبط مسار العلاقات بين طهران وبغداد في الأطر الرسمية بين دولتين وحكومتين. وهو ما سينعكس إيجاباً على الواقع العراقي الذي سيسعى إلى الحدّ من هيمنة الأحزاب والميليشيات على مقدرات البلاد ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية، شرط أن تنحو طهران نحو مزيد من العقلانية في التعامل مع الواقع الجديد.