الإمام جعفر الصادق.. عارض ثورات الهاشميين وتمسك بحلم التغيير وأدان فقهاء السلطان
لا يفضَّل أخذُ مسافة من الظاهرة موضوع الكتابة هذه المرة؛ فهذا المقال عن الإمام التابعي شيخ بني هاشم أبي عبد الله جعفر الصادق (ت 148هـ)، والكتابة عن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من المهم أن تمزج الاقتراب بالاستقامة العلمية، وهو ما سنحاول التزامه في التعريف بهذا الإمام الذي سندخل عليه من أبواب متعددة: باب العترة، فهو من الوسط المنتقَى من السلالة النبوية المباركة؛ وباب العلم، فهو إحدى ركائز الاندفاعة العلمية الكبرى في تاريخ المسلمين؛ وباب الإصلاح، فهو من مؤسسي تيار الرشد في التعامل بين السلطة والمجتمع؛ وباب التزكية النفسية، فهو من رموز التربية والتعبد والتبتل.
ثم إن هذا المقال يحاول أن يقدم رؤية سياقية لفهم شخصية هذا الإمام العَـلَم، بمعنى أنه يحاول أن يرده إلى عصره ومصره وما كان يجري فيهما من أحداث تتدافع موّلِّدة مواقف تتبلور وتسود، فيظهر فيها هذا الإمام جزءا من التيار الرئيس العام لجمهرة أئمة الأمة، وإن كان في الطليعة والقلب من تلك الجمهرة؛ فهو -رضي الله عنه- كان يتنفس هواء زمانه (عصر التابعين) ويعكس شخصية مكانه (المدينة النبوية)، وإذا كان له من خصوصية أو انفراد فهو تفرد الممثل لعصره المنتمي إليه والمؤثر فيه.
وما يهمنا هو الوصول إلى استيعاب منطق الإمام وطريقة تفكيره وتعرُّف مفاتيح شخصيته؛ لأننا نزعم أن تلك هي أعز خبرة يمكن أن نحصل عليها بعد قراءة أسطر هذه المقالة التي تسعى للتعريف بالإمام جعفر الصادق، ورسم معالم البيئة العامّة التي نشأ فيها، وأبرز تأثيراته في الحياة العلمية وأشهر مواقفه في الأحداث السياسية.
منبت طيب
نشأ جعفر الصادق في بيت علمٍ وحكمة، فأبوه هو محمد (المعروف بـ‘الباقر‘) بن علي زين العابدين (ت 114هـ) بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) الصحابيّ الجليل ورابع الخلفاء الراشدين. ولم يشهد عليّ زين العابدين (ت 95هـ) معركة كربلاء مع والده الحسين (ت 61هـ) “شهيد كربلاء” بعبارة الإمام الذهبيّ (ت 748هـ)، ثم إنه اعتزل السياسة بعدها وعكف على العبادة والعلم، حتى سُمّي “السجّاد” لكثرة سجوده.
كان لزين العابدين مقبولية بين المؤمنين وذيوع صيت بسبب علمه وفضله، كما تدل عليه القصة التي حكاها ابن الجوزي الحنبليّ (ت 597هـ) في ‘المنتظم‘، فقال: “حج هشام بن عبد الملك (ت 125هـ) ولم يَلِ الخلافةَ بعدُ، فطاف بالبيت فجهد أن يصل إلى الحجر فيستلمه فلم يقدر عليه، فنُصب له منبر وجلس عليه ينظر إلى الناس، فأقبل علي بن الحسين فطاف بالبيت، فلما بلغ إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلمه، فقال رجل من أهل الشام: مَن هذا الذي قد هابه الناس هذه الهيبة؟! فقال هشام: لا أعرفه! مخافة أن يرغب فيه أهل الشام، وكان الفرزدق (ت 114هـ) حاضرا، فقال الفرزدق: ولكني أعرفه، فقال الشامي: مَن هذا يا أبا فراس؟، فقال:
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه ** والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابن خير عباد الله كلهم ** هذا التقي النقي الطاهر العَلَمُ
وليس قولُك: مَن هذا؟ بضائره ** العُرْبُ تعرف مَن أنكرتَ والعجم”.
ورغم مكانته السامية مجتمعيا وعلميا؛ فإن الإمام زين العابدين عُرف بالتواضع وخفض الجناح لعامة الناس، فالذهبي يروي -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن جعفر الصادق أن جده زين العابدين “كان إذا سار على بغلته في سِكَكِ (= طُرُق) المدينة لم يقل لأحد: [خلِّ] الطريق، وكان يقول: الطريقُ مشترك، ليس لي أن أنحي عنه أحدا”. وقد مات علي زين العابدين وحفيده جعفر الصادق في الرابعة عشرة من عمره، ومن ثم فالأرجح أنّه تلقّى منه علما في هذه السنّ.
وجعفر الصادق غصنٌ من دوحة النبوة المباركة نبت نباتا حسنا في حديقة الصدّيق أبي بكر (ت 13هـ) العطرة؛ فقد تزوج أبوه محمد الباقر بأمِّ فَرْوَةَ بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (توفي القاسم 107هـ) فوُلد له منها جعفر الصادق؛ كما يخبرنا ابن الجوزي في ‘المنتظم‘. فجدُّ الصادق لأمّه هو القاسم بن محمد بن أبي بكر المعدود ضمن “فقهاء المدينة السبعة” الذين كان عليهم مدار العلم والفتوى فيها، وقد توفي القاسم وجعفر في الثامنة والعشرين من عمره، فلا شكّ أنه تتلمذ عليه.
جمع الصادق إذن بين شرف النسب المصفّى من جهة الأب حفيد علي، والنسب المعتَّق من جانب الأمّ سليلة “عتيق” (أبو بكر الصديق). وعن هذا اللقاء الميمون يقول الشهرستاني (ت 548هـ) في ‘الملل والنحل‘ إن جعفر الصادق: “من جانب الأب ينتسب إلى الشجرة النبوية، ومن جانب الأم ينتسب إلى أبي بكر الصديق… وقد تبرأ عما كان ينسبـ[ـه] إليه بعض الغلاة وبرئ منهم”. وخاله هو عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت 126هـ)، وهو أيضا -كما يصفه الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘- من أكابر فقهاء المدينة.
معدن إمامة
كان جعفر مَعْقِدَ اللقاء بين تلك الأنساب الطاهرة، فانتمى إلى أول رجلين آمنا برسالة جدّه النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم: أبو بكر الصديق، وعليّ بن أبي طالب. وقد أحسن الذهبي -في ‘سير أعلام النبلاء‘- عندما عبّر عن لقاء الأنساب المباركة هذا بأصفى العبارات وأصدقها؛ فقال في جعفر إنه: “ابن الشهيد أبي عبد الله ريحانةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- وسبطِه ومحبوبِه الحسين بن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب…، الإمامُ الصادق شيخُ بني هاشم، أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي النبوي المدني، أحدُ الأعلام. وأمُّه: هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر التيمي، وأمها: هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر؛ ولهذا كان [جعفر الصادق] يقول: ولدني أبو بكر الصديق مرتين”!!
أما أبوه فهو محمد الباقر، وقد ترجم له الإمام ابن كثير (ت 774هـ) -في ‘البداية والنهاية‘- قائلا: “تابعي جليل القدر، كثير العلم، أحد أعلام هذه الأمة علما وعملا وعبادة ونسبا وشرفا…، وسُمِّي الباقرَ لِـبَقْرِهِ العلومَ واستنباطِه الحِكَمَ”. وقد روى عن غير واحد من الصحابة، وحدّث عنه جماعة من كبار التابعين وغيرهم، وروى الإمام سفيان بن عيينة (ت 198هـ) عن شيخه جعفر الصادق قوله في والده الباقر: “حدثني أبي وكان خير محمديٍّ على وجه الأرض”!
وقد حكم الذهبيّ للباقر بأنه كان أهلا لتولي منصب الخلافة، وهو حكم له دلالته من إمام سلفي ومحدِّث كبير خبير بالرجال جرحا وتعديلا مثل الذهبي؛ فقال في ‘تاريخ الإسلام‘: “وكان أحدَ مَن جمع العلم والفقه، والشرف والديانة، والثقة والسُّؤْدُدَ، وكان يَصْلُح للخلافة”. وقد مات الباقر وابنه جعفر في الرابعة والثلاثين من عمره، بعد أن أخذ عنه الفقه والرواية وبات أحد العلماء الكبار في وقته.
أما عمّ جعفرٍ زيدُ بن عليّ زين العابدين (ت 122هـ) فقد كان رفيقا له وقريبا منه في السنّ، وتتلمذ مثله على أخيه الباقر بعد وفاة والدهما زين العابدين. فالبيتُ بيتُ علم وحكمة، ومن ثمّ كان من البدهيّ أن يكون جعفرٌ من أئمة التابعين والعلماء الراسخين، بعد أن بلغ مبلغاً كبيراً من العلم والورع، حتى قال الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن أهليته للخلافة مثلما قاله عن أبيه الباقر: “مناقبُ جعفر كثيرة، وكان يصلح للخلافة لسؤدده وفضله وعلمه وشرفه، رضي الله عنه”.
منزع جديد
لم ينفرد الإمام جعفر -تجاه ما كان يسود عصره من تجاذبات سياسية شهدتها نهايات الدولة الأموية وصدر الدول العباسية- بموقف سياسي مختلف عن الخيار السياسي الذي كان سائدا حينها عند القطاع الأكبر من العلماء، وتمثله تلك المدرسة التي أخذت لنفسها مسافة عن الصدام المسلح غير المحسوب مع السلطة الذي تبنته فرق ثورية قررت الاشتباك مع سلطة الأمر الواقع، وسعت للتغيير الجذريّ مهما اختلفت القدرات واختلّت موازين القوى بينها وبين السلطة. وهكذا لم يخرج الصادق في موقفه السياسيّ عن المنهج العام لمعظم أهل المدينة المعاصرين له، فرفض الثورة وآثر العكوف على التعليم لبناء مدرسة علمية قويمة.
وحتى نفهم أسس مدرسة الروية السياسية التي اتسم بها هذا التيار السني العريض الذي انتمى إليه جعفر؛ فإننا نمد الوصل قليلا بمشهد الصدمة بعد استشهاد الحسين بن عليّ (ت 61هـ) في واقعة كربلاء الشهيرة، والتي أُصيب المسلمون جرّاءها بحزنٍ شديد خيّم على حواضر الإسلام الكبرى حينئذ (مكة والمدينة والكوفة والبصرة)، وأججت -مع عوامل أخرى- نار الثورة على حكم الأمويين، فحاول أهلُ المدينة -وجلّهم من الصحابة وأبنائهم- خلع يزيد بن معاوية (ت 64هـ) سنة 63هـ، فأجهِضت ثورتهم في واقعة الحَرّة بما سببته من دماء وانتهاك لحرمة المدينة النبوية.
ثم في سنة 64هـ كانت حركة “جيش التوابين” بالعراق التي تزعمها الصحابي الجليل سليمان بن صُرْد الخزاعيّ (ت 65هـ)، وكان أحد مطالبها الرئيسية القصاص لدم الحسين بن عليّ؛ ثم جاء الصدام بين الأمويين والصحابي الكبير عبد الله بن الزبير الذي انتهى باستشهاده سنة 73هـ بعد حصار الجيش الأموي بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ) للكعبة وضربها بالمنجنيق، ثم اندلعت في سنة 81هـ “ثورة الفقهاء” الذين أعطوا قيادتهم للقائد العسكري الأموي عبد الرحمن بن الأشعث الكندي (ت 84هـ)، لكنهم تلقوا هزيمة حاسمة في معاركة دَيْر الجماجم سنة 83هـ. وهكذا أخفقت كل هذه الثورات في تحقيق أهدافها المعلنة في إعادة البيعة والشورى إلى الأُمة وأهل الحل والعقد.
ولذا فقد كان هذا القمع المتواصل والسحق المستمرّ لجميع المعارضين -منذ استشهاد الحسين- سببا في تبلور موقف علمائي عريض، أصبح ينظر للمسألة السياسية بحذر وريبة خشيةَ إراقة المزيد من الدماء، ولعله رأى كذلك في الدرس العلميّ -تحصيلا وتوصيلا- سبيلا إصلاحيا متدرجاً بديلا عن السياسة، خاصة إذا غلب الظن بحصول الضرر بسفك دماء المسلمين دون تحقيق تغيير يستوجب ذلك. كما أن هذه المدرسة التفّت حول فكرة مقاصدية كبرى هي “وحدة المسلمين”، وهي فكرة حَسَنية تحدث عنها النبي (ص) وتنبأ بأنْ سينالها المسلمون على يد سبطه الحسن بن علي (ت 49هـ)، وهو ما حصل فيما سُمي “عام الجماعة” سنة 41هـ.
إصلاح متدرج
والواقع أن هذه المدرسة -التي انتمى إليه عدد من علماء العترة النبوية- امتدّت وتأصلت حتى غلبت على الفكر الإسلامي طوال القرون اللاحقة. وطبعا هناك شعرة دقيقة بين الإذعان للطغيان والرشد في مواجهته؛ فالرشد منطلقه حفظ القِيَم والأصول العُليا ولُحْمة الصف، ثم مقاومة الظلم ببناء المجتمع الواعي القادر على تصفيته بأقل الأضرار، ومن ثمّ فلم يكن جعفر الصادق -كإمامٍ من أئمة المدينة النبوية- من أنصار الثورة المجازفة، وفي نفس الوقت لم يكن من المؤيدين للسلطة بالمطلق، بل أقبل على التدريس باعتباره سبيلا للتغيير السياسيّ الطويل الأمد. وقد شخّص الشهرستاني منهج جعفر هذا بمقولة دقيقة جامعة فقال: “وقد أقام [جعفر] بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه..، ثم دخل العراق وأقام بها مدة ما تعرض للإمامة قَطّ، ولا نازع أحدا في الخلافة قَطّ”.
كان موقف جعفر الرافض للثورات -كسبيل للتغيير السياسيّ- عامًّا وليس انتقائيا، حتى ولو كان دعاتها من داخل البيت الهاشمي الذي ينتمي إليه. ولذا فإنه رفض المشاركة في الثورة المجهضة التي قادها عمه زيد بن علي زين العابدين -الذي يُنسب إليه المذهب الزيدي الفقهي- في الكوفة سنة 122هـ ضدّ الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (ت 125هـ).
وكذلك عارض جعفر الصادق الانخراط في ثورة مجهضة مماثلة قام بها ابن عمه محمد بن عبد الله -الملقب بـ‘النفس الزكيّة‘- في المدينة على حكم المنصور العباسي (ت 158هـ) سنة 145هـ، وقد يكون من أسباب ذلك تحفظه على أهلية قائد الثورة المقدَّم للخلافة؛ فحين اجتمع بنو هاشم لعقد البيعة للنفس الزكية رفض الصادق حضور الاجتماع، وقال مخاطبا والد النفس الزكية حين جاءه يدعوه لحضور البيعة: “إنك شيخ، وإن شئتَ بايعتك، وأما ابنك فوالله لا أبايعه وأدعك”؛ كما يخبرنا أبو الفَرَج الأصفهاني (ت 356هـ) في ‘مقاتل الطالبيين‘.
ويقول الذهبيّ -في ‘تاريخ الإسلام‘- عن موقف جعفر من ثورة ‘النفس الزكية‘ إنه كان يثبّط عنها كلَّ مَن أراد الالتحاق بها من أهل بيته و”يقول له: هو والله مقتول”! وحين اندلعت أحداث الثورة “اختفى جعفر الصادق وذهب إلى مال له بالفُـرُع (= بلدة كانت تابعة للمدينة) معتزلا للفتنة”، مع أنه حينها كان “سيد العلويين في زمانه”؛ وفق تعبير الذهبي في كتابه ‘العلوّ للعلي الغفار‘. كما يأتي موقفه هذا مخالفا لـ”جماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم” شاركت في هذه الثورة؛ حسبما يقوله الطبري (ت 310هـ) في تاريخه.
“بقدر ما كان جعفر مناهضا للثورة المسلحة؛ كان كارها لمجرد الدخول على السلاطين حتى ولو لنصيحتهم. ويمكن القول إن مجانبة جعفر للسلطة نابع من الصدام المرير الذي وقع بين المسلمين، وقد أثر موقفه هذا في الاتجاه العام للأمة سنّةً وشيعةً بعد أن تبلور مساراهما المتمايزان بعد عصره بعقود”
وقد نقل الإمام الشافعيّ ما يشير إلى علاقة منهج جعفر الصادق -وهو أحد أئمة المدينة- بما كان يراه الصحابي الجليل عبد الله بن عمر (ت 73هـ)، الذي يعدّ المؤسس للمدرسة المدنية ذات المنزع السلمي في التعامل مع السلطة؛ فقد قال الشافعي في كتابه ‘الأم‘: “وقد صلى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- خلف من لا يحمدون فِعاله من السلطان وغيره. أخبرنا مسلم (بن خالد الزنجي المتوفى 180هـ) عن ابن جُرَيج (ت 151هـ) عن نافع (ت 117هـ) أن عبد الله بن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحَجّاج بمنى، فصلى مع الحَجّاج…، قال (= الشافعيّ): أخبرنا حاتم عن جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر] عن أبيه أن الحسن والحسين.. كانا يصليان خلف مروان (بن الحكم المتوفى 65هـ)، قال فقال: أما كانا يصليان إذا رجعا إلى منازلهما؟ فقال: لا والله، ما كانا يزيدان على صلاة الأئمة”.
وبقدر ما كان جعفر مناهضا للثورة المسلحة؛ كان كارها لمجرد الدخول على السلاطين حتى ولو لنصيحتهم. ويمكن القول إن مجانبة جعفر للسلطة نابع من الصدام المرير الذي وقع بين المسلمين، وقد أثر موقفه هذا في الاتجاه العام للأمة سنّةً وشيعةً بعد أن تبلور مساراهما المتمايزان بعد عصر جعفر الصادق بعقود، كما أن تعزيز جعفر لسلطة الفقهاء -في مقابل سلطة الحكام- ظل واضحا إلى عهد الإمام الجويني (ت 478هـ) الذي أعطى لهذا التوجه دفعا أكبر؛ فالذهبي يروي -في ‘السِّيَر‘- عن الإمام الصادق قوله: “الفقهاء أمناء الرُّسُل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتّهِموهم”.
ولذلك نجد أن أقران جعفر وتلامذته والمتأثرين بموقفه اتخذوا المنحى نفسه في العلاقة بالسلطة؛ فمعروف موقف الإمام أبي حنيفة (ت 150هـ) -وهو أحد تلامذة والده محمد الباقر- الرافض لتولي وظيفة القضاء للعباسيين أو أخذ أي من عطايا الدولة، ثم تعزز هذا الاتجاه أكثر حتى وجدنا الإمام الغزالي (ت 505هـ) ينتقد ارتياد علماء زمانه لقصور السلاطين، فيصف معظمهم -في ‘إحياء علوم الدين‘- قائلا: “أكَبّوا على علم الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصِّلات منهم، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم”.
حسم للغلو
لقد رأينا في مسيرة جعفر الصادق أنّه كان رجل علم وتزكية وإصلاح، وهو ما ساهم في جعله مرجعية علمية في عصره، كما يفسر محاربته للغلوّ والغلاة الذين اتهمهم بوضع الحديث عليه وعلى علماء وأئمة آل البيت عموما؛ فكان يقول مخاطبا تلامذته ومرتادي مجالس علمه: “لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافقَ الكتاب والسنّة”؛ كما يروي عنه العلامة الشيعي أبو القاسم الخوئي (ت 1992م) في ‘معجم رجال الحديث‘.
بل إن القاضي المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ) يقول -في تاريخه ‘العِبَر‘- إن بعض هؤلاء “الغلاة تجاوزوا حد العقل والإيمان في القول بألوهية هؤلاء الأئمة…، ولقد حرّق علي -رضي الله عنه- بالنار من ذهب فيه إلى ذلك منهم؛ وسخط محمد بن الحنفية (= محمد بن علي بن أبي طالب المتوفى 81هـ) المختار بن أبي عبيد (الثقفي المتوفى 67هـ) لما بلغه مثل ذلك عنه، فصرّح بلعنته والبراءة منه؛ وكذلك فعل جعفر الصادق -رضي الله تعالى عنه- بمن بلغه مثلُ هذا عنه”.
والواقع أن المصادر الشيعية نفسها طافحة بوصف العنت الذي ناله الإمام جعفر من الغلاة في آل البيت، وهنا نترك روايات أهل السنة ونذهب إلى المصادر المعتبرة عند الشيعة لتحدثنا عن الإرهاق الذي وجده الصادق من بعض أتباعه. فبسبب غضبه من الغلاة رُوي عنه -كما في كتاب ‘رجال الكَشِّي‘ للعلامة الكَشِّي الشيعي (ت 340هـ)- قوله: “إني والله ما وجدتُ أحداً يطيعني ويأخذ بقولي إلا رجلا واحداً رحمة الله عليه: عبد الله بن أبي يعفور (ت 131هـ)”.
وعبد الله بن أبي يعفور هذا كان رأس الاعتدال ضد الغلاة، وكانت مقولته المركزية حسب الكَشِّي: “إنّ الأئمة علماء أبرار أتقياء”. وهو يقصد بذلك أنّ أئمة آل البيت كانوا علماء في الدين وأتقياء زاهدين، لكنهم ليسوا معصومين. كما اشتبك جعفر مع فرقة ‘الخطّابية‘ التي تـُنسَب إلى أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي (ت 138هـ) وكانت تزعم أنّ أئمة آل البيت “أنبياء”، بل ذهب بعضهم -كما سبق ذكره- إلى أن الأئمة “آلهة”؛ فقال الصادق: “أبرأ إلى الله ممن قال إنّا أنبياء”؛ كما يرويه الكَشِّي الذي نجد الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) يكثر من النقل عنه في ‘لسان الميزان‘.
أدرك الإمام جعفر أيضا أن الغلاة سبب في تفريق الأمة الواحدة، بسبب كذبهم عليه ومهاجمتهم بعض الصحابة بزعم حبّهم لآل البيت، وهو ما استنفر طاقته في الردّ عليهم؛ فقد وردت روايات كثيرة تـُـظهر إجلال جعفر للصحابة كما كان يفعل والده محمد الباقر. فالإمام ابن الجوزي يروي -في ‘المنتظم‘- عن الإمام أبي حنيفة أنّه التقى الإمام الباقر فسأله له: “ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: رحم الله أبا بكر وعمر”
ولا يزال الإصلاحيون الشيعة -حتى اليوم- يستقون من تلك الروايات المعبرة عن المنهج المعتدل للإمام التابعي جعفر الصادق؛ فقد صنّف مثلا حجّةُ الإسلام محسن كديور كتابه ‘القراءة المنسية‘ لإعادة إحياء مقولات الأئمة وعلماء التشيع القدامى، التي تعزز الاعتدال في النظرة إلى الأئمة كعلماء أتقياء أبرار فقط. ونجد هذا النفسَ المعتدل عند عدد لا بأس به من مراجع الشيعة المعاصرين، مثل آية الله حسين منتظري (ت 2009م) والعلامة حسين فضل الله (ت 2010م) وآية الله يوسف صانعي.
وقد أدرك الإمام جعفر أيضا أن الغلاة سبب في تفريق الأمة الواحدة، بسبب كذبهم عليه ومهاجمتهم بعض الصحابة بزعم حبّهم لآل البيت، وهو ما استنفر طاقته في الردّ عليهم؛ فقد وردت روايات كثيرة تـُـظهر إجلال جعفر للصحابة كما كان يفعل والده محمد الباقر. فالإمام ابن الجوزي يروي -في ‘المنتظم‘- عن الإمام أبي حنيفة أنّه التقى الإمام الباقر فسأله له: “ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: رحم الله أبا بكر وعمر، فقلت (= أبو حنيفة): إنه يقال عندنا بالعراق إنك لتبرأ منهما، فقال: معاذ الله! كذب من قال هذا عني، أو ما علمتَ أن علي بن أبي طالب زوّج ابنتَه أمَّ كلثوم -التي من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم- عمرَ بن الخطاب، وجَدَّتُها خديجةُ وجدُّها رسولُ الله صلى الله عليه وآله سلم؟!”.
كما روى ابن الجوزي أن عروة بن عبد الله الكوفي -وهو “ثقة” كما قال الحافظ ابن حجر في ‘تقريب التهذيب‘- سأل شيخَه جعفر الصادق مرة عن حكم زخرفة السيوف؛ فقال: “لا بأس به، قد حلَّى أبو بكر الصدّيق سيفَه، قال [عروة]: قلتُ: وتقول الصديق؟! فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق؛ فمن لم يقل له الصديق فلا صدّق الله له قولا في الدنيا ولا في الآخرة”. وجاء في قول آخر لجعفر رواه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: “ما أرجو من شفاعة عليٍّ شيئا إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثلَه، لقد ولدني مرتين”!!
ومجمل القول هنا هو أنّ تلك الروايات تثبت أنّ جعفرا حمل همّ الإصلاح الديني والسياسيّ؛ أمّا الديني فبإبعاده الغلاة عن تسوّر حرمات الشرع، وأمّا السياسيّ فبحفاظه على وحدة المسلمين خشية استئصال شأفتهم، لا سيما بعد إخفاق ثورات زمانه. ولذلك اكتفى بالعمل على مستويات علمية وثقافية وتزكوية، كما يخبرنا بذلك تلميذه الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ) بقوله الذي يرويه عنه القاضي عياض المالكي (ت 543هـ) -في ‘الشفا بتعريف حقوق المصطفى‘-: “لقد اختلفتُ (= جئتُه مرات) إليه (= جعفر الصادق) زمانا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا وإما صامتا وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله”.
تلمذة ومشيخة
كان جعفر الصادق إماما من أئمة المسلمين شهد بفضله جميعهم، والذي يُدقق في مروياته -أي فيمن روى عنهم ومَن رَوَوْا عنه- سيجد أنه رأى بعض الصحابة وتتلمذ على التابعين، وأخذ عن أئمة المدينة النبوية، والتقى علماء الإسلام في حَلّه وترحاله. ففي ‘السِّيَر‘؛ يقول الذهبيّ إن الصادق “رأى بعض الصحابة، أحسبه رأى: أنس بن مالك (ت 93هـ) وسهل بن سعد (ت 91هـ). وحدث عن: أبيه أبي جعفر الباقر، وعبيد الله بن أبي رافع، وعروة بن الزبير (ت 94هـ)، وعطاء بن أبي رباح (ت 114هـ) وروايته عنه في ‘[صحيح] مسلم (ت 261هـ)‘، وجده القاسم بن محمد، ونافع العمري (ت 117هـ)، ومحمد بن المنكدر (ت 130هـ)، والزهري (ت 124هـ)، ومسلم بن أبي مريم، وغيرهم. وليس هو بالمكثر إلا عن أبيه، وكان من جِلَّة علماء المدينة”.
وقول الذهبيّ: “وكان من جِلّة علماء المدينة” يؤكد ما مرّ معنا من أن منهج جعفر السياسيّ والفقهيّ كان تطبيقا عمليا للمنهج الغالب على أقرانه من أئمة التابعين وفقهاء المدينة، والذي تأسّس رسميا واستفاض بعد واقعة الحَرّة سنة 63هـ، حتى إن محمد النفس الزكية لم يجد سنة 145هـ -كما سبق قوله- من يقف معه في ثورته من علماء أهل المدينة إلا ثلة قليلة.
وأما مَن رووا عن الصادق؛ فيأتي -كما يقول الذهبي- في طليعتهم الأئمة الكبار: أبو حنيفة، ومالك بن أنس، وعبد الملك بن جُريج (ت 151هـ)، وابنه موسى الكاظم (ت 183هـ)، وسفيان بن عيينة، ويحيى القطان (ت 198هـ)، وآخرون. وعن تلمذة أبي حنيفة للصادق -وقد وُلـِدا في سنة واحدة وكان تاريخ وفاتيهما متقاربا!- يقول ابن نصر الله القرشي الحنفي (ت 775هـ) -في ‘الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية‘- إنه “كان يسأله ويطارحه، وهو تابعي من أكابر أهل البيت، روى عن أبيه محمد الباقر وغيره، سمع منه الأئمة الأعلام.. وكذا أبو حنيفة..؛ فيكون من رواية الأقران” عن بعضهم.
نقل الآراء الفقهية لجعفر الصادق الأئمةُ أبو حنيفة ومالك والشافعيّ وغيرهم من كبار العلماء، مما يدلّ على أنّ رواياته ومقولاته ساهمت في تشكيل الشخصية العلمية لمؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى، شأنه في ذلك شأن غيره من كبار أئمة التابعين، كما ظل الفقهاء عبر العصور ينقلون فتاويه في كتبهم الفقهية
ومن تلامذته الكبار أيضا: المحدّث الثقة الضحاك بن مخلد البصري (ت 212هـ) الذي يقول عنه ياقوت الحموي (ت 626هـ) في ‘معجم الأدباء‘: “الحافظ الثبت النحوي اللغوي، كان إماما في الحديث، سمع من جعفر الصادق..، وأخرج له البخاري (ت 256هـ) في ‘صحيحه‘، وأجمعوا على توثيقه”.
أمّا عن فقهه؛ فقد نقل آراءَه الفقهية الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعيّ وغيرهم من كبار الأئمة، مما يدلّ على أنّ روايات جعفر ومقولاته ساهمت في تشكيل الشخصية العلمية لمؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى، شأنه في ذلك شأن غيره من كبار أئمة التابعين. وهكذا اعتمد عليه الفقهاء كثيراً ونقلوا فتاويه في كتبهم الفقهية؛ فأبو حنيفة روى كثيرا عن جعفر واستدلّ برواياته في صياغة مسائله؛ فقد جاء في كتاب ‘الآثار‘ لأبي يوسف (ت 182هـ) وهو كبير تلامذة أبي حنيفة: “حدثنا يوسف عن أبيه عن أبي حنيفة، عن جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر] عن سعيد بن جبير (ت 95هـ)، عن ابن عمر.. قال: جاءه رجل فقال: إني قضيت المناسك كلها غير الطواف بالبيت، ثم واقعت أهلي، قال: فاقض ما بقي عليك وأهرق دما، وعليك الحج من قابل”.
وفي تلك الرواية دلالات بالغة؛ أهمها أنّ الإمام جعفر أخذ عن سعيد بن جبير وروى عنه، والرواية موقوفة على ابن عمر، وابن عمر من أعلام أهل المدينة، ومثله سعيد بن جبير وجعفر. ولا ننس أنه تتلمذ أيضا على جده لأُمّه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وهو أحد فقهاء المدينة السبعة كما ذكرنا، وقد كان علماء آل البيت حينئذ يسكنون المدينة عاكفين فيها على العلم والعبادة. فنحن إذن أمام فقيه من فقهاء أهل المدينة، لم يشتهر عنه الانفراد عن المدرسة المدنية.
وثَمة لمحة أخرى مهمة التفت إليها العلامة محمد أبو زهرة (ت 1974هـ) في كتابه ‘الإمام جعفر‘؛ وهي أنّ تلك الرواية تدل على أنّ الصادق يأخذ بفتوى الصحابيّ، فالرواية موقوفة على عبد الله بن عمر ولم يسندها إلى النبيّ (ص)، فهي فتوى في موضع ليس للرأي فيه مجال، وبالتالي يترجح أن يكون سمعها من النبي (ص)، ولكن لا يخرجها ذلك عن كونها فتوى صحابيّ. والأخذ بفتوى الصحابي موضع اتفاق عند أكثر الفقهاء من الأئمة الأربعة وفقهاء الأمصار، ورواية جعفر هنا تدل على أن فقهه متلاقٍ مع فقههم في المرجعية.
احتفاء كبير
وبالنسبة للإمام مالك بن أنس؛ فإن جعفر الصادق كان مشايخه من علماء المدينة الكبار الذين تتلمذ عليهم، ولذلك نجده ينقل عنه -في كتابيْه الحديثي ‘الموطأ‘ والفقهي ‘المدونة‘- آراءه ومروياتِه عن آبائه من أهل البيت وغيرهم من الصحابة، ففي الكتابيْن المذكوريْن نلقى بكثرة أسانيد من قبيل: “عن مالك عن جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر] بن علي عن أبيه”، أو “عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه”.
بل إن مالكا تأثر بشيخه جعفر الصادق في سَمْته وهدْيه وما عُرف به من إجلال للسنة وإعظام للحديث النبوي في مجالسه العلمية. ومن ذلك ما يرويه عنه عياض -في ‘الشفا‘- حيث يقول: “كان مالك إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيتُ لما أنكرتم عليّ ما ترون، لقد كنت.. أرى جعفر بن محمد -وكان كثير الدعابة والتبسم- فإذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم اصفرَّ لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة”.
ويروي الإمام الشافعي كثيراً -في كتابه ‘الأمّ‘- عن الإمام جعفر بواسطة شيخه سفيان بن عيينة الذي هو من تلامذة الصادق الكبار. ومن ذلك مثلا أنه ينقل عنه في باب ‘من نسي المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة‘ قائلا: “أخبرنا سفيان بن عيينة عن جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر] عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغرف على رأسه من الجنابة ثلاثا”. وفي مسألة وقت الصلاة في السفر؛ يروي الشافعي بسنده عن جعفر عن أبيه عن جابر، ومثله في باب ‘الأذان والإقامة للجمع بين الصلاتين والصلوات‘.
ونجد كذلك روايات جعفر عند الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) في ‘المسند‘، وفي ‘السنن‘ لكل من الترمذي (ت 279هـ) والنسائي (ت 303هـ) وغيرهما؛ فالترمذي عندما ينقل آراء الفقهاء يأتي ضمنها برأي جعفر الصادق كواحد من الأئمة الكبار المتبوعين، فيقول مثلا: “والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم، وبه يقول: جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر]، وسفيان الثوري (ت 161هـ)، وابن المبارك (ت 181هـ)، والشافعي، وأحمد، وإسحق (بن راهويه المتوفى 238هـ)، رأوا مسح الرأس مرة واحدة”. وينقل الترمذي بسنده عن سفيان ابن عيينة -وهو من أئمة الحديث الكبار- قوله: “سألت جعفر بن محمد عن مسح الرأس أيجزئ مرة؟ فقال: إي والله”.
بل ونرى الإمام ابن تيمية (ت 728هـ) ينقل بعض الآراء الفقهية لجعفر الصادق وأبيه الباقر مرجحا لها على ما سواها من الآراء؛ فها هو يقول في مباحث الطهارة من ‘مجموع الفتاوى‘: “وعن أبي جعفر الباقر ونافع مولى ابن عمر أنهـ[ـما سُئلا عمن] أصابت عمامته بول بعير فقالا: جميعا لا بأس؛ وسألهما جعفر الصادق، وهو أشبهُ بالدليل”، أي أن هذا القول هو الأقرب صحة لموافقته للدليل الشرعي.
وفي مسألة اختلاف العلماء في حكم ‘الطلاق البدعي‘؛ يذكر ابن تيمية رأي الإمام جعفر ضمن القائلين -من أئمة السلف والمذاهب الفقهية- بأنه “محرّم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة. وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم..، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم..، ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد [الباقر].. وابنه جعفر [الصادق]..، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل”.
ولم يقتصر الأخذ بمرويات جعفر الصادق على المذاهب الأربعة؛ بل تعداهم إلى مذهب أهل الظاهر، فها هو الناطق الأشهر باسمهم الإمام ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) ينقل روايته في أبواب من كتابه ‘المُحَلَّى‘، مثل قول: “ومن طريق سفيان بن عيينة عن جعفر [الصادق] بن محمد [الباقر] عن أبيه قال: اعتلّ (= مرِض) عثمان وهو بمنى، فأتى عليّ فقيل له: صلِّ بالناس؟ فقال: إن شئتم صليتُ لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني ركعتين، قالوا: لا، إلا صلاة أمير المؤمنين -يعنون عثمان- أربعا، فأبى عثمان”.
حِكَم بليغة
كانت الحكمة تتناثر من لسان جعفر الصادق ثمرة يانعة لزهده وعلمه وورعه، فكانت حِكَمه ووصاياه البليغة تنبت في القلب وتلتصق بالوجدان قبل بُدوّها على الجوارح. ومن وصاياه التي وصّى بها ابنَه موسى الكاظم تلك الوصيةُ الجامعة التي وثـّـقها الإمام الذهبي في ‘السِّيَر‘؛ وهي قوله: “يا بني! من قنع بما قُسم له استغنى، ومن مدّ عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرا، ومن لم يَرض بما قُسم له اتّهم الله في قضائه، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه، ومن كشف حجاب غيره انكشفت عورته، ومن سلّ سيف البغي قـُتل به، ومن احتفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيها، ومن داخل السفهاء حُقر، ومن خالط العلماء وُقِّر، ومن دخل مداخل السوء اتُّهِم.
يا بني! إياك أن تُزري (= تستخفّ) بالرجال فيُزرَى بك، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذلّ لذلك. يا بني! قل الحق لك وعليك تستشار من بين أقربائك، كن للقرآن تاليا، وللسلام فاشيا، وللمعروف آمرا، وعن المنكر ناهيا، ولمن قطعك واصلا، ولمن سكت عنك مبتدئا، ولمن سألك مُعطِيا، وإياك والنميمةَ فإنها تزرع الشحناء في القلوب، وإياك والتعرضَ لعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف، إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه فإن للجود معادن، وللمعادن أصولا وللأصول فروعا، وللفروع ثمرا ولا يطيب ثمر إلا بفرع، ولا فرع إلا بأصل ولا أصل إلا بمعدن طيب، زرْ الأخيار ولا تزر الفجار فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها، وشجرة لا يخضرّ ورقها، وأرض لا يظهر عشبها”.
ومن حكمه التي لا تخرج إلا من صدور كبار النفوس الذين يترفعون عن زخرف العيش وأبّهة الحياة؛ أقواله التي تحث على نبذ الجدل والخصومة في الدين، ومما أورده الذهبي منها -في ‘تاريخ الإسلام‘- قوله: “إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تشغل القلب وتورث النفاق”. وقوله: “لا زاد أفضل من التقوى، ولا شيء أحسن من الصمت، ولا عدوّ أضل من الجهل، ولا داء أدوى من الكذب”.
وفي خاتمة هذا التطواف في حياة الإمام جعفر الصادق وأثره في الحياة العقلية والتربوية في الإسلام؛ فإن خير ما ننهي به هذا المقال هو حكمته التي ختم بها الإمامُ شهاب الدين القرافي المالكي (ت 684هـ) كتابه العظيم في الفقه ‘الذخيرة‘، وهي: “عن جعفر الصادق رضي الله عنه (قال): ما كلُّ ما يُعلم يُقال، ولا كل ما يقال حَضَر أوانُه، ولا كل ما حضر أوانُه حضر إخوانُه، ولا كل ما حضر إخوانُه حضرتْ أحوالُه، ولا كل ما حضرت أحوالُه أُمِنَ عَوارُه؛ فحافظ لسانـَك ما استطعت، والسلام”!!