من يؤتمن على بغداد؟
أثارت عملية اختيار "أمين بغداد" والمواصفات المطلوبة لعمدة العاصمة العراقية ضجة كبيرة نتيجة تراكم الفشل خلال السنوات الـ 17 الماضية في خدمات وأداء الأمانة، والتراجع المستمر في المستوى الأمني والخدمي الحضاري، وتدني أداء الأمناء الخمسة السابقين المتعاقبين على عاصمة الرشيد الذين اختارتهم المحاصصة السياسية بعيد مرحلة السقوط.
أسباب تراجع العيش في بغداد
ويلخص أغلب المتخصصين العراقيين في التخطيط الحضري والإقليمي ومهندسون معماريون عراقيون أسباب انحدار العاصمة وتراجعها حضارياً في غياب الرؤية بعيدة المدى لتطوير الأداء في العاصمة التي سقطت عام 2003 بُعيد دخول القوات الأميركية إليها، ولم تقم حتى الآن. إضافة إلى استشراء الفساد الذي يأكلها نتيجة غرق الإدارات المتعاقبة في الفساد، بحسب توصيف مراقبين ومتخصصين عراقيين كثر، حتى فقدت كوادرها من مهندسين ومخططين استراتيجيين بعد احتلالها، إذ غادرها هؤلاء سريعاً إلى الدول المجاورة أو إلى بلدان المنافي، بعد مسلسل التقتيل والاجتثاث والترهيب الذي ساد، لا سيما أيام النزاع الطائفي عام 2006، وتسبب بهجرة الكوادر العاملة في الأمانة وسواها.
وأدت تلك الهجرة إلى فقدان الرؤية لتخطيط المشاريع الكبرى للبنية التحتية التي لا تقل أعمارها التشغيلية عن 50 سنة على حد وصف أبرز الخبراء الاقتصاديين، وذلك بسبب الزيادة المطردة في عدد السكان الذين وصل عددهم إلى 38 مليون نسمة، بمعدل زيادة بلغ 3 في المئة، أي بمقدار مليون نسمة سنوياً، ربعهم في العاصمة سواء أكانوا مقيمين أم مستخدمين يومياً لها.
وخلفت هذه الأعداد آثاراً تراكمية في انهيار منظومة الصرف الصحي، والمياه الثقيلة التي تؤدي إلى غرق شوارع بغداد في كل موسم شتاء، نتيجة غزارة الأمطار التي تشهدها عادة أحياء العاصمة وأغلب مدن العراق.
ويرى الأكاديمي المتخصص والمهتم في الشأن الاقتصادي مازن العبودي أن "غياب التخطيط طويل المدى يشكل واحدة من أهم المشكلات التي تواجه أي مشروع إسكاني ضخم في العاصمة، ما أدى إلى ظهور مئات العشوائيات في بغداد، وأسهمت في تشويه وجهها العمراني والحضري، مع ظهور مظاهر غريبة على المدينة وتراثها، مثل انتشار الأسواق العشوائية وساحات بيع الحيوانات التي من الممكن مشاهدتها في أي مكان أو زمان". لكن الأمر لا يقتصر على هذه الظواهر اللافتة التي لا علاقة لها بحضرية العاصمة التي كانت مضرب الأمثال في نظافتها وانضباطها العاليين بحسب العبودي، قبيل عام 2003، إذ اُنتهكت بغداد من "الفصائل المسلحة التي سيطرت على الأراضي التابعة لأمانة العاصمة من الأحزاب والفصائل المسلحة للقوى السياسية التي هيمنت على الأراضي بقوة السلاح وبيعها وتوزيعها بشكل غير قانوني".
غياب السيطرة النوعية على إدارة بغداد
وترى مصادر إعلامية محلية أن هذه الظواهر "خلفت حال الفوضى التي تعيشها بغداد حالياً، نتيجة غياب السيطرة النوعية على المدينة وتمدد الميليشيات الحزبية وسيطرتها على ممتلكات الأمانة، واستحواذها على الساحات العامة، والفضلات بين الأروقة والمحلات، والتجاوز المستمر على الأراضي وتحويلها إلى مراكز للجباية المالية لتمويل نشاطها الحزبي والميليشيوي، حيث تقسمها إلى مراكز نفوذ لها ولواجهاتها الاقتصادية التي تعمل ضمن إطار تنمية موارد الأحزاب، وتلقى حماية سياسيين نافذين في السلطة الحاكمة التي تحاصصت على موارد "أمانة بغداد" وقسّمتها إلى مناطق نفوذ بقوة السلاح وبرعاية سياسية، وفرضت عليها منطق "المافيا" التي لا يستطيع أحد الحؤول دون التجاوزات والظواهر المشهودة علناً، سواء أكانت من الحكومة الحالية أم السابقة".
ويعزو عضو مجلس محافظة بغداد السابق محمد الربيعي تراجع أداء "أمانة بغداد" إلى "سوء الإدارة والتخطيط على مدى 17 سنة ماضية، فلم تنهض أمانة بغداد بإدارة حقيقية بسبب فقدان الإرادة الصحيحة للإدارات المتعاقبة، نتيجة تنفيذ خطة تسيير الأمانة بشراكة حكومية مع مكتب استشاري خاص غير رصين، تعاقد مع الأمانة بغية التخطيط لتسعة ملايين نسمة، معتمداً على معلومات غير واقعية، فلم يحاكي واقع المدينة والمجتمع عن قرب، وابتعد المخطط عن حاجات المواطن اليومية".
وأشار مراقبون إلى وجود نزاع بين "أمانة بغداد" و"حكومة بغداد المحلية" التي تتولى إدارة 15 بلدية ضمن حدود العاصمة، ما أجّل عملية التطوير، وتسبب بتقاطع المصالح بين الجهتين اللتين تتوليان إدارة العاصمة، وأنتج الفساد المستشري، مثل انهيار الطرق والأرصفة وخطوط النقل وشبكة الماء الصافي والماء الخام وغيرها من الخدمات، وجعل العاصمة حال طوارئ دائمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أزمة تلد أخرى وتراكم الفشل
ولا تقتصر أزمة أمانة العاصمة على سوء التخطيط والإدارة غير المنضبطة والعلمية، على حد وصف المطلعين على عملها، إذ صرّح عضو مجلس محافظة بغداد السابق جاسم الربيعي بأن "الوضع يتعدى ذلك إلى مستوى غير معقول في نهب إيرادتها، وجعلها تعتمد على المخصصات الحكومية وأموال الموازنة العامة"، في وقت كانت الأمانة إحدى موارد الحكومات السابقة للعام 2003، نظراً إلى حجم ونوع إيراداتها، والجباية المالية التي توفرها للدولة بحسب العبودي، وبالتالي فإن زيادة موارد الأمانة والسيطرة على إيرادتها هي السبيل للتخلص من انتظار المخصصات، وتأمين موارد للإنفاق على مشاريعها، وهذا يحتاج إلى فكر خلّاق وإيجاد فرص لتمويل المشاريع بعيداً عن الموازنة الحكومية".
والمفارقة في موارد الأمانة أن مئات العمارات والساحات والحدائق العامة والأسواق والمحال التجارية المؤجرة التي تقع غالبيتها في قلب العاصمة وتتبعها إدارياً، لم توفر إلا حوالي 65 أو 70 مليون دولار كإيرادات، كما يتغافل الإداريون في الأمانة عن جباية الرسوم المفروضة على ملايين الأمتار من الإعلانات الضوئية الهائلة في العاصمة.
ويشير اقتصاديون إلى أن الموارد السنوية الممكنة لأمانة بغداد تصل إلى ما يزيد عن مليار دولار سنوياً على أقل تقدير.
هدم المباني التراثية يهدد خصوصية بغداد
من جهة أخرى، تحدث المهندس المعماري المتخصص بتخطيط المدن تغلب الوائلي عن "مسألة خطرة تعاني منها العاصمة، وهي فقدان المباني التراثية، وتحوّل مركز العاصمة إلى سوق للجملة مثل شارع الرشيد وهو الشارع التراثي الأثير لبغداد". وأضاف "لم يعد شارع الرشيد كما عهدناه بل أضحى ساحة خلفية للتحميل ورمي الأنقاض ومخلفات الأسواق، والغريب أن جلّ عمل الإدارات المتعاقبة هو صبغ الأبنية والأعمدة، وإعطاء رخص لهدم الأبنية التراثية، غير مراعية للطابع المعماري التراثي لبغداد، ثم تشيّد مكانها مبانٍ لا تمت بصلة إلى التراث ولا العمارة البغدادية بشيء".
أحزاب السلطة وخراب بغداد
واقع بغداد الذي خربته أحزاب السلطة وفرضت المحاصصة السياسية، وتتقاتل اليوم على ترشيح "أمين" تابع لها يواصل حمل معول هدم تراث بغداد التي يئن أهلها والمهتمون بتوثيق تراثها، كونها عاصمة العراق وتاريخه العباسي حين وصل ذروته إبان حكم الرشيد، وبات شارعه مركزاً لتجميع نفايات ومخلفات الأسواق المجاورة، وهو لا يبعد إلا 50 متراً عن مركز الأمانة في الشارع المقابل اللصيق به، بينما تشهد العاصمة اليوم صراعاً حول تسمية الأمين المقبل، الذي ينبغي أن يكون من أهل بغداد كما يطالب أهلها وسكانها الأصليون، على ألا يخضع للمحاصصة السياسية والفساد الذي شاع فيها وجعلها مدينة موحشة تتقاتل فيها الميليشيات وتتناهبها الأزمات، وتحاصرها الجائحة وتتكاثر فيها مظاهر الارتياب لتُصنف واحدة من أكثر عواصم العالم غير الصالحة للسكن، وفق منظمة الشفافية الدولية. فهل يأتي أمين مؤتمن لبغداد؟ هذا امتحان آخر لحقبة رئيس الحكومة الجديد مصطفى الكاظمي الذي ولِد وترعرع فيها.