عندما يستجير الدكتاتور بالروائي.. “كلاب حراسة” القذافي في رواية “بلاد القائد”
ما زال الكاتب اليمني علي المقري يتوغل في مشروعه الروائي بالبحث عن مواضيع مسكوت عنها في واقعنا العربي أو ملحة بسبب تحولها إلى ظواهر تهدد الحريات والسلم والإنسانية بشكل عام، من تناول لقضايا الأقليات الدينية والعرقية إلى الإرهاب والجنس؛ وهو ما رصدناه في روايات “طعم أسود” و”رائحة سوداء” و”اليهودي الحالي” و”حرمة” و”بخور عدني”.
وبعد اضطراره الإقامة بباريس بسبب الحرب في اليمن وتوفر تلك المسافة بين المعيش اليومي والكاتب تتسع نظرته للقضايا التي يطرحها لتظهر له رواية جديدة “بلاد القائد” عن منشورات المتوسط بميلانو، ترجمت منذ أيام إلى الفرنسية، وتقارب مواضيع إشكالية متعلقة بالجدلية المزمنة بين السلطة والمعرفة، ولكن هذه المرة من خلال شخصيتي الروائي والدكتاتور.
الدكتاتور يستجير بالروائي
لا يمكن لسلطة أن تستمر في التأثير إلا من خلال سردية ترويها للناس لكي يعتنقوها، وإن كانت السرديات السلطوية في العالم الديمقراطي مرتبطة أساسا بالمشاريع التي تعد بها الأنظمة شعوبها، فإن السردية في الأنظمة الدكتاتورية مرتبطة بالحاكم نفسه، كيف يمكن للحاكم أن يقدم نفسه كشخصية خارقة واستثنائية مما يرشحها وحدها للحكم وليس مهما طبيعة الحكم نفسه، فالمخيال الشعبي تربى على الحاكم الخارق وصاحب الكرامات والقوي. من هنا جاء التفكير في الاستعانة بروائي لكتابة سيرة القائد.
دعي الروائي “علي” إلى بلاد القائد في مهمة سرية تتمثل في كتابة سيرة القائد مع لجنة مختصة في التاريخ وفي السرد لكي تساعده في تحرير تلك السيرة الجديدة. وقبل الروائي بعد أن فشل في انتظار جائزة أدبية تنقذه من الفقر وزاد وضعه تأزما بعد إصابة زوجته بمرض السرطان. فرأى أن هذا العرض هو حبل النجاة الأخير من وضعه المادي المتدهور، وهكذا يسافر علي إلى بلاد القائد ويروي لنا قصته الكاملة في بلاد دكتاتور شرقي “لا يؤمن بالصداقة ولا يحب إلا نفسه” كما روى له مستشاره الذي استقبله.
يقع “علي” تحت شتى أنواع الابتزاز المعرفي والجسدي إذ يكتشف أنه دعي لهذه المهمة بترشيح من ابنة القائد التي تعرض عليه الزواج منها لترضي حاجاتها الجنسية. فلم يكن الروائي سوى “فانتازم” للسلطة. سلطة الدكتاتور الذي يبحث عن سيرة مذهلة تزيد من سلطته وسلطة شيماء، ابنة القائد الضجرة كما وصفها الراوي .
عراسوبيا العظمى أو بلاد القائد
يصف لنا الروائي الذي نزل ببلاد القائد هذه البلاد كأرض كابوسية يتجند الجميع فيها لتلبية نزوات الحاكم وتمجيده، وهي بلاد مراقب شعبها في كل مكان بفضل “شمس الخلود الصناعية” أو النجم الكاشف، ينقل الراوي ما وصله عنه “يومض ضوؤه في الليل. يكشف كل ما يعلمه الناس، كل شيء، حتى إذا كنت في الحمام أو في غرفة نومك مع زوجتك، يكشف الخبايا كلها، بما في ذلك خبايا النفس، تفكير الشخص وأحلامه. له قدرة خارقة في اكتشاف الأشياء قبل حدوثها، وسماع دبيب النمل”.
بدت البلاد كما لو كانت “بلاد الأخ الأكبر” في رواية 1984 لجورج أورويل حيث الجميع تحت الرقابة، أو رواية “نحن” ليفغيني زامياتين حيث الفرد لا قيمة له ولا معنى إلا بصفته رقما في جيوش الحاكم المستبد.
كل التلميحات تقود القارئ إلى شخصية معمر القذافي من قصره الذي كان على شكل خيمة إلى حراسه من النساء السمراوات والأفارقة، وارتباط مشروعه الكبير شمس الخلود العظمى ومن تسميته بالإمبراطور وملك ملوك أفريقيا وأبنائه والقضايا التي ارتبطت بهم في العالم، وحتى العنوان الذي اقترحه للسيرة يلمح بوضوح إلى معمر القذافي “العقد الفرد في سيرة الملهم الأحد معمر الدين والدنيا وسائس الناس”.
لكن علي المقري جعل من كل هذا المرجعي والشخصيات الحقيقية عجينة لتخييل الممكن في ظل تلك البلاد العجيبة التي أمضت عقودا تحت قيادة شخص يعاني من جنون العظمة وصلت به النرجسية لقلب كل القيم والمواثيق والتقاليد والأعراف الدبلوماسية والإنسانية، وصار يمول جيوشا منشقة في أوروبا ويجند مرتزقة بدل الجيش للسيطرة على شعبه وقيادته في أجواء جحيمية وراء حدود بلد يختفي فيه ضيوفه السياسيين فجأة عبر الاختطاف.
الرواية جاءت في شكل نوفيلا (سرد قصير محكم البناء، واقعي أو تهكمي النبرة في الغالب) لم يتجاوز عدد صفحاتها 126 صفحة كما لو كانت كابوسا ثقيلا عاشه الكاتب.
خيانة المثقفين أو كلاب الحراسة الجدد
يتخذ علي المقري من فكرة خيانة المثقفين تيمة لعمله وكأنه يستدعي كتاب “كلاب الحراسة” 1932 للمفكر الفرنسي بول نيزان الذي وصف فيه الفلاسفة والكتاب وعلماء الاجتماع بالكلاب التي تحرس الأنظمة الدكتاتورية بتبرير أفعالها تحت غطاء التحليل الحيادي، فلا يهتمون بالطبقات المسحوقة.
ذلك الكتاب الذي تولد عنه كتاب آخر سنة 1997 لسيرج حليمي، مدير تحرير صحيفة لوموند ديبلوماتيك، بعنوان “كلاب الحراسة الجدد” وحول التهمة التي وجهها بول نيزان من الفلاسفة إلى “الإعلاميين والمحللين والخبراء” الذين يبيعون ذممهم لحماية الأنظمة الشمولية عبر الدعاية لها وتبرير أفعالها وقبول الاستكتاب والترويج لخطابها.
يقدم علي المقري نماذج كثيرة لهؤلاء الأشخاص الذين تحدث عنهم سيرج حليمي كالصحفي “العكش” الذي أجاز للدكتاتور أن يقرن اسمه بعبارة صلى الله عليه وسلم والتي لا تقال إلا للرسول محمد صلى الله عليم وسلم. حتى أن الدكتاتور نفسه رفضها في البداية وأمر بإعدام مطلقه لولا تبريرات تلك النخبة المحيطة به التي أكدت له أنه جدير بها واجترحت الفتاوى التي تجيزها فقبلها.
وهكذا تتسع دائرة المنافقين من النخبة المثقفة حول الدكتاتور لتصنعه وترسم تفاصيل وجهه الفظيع الذي يأخذ شيئا فشيئا هيئة الغريب والكائن العجائبي في تفكيره وسلوكه وهيئته.
أما شخصية “علي” الروائي فهي من الهشاشة بمكان حتى أنها كانت تبحث عن طرق الثراء بشتى الأساليب، فقد كان يلاحق جائزة شهرزاد التي ستجعله في مأمن من الفقر، وعندما يئس منها بسبب الفساد الذي ضرب مؤسسة الجائزة والمشهد الأدبي قبل أول عرض من سلطة دكتاتورية ليضع قلمه في خدمتها فقط “ليركل الفقر” كما يردد دائما.
يكشف علي المقري عن هشاشة شخصية المثقف العربي المعاصر الذي تسهل غوايته وتجنيده، وأن سلطة المعرفة لا يمكن أن تصمد في وجه سلطة المال بما في ذلك الأقلام التي تقدم نفسها أنها أقلام حرة ومتحررة ومعارضة أحيانا للسلطة في بلدها.
وهنا يطرح علي المقري موضوعا خطيرا، هل المثقف المعارض الشرقي يعارض لأنه يؤمن بالعدالة وبالحرية أم أنه يعارض لأنه مستبعد من الغنائم التي تقدمها السلطة الجائرة لغيره من المثقفين المقربين؟ وإذا كان فعلا يؤمن بأفكاره التي يروجها فلماذا يقبل دعوة من دكتاتور آخر أشد شراسة من دكتاتور بلاده؟
فعلي الروائي كان يدعي أنه استبعد من الحصول على الجائزة بسبب قلمه الحر وأفكاره الحرة، فإذا به يقبل أن يكتب سيرة أفظع حاكم في المنطقة مقابل المال ويساهم في صناعة دعاية لأكثر الأنظمة شمولية في العالم.
ولمح علي المقري بقصة مرض زوجة الكاتب بالسرطان إلى تلك التبريرات الساذجة التي يبرر بها المثقف العربي منذ الجاهلية ارتماءه في حضن السلطة، فهذه الزوجة التي يريد إنقاذ حياتها هي نفسها الزوجة التي يخونها ومستعد أن يقبل بأي شكل من أشكال الزواج التي عرضته عليه ابنة القائد الضجرة.
التخييل الذاتي
يمثل الشكل الأدبي الذي اختاره علي المقري لمقاربة العلاقة بين السلطة والمعرفة شكلا جريئا، إذ اعتمد ما يعرف بالتخييل الذاتي حيث تتقاطع السير الذاتية والتخييل ولا نكاد نفهم الحقيقي من التخييلي في العمل الأدبي، فتسرد الأحداث بضمير المتكلم ويطلق على اسم الراوي اسم “علي” الذي يتطابق مع اسم المؤلف ويعطيه صفة الروائي، وهو تطابق آخر بين علي الراوي وعلي الكاتب وأحداث أخرى متعلقة بمشاركات في جوائز يصل فيها إلى القوائم الطويلة والقصيرة قبل أن يُصفى ويفوز بها كتاب آخرون.
إن هذا اللعب بالسيرة داخل العمل الروائي تقليد عالمي سبق أن اعتمده بعض الروائيين العرب المعاصرين في ما عرف بتيار ما بعد الحداثة الذي يذهب إلى توظيف كل شيء من أجل الإيهام بالواقعية، في عناية بأسئلة الفرد داخل المشروع السردي.
وهذا النص الذي يضحي بسمعة الروائي من الروائي نفسه هو واحد من أشكال هذا التعامل الجديد في الأدب المتحرر حتى من فكرة أسطرة صورة الكاتب، فالكاتب نفسه فرد ويرتكب الأخطاء التي يرتكبها أي فرد آخر ولا يحول انتسابه إلى النخبة دون ارتكاب أفظع الفظائع أو كما سماها الراوي بالفضيحة عندما قال “شعرت في الأيام الأولى لمجيئي أن ما أعمله فضيحة في حياتي الأدبية والشخصية، وازداد هذا الشعور وأنا أتخيل تصريحات للناقد (شخصية في الرواية) عن عملي مع دكتاتور وبيع مواهبي الأدبية له، تلك المواهب التي قال من قبل إنني قد سخرتها للإشادة بالاستعمار. رأيت نفسي بمثابة الفضيحة، فضيحة ممنوعة من الخروج إلا بموافقة القائد أو أولاده”.
كما تخدم الرواية بأسلوبها هذا فكرة النقد الذاتي التي يريد علي المقري أن يقاربها، وهي أن الشعوب هي من تخلق حكامها والناس في بلاد القائد تحبه ببطشه، حتى أن الكاتب يرى أنهم لا حاجة له لنجم كاشف فالكل في خدمة القائد.
يقول “يتحدثون عن النجم الكاشف، ثم يتناسونه أو ينسونه، حين يصبح كل واحد منهم بمثابة نجم كاشف على الآخر، يتجسس عليه، ويشي به إلى أجهزة الأمن”. مما يذكرنا بالعقيدة التي أطلقها هتلر في ألمانيا النازية حين حول الوشاية إلى عمل وطني وعمل فدائي.
تعزز هذه الرواية، التي ترجمت مؤخرا إلى الفرنسية عن دار ليان ليفي، ما يعرف برواية الدكتاتور، تلك الرواية التي سردت شخصية الدكتاتور مع الأديب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز في “خريف البطريك” و”ليس للكولونيل من يراسله”، ورواية “حفلة التيس” لأديب نوبل البيروفي ماريو فارغاس يوسا، و”كرسي الرئاسة” للمكسيكي كارلوس فونتس، ورواية “بوروندون العظيم-بورندا قد مات” لخورخي ثالاميا.
ولكن رواية علي المقري أيضا تعارض روايات أخرى تناولت الشخصية نفسها تقريبا كرواية ياسمينة خضرا “ليلة الريس الأخيرة” التي تبدو قريبة إلى تلميع صورة الدكتاتور وتطهيره، وهي ليست بعيدة عن العين التي كتب بها الصحفي التونسي الصافي سعيد سيرة القذافي مدافعا عنه، ليبقى السؤال مطروحا على الطغاة هل يمكن الثقة في رجال الخيال ونسائه؟ هل يمكن أن نطمئن للروائيين؟
ويبقى السؤال مفتوحا من جهة الأخرى، هل المثقف الذي يصدح بأفكار الحرية ونبذ العنف والدكتاتورية قادر على الصمود في وجه سلطة المال وشمس الخلود العظمى؟ كم عندنا من دوستويفسكي قادر على الوقوف بكل ثقة وبلا رجفة أمام حبل المشنقة؟