هل ينجح الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق؟
بعدما وصلت العلاقات الأميركية العراقية إلى مفترق طرق جديد، سعى الحوار الإستراتيجي على مستوى كبار المسؤولين من حكومتي البلدين إلى تجاوزه بسلام، عبر فتح صفحة جديدة في علاقات البلدين، والمساعدة في استقرار جبهة دبلوماسية رئيسة للعراق شهدت توترات دامت قرابة عام. ففي أوقات الخطر، حين تتسبب جائحة صحية عالمية في خسائر بشرية هائلة، ويصاحبها انهيار اقتصادي حاد وقدر واسع من الشكوك حول المستقبل بسبب الأخطار الأمنية، يصبح للتقارب بين الأصدقاء والحلفاء أهمية خاصة أكثر من أي وقت مضى.
ترتيب الأولويات
ولأن الحوار الذي يتوقع أن يستمر أشهراً عدة بحسب دبلوماسيين في واشنطن، يأتي على خلفية تصاعد التوترات بين الحليفين في أعقاب الغارة الجوية الأميركية في يناير (كانون الثاني) الماضي التي قتلت الجنرال الإيراني قاسم سليماني وتلتها هجمات على القوات الأميركية في العراق من قِبل الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ومطالبة البرلمان العراقي بسحب القوات الأميركية. فقد احتل نفوذ إيران المتزايد في العراق عبر الميليشيات الوكيلة لها، ووضعية القوات الأميركية هناك، أولوية الاهتمام الأميركي، بينما جاء الدعم الاقتصادي والاستثمارات الأميركية على رأس سلم الأولويات العراقية.
ومع ذلك، فإن واشنطن تنظر بتفاؤل إلى تولي رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة الشهر الماضي، باعتباره فصلاً جديداً في العلاقات العراقية الأميركية بعد خروج عادل عبد المهدي من الحكم، الذي توترت العلاقات في عهده كثيراً مع الولايات المتحدة، في وقت تواصل بعض الأحزاب، وبخاصة كتلة "الفتح" المدعومة من إيران، الدعوة إلى انسحاب كامل للقوات الأميركية في مسعى إلى تقليص النفوذ الأميركي في البلاد.
شكوك حول المستقبل
المرحلة الأولى من الحوار الذي يستند إلى اتفاقية الإطار الإستراتيجي لعام 2008 حددت الفحوى العامة لما سيأتي من مفاوضات حول جدول الأعمال للجلسة الثانية المقرر انعقادها في يوليو (تموز) المقبل في العاصمة واشنطن بحسب البيان المشترك الصادر عن الحكومتين، إلا أن استمرار المفاوضات أشهراً عدة قد يجعلها عملية تحيطها بعض الشكوك بسبب قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر(تشرين الثاني)، التي تتزامن مع التحضير لانتخابات جديدة في العراق يعمل رئيس الوزراء الجديد على ترتيبها مع القوى السياسية الفاعلة في البلاد.
وعلى الرغم مما نص عليه البيان الختامي للجلسة الأولى بأن الولايات المتحدة ستواصل خلال الأشهر المقبلة تقليص عدد القوات الموجودة في العراق والحوار مع الحكومة العراقية حول وضع القوات المتبقية، وعدم سعي واشنطن إلى إقامة قواعد دائمة أو وجود عسكري دائم في العراق، إلا أن ديفيد شنكر، مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، أوضح عقب الجلسة أن الجدول الزمني لانسحاب القوات الأميركية لم يُناقَش أو يُطرح للتفاوض، ما يعني أنه من المبكر جداً حسم هذه النقطة في الجلسة الأولى، خصوصاً أن هناك شبه توافق مُسبق بين البيت الأبيض والبنتاغون على خفض عدد القوات الأميركية من 5200 جندي حالياً، إلى نصف هذا العدد بحسب ما أشارت صحيفة "نيويورك تايمز".
نصف انتصار
وإذا حدث بالفعل وتوافق الوفدان المفاوضان في النهاية على خفض عدد القوات الأميركية، فسيسمح ذلك لكل من الطرفين الزعم بأنه حقق على الأقل نصف انتصار في مفاوضات صعبة. فمن ناحية، يستطيع الوفد العراقي تسويق فكرة نجاحه في الضغط على الولايات المتحدة لتلبية قرار التوصية الصادر من البرلمان العراقي بضرورة خروج القوات الأميركية من العراق، وأن تخفيض عدد القوات الأميركية ليس إلا خطوة مهمة في طريق طويل ينتهي بانسحاب كامل لهذه القوات. كما يستطيع إقناع الشعب بأن بقاء 2500 جندي من شأنه أن يساعد العراق على مواجهة تنظيم "داعش"، الذي تزايد نشاطه الإرهابي مؤخراً في المناطق الريفية، وأنه من دون القدرات الأميركية المتمثلة في الدعم الجوي وعمليات الاستطلاع وتدريب القوات العراقية، قد تعجز حكومة بغداد عن تحقيق نصر حاسم يُنهي تهديدات فلول وبقايا "داعش".
وسيكون من الممكن لقطاع واسع من السياسيين العراقيين والقوى الحزبية في البرلمان، تفهُم أن استمرار وجود القوات الأميركية مع تعهدها بعدم السعي إلى إنشاء قواعد دائمة فوق التراب العراقي، لن يكون فقط مفيداً من الناحية الأمنية فقط، بل أيضاً من الناحية الاقتصادية، حيث أن التخلي عن الدعم الاقتصادي الأميركي سيكون بمثابة كارثة محققة. وهو ما عبر عنه بوضوح عبد الكريم هاشم، وكيل وزارة الخارجية ورئيس الوفد العراقي، حين تحدث عن مخاوف بلاده الاقتصادية خلال الجلسة الأولى، في وقت وصلت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها التاريخية، ما جعل الدولة التي تعتمد في 90 في المئة من ميزانيتها على عائدات النفط الخام، تكافح من أجل دفع رواتب الموظفين والأجور العامة.
حماية القوات الأميركية
أما بالنسبة إلى الجانب الأميركي، فسيتيح ذلك للرئيس دونالد ترمب القول في جولاته الانتخابية أنه يفي بتعهداته التي قطعها على نفسه في انتخابات 2016 بالعمل على إعادة القوات الأميركية من الشرق الأوسط حيث أنفقت الولايات المتحدة 6 تريليونات من الدولارات في حروب لا تنتهي من أفغانستان إلى العراق وسوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مقابل خفض عديد القوات الأميركية على المدى البعيد، تعهدت الحكومة العراقية في البيان المشترك، بالتزامها حماية القوات العسكرية للتحالف الدولي الذي تشكل القوات الأميركية غالبيتها، وذلك في إطار الترتيبات المعنية حول وجود تلك القوات، وبالشكل الذي سيتم الاتفاق عليه بين البلدين.
ويخشى بعض العراقيين من أن الولايات المتحدة قد تستخدم الجلسات المقبلة من الحوار وسيلة لمغادرة رشيقة للقوات الأميركية ولانفصال سياسي محتمل بعد ذلك. لكن محللين سياسيين في واشنطن يرون أن النهج الضاغط من أجل تلبية المطالب الأميركية، والتهديد بخفض مستوى العلاقات إذا لم تلبَّ هذه المطالب، سيكونان محفوفن بالمخاطر، لأن إيران وشركاءها العراقيين سيعملون على ضمان فك الارتباط مع الولايات المتحدة.
ميليشيات إيران
وبينما يقول الجانب الأميركي إن الحكومة العراقية تعهدت بالسيطرة على البلاد وتوحيد الأجهزة الأمنية، بعد ضغط من ديفيد هيل وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية الذي ترأس الوفد الأميركي بهدف معالجة المخاوف الأمنية من الميليشيات المسلحة في العراق، فإن البيان الختامي خلا من أي إشارة ولو تلميحاً إلى ما تعتزم الحكومة العراقية القيام به في هذا الصدد. وهو ما يثير أسئلة عديدة حول قدرة حكومة الكاظمي على لجم الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، بخاصة في وقت الأزمات والتوترات.
قلق المسؤولين الأميركيين حيال الميليشيات العراقية الوكيلة لإيران، لم يخفه شنكر حين قال إن المجموعات المدعومة من إيران تعمل ضدنا عبر تأجيج الطائفية والتطرف والإرهاب، مؤكداً أن النقاشات مع الجانب العراقي تطرقت إلى هذه المسألة من دون أن يتحدث عن الخطوات التي يمكن الحكومة القيام بها، باستثناء تعهدها بحماية القوات الأميركية.
الصبر الإستراتيجي
وفيما كشف مسؤولون عراقيون للجانب الأميركي صعوبة تعقب ومحاسبة الميليشيات المدعومة من إيران، على الأقل في الوقت الراهن، يرى مراقبون أن دور إيران ونفوذها في العراق يجب أن يكونا أحد مكونات الحوار الإستراتيجي في المرحلة المقبلة وليس الدافع الوحيد المحرك لها، حيث لا يمكن العراق أن يختار بين إيران أو الولايات المتحدة، لأن تكلفة ذلك ستكون باهظة في الحالتين.
وينصح تقرير صادر عن معهد الولايات المتحدة للسلام بمزيد من الاستثمار الأميركي في تعزيز وتحسين الدولة العراقية، من أجل جسر هوة العلاقة بين الشعب والدولة، واستمرار الانخراط في مشاريع خارج المصالح الأمنية، مما يساعد العراق على تقليل نفوذ إيران تدريجاً، الأمر الذي يتطلب صبراً إستراتيجياً واهتماماً مستمراً من واشنطن.
الدعم الاقتصادي
ربما يكون أهم شيء بالنسبة إلى الغالبية العظمى من العراقيين هو كيف يمكن الولايات المتحدة مساعدة العراق في هذه الفترة الصعبة للغاية، ولهذا كان تركيز الوفد العراقي على هذا الجانب خلال المحادثات. وهو ما عكسه القسط الأوفر من صدارة البيان الختامي المشترك، حين أكد مساندة الولايات المتحدة العراق في تعزيز الدعم المقدم من المؤسسات المالية الدولية ومناقشة استثمارات الشركات الأميركية العالمية في قطاع الطاقة وتزويد العراق بالمستشارين الاقتصاديين لدعم جهود الإصلاح من قبل الحكومة العراقية. كما قال شينكر إن الولايات المتحدة ستدعم الحكومة الجديدة في بغداد من خلال المؤسسات المالية الدولية للمساعدة في مواجهة التحديات الموازية لتفشي وباء كورونا وتراجع عائدات مبيعات النفط.
ويمثل الدعم الاقتصادي أهمية كبرى لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي يسابق الزمن من أجل تحقيق شيء ملموس للشعب العراقي.
الحكومة فقط لا تكفي
ولكي ينجح الحوار الإستراتيجي مع العراق، ينبغي توسيع دائرة تعميق العلاقات بين البلدين، حيث تُظهر تجربة الولايات المتحدة في العراق بعد عام 2003 أن التعامل مع رئيس الوزراء أو السلطة التنفيذية، مهما كانت أهميته، ليس كافياً، فهناك جهات فاعلة رئيسة تستطيع واشنطن أن تتشارك معها لتعزيز العلاقات مثل مجلس النواب العراقي، ومجلس القضاء الأعلى، والسلطة القضائية بشكل عام، وحكومة وبرلمان إقليم كردستان، ووسائل الإعلام العراقية ومنظمات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص.
وقد شهدت العلاقات الأميركية بعض الانتكاسات مع العرب السنة قبل وبعد الصراع العسكري مع "داعش" والأكراد حول الاستفتاء على الاستقلال، لكن العلاقات تحسنت منذ ذلك الحين. ففي وقت سابق من هذا العام، أظهر كل من السنة والأكراد أنهم حتى تحت الضغوط الكبيرة من إيران وحلفائها العراقيين، لم يكونوا على استعداد لدعم حتى قرار يطلب من القوات الأجنبية مغادرة العراق. فهم يقدرون دور الولايات المتحدة كما يفعل المسيحيون والإيزيديون والعديد من أبناء وقيادات المجتمع الشيعي.
وحتى تنجح الولايات المتحدة في الحوار، فإنها تحتاج إلى الانخراط على نطاق أوسع في العراق، مثلما يفعل خصومها، حيث ينخرط الإيرانيون على مستويات مختلفة، ويقوم المسؤولون الصينيون بتوصيل الأقنعة بشكل شخصي على المستوى المحلي. وبالمثل، سيحتاج العراقيون إلى ضمان أن تستند الحوارات إلى مجموعة واسعة من الآراء والمصالح التي تمثل تنوع العراق، وليس فقط النخب التي قد تكون تحت تأثير إيران.