انفتاح العراق على أميركا والخليج العربي... الدلالات والتحديات
يعتزم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إدارة ملف الانفتاح على الولايات المتحدة ودول الخليج كباكورة لتحركه في إطار تفعيل الدور السياسي والاقتصادي للعراق في المنطقة، فضلاً عن إمكانية أن يمثل هذا الانفتاح بادرةً للتقليل من هيمنة إيران على البلاد، من خلال فتح باب الاستثمارات الاقتصادية والتفاهمات في مجال الطاقة مع دول الخليج والولايات المتحدة، إلا أن تلك المحاولات قد تواجه مسارات ممانِعة عدة من قبل الجماعات المرتبطة بإيران داخل العراق.
محاولات تقارب سابقة
وتعود محاولات التقارب بين العراق من جهة، والولايات المتحدة ودول الخليج العربي من جهة أخرى، إلى فترة حكم رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي، التي شهدت أول محاولة جدية للتقارب بعلاقات ندية مع تلك الأطراف، وكانت علاقة بغداد بواشنطن قبل الانسحاب الأميركي في عام 2011 مقتصرة على السياق العسكري، بينما كان التوتر يخيّم على علاقة العراق بمحيطه العربي والخليجي بسبب اختلاف السياسات بين الطرفين.
وشكّل العراق والسعودية في تلك الفترة "المجلس التنسيقي المشترك"، بهدف الارتقاء بالعلاقات الثنائية بين البلدين في كل المجالات وتنسيق الجهود لتنمية الشراكة الاستراتيجية بينهما، أدت هذه الحركة في حينه إلى ردود فعل شعبية إيجابية تجاه صفحة جديدة من العلاقات بين بغداد والرياض.
وعقد المجلس التنسيقي "السعودي - العراقي" اجتماعه الأول مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2017، برعاية العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، والعبادي، ووزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون.
ولقيت زيارات العبادي إلى السعودية والإمارات ترحيباً كبيراً، لكن هذا التنسيق سرعان ما انهار بوصول رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي إلى الحكم، إذ أطلق يد الفصائل المسلحة على المستوى المحلي وسمح لها بالتحكم بعلاقات العراق الخارجية.
محاولات جديدة
ويخوض الكاظمي مجدداً محاولة تبدو أكثر صلابة في إعادة التوازن إلى علاقات العراق الخارجية، لا تنطلق من الزيارات والتصريحات وحسب، بل يحاول كما أظهرت زيارته الأخيرة إلى واشنطن، "تعشيق" المصالح الاقتصادية بين العراق من جهة والولايات المتحدة ودول الخليج من جهة أخرى، بما يضمن جعل تلك العلاقات استراتيجية ومستدامة سواء استمر في المنصب أم لم يستمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووقّعت الحكومة العراقية سلسلة اتفاقيات مع شركات أميركية للطاقة المستدامة، فضلاً عن مذكرات تفاهم لإقامة شركة جديدة للطاقة في محافظة ذي قار (جنوب شرق)، وتتضمن أيضاً إدارة ملف الطاقة بالكامل في المحافظة القريبة من الحدود الإيرانية.
ووفقاً لبيان وزراة الطاقة الأميركية، بلغ إجمالي قيمة الاتفاقيات الموقعة بين العراق والشركات الأميركية 8 مليارات دولار.
أما في إطار التنسيق مع دول الخليج العربي، أوعز الكاظمي في 13 يوليو (تموز) 2020، بإعادة تشكيل الوفد العراقي في المجلس التنسيقي "السعودي – العراقي" برئاسة وزير المالية، نائب رئيس الوزراء علي علاوي.
وفي 20 يوليو الماضي، وقّع الوفد العراقي برئاسة علاوي، مجموعة اتفاقيات ومذكرات ضمن المجلس التنسيقي في المجالات الاستثمارية والتعليمية والرياضية والطاقة وغيرها.
وأكد الكاظمي أنه متفائل بمستقبل العلاقات بين بغداد والرياض، مشدداً على أهميتها، حيث قال إن "علاقات العراق والسعودية راسخة، وترتكز على الإيمان بالمصالح الاستراتيجية المشتركة، ومتفائل بمستقبلها".
مصدات إيران
ولم تشكل هذه التطورات أخباراً سارةً بالنسبة لإيران التي هيمنت الجماعات الموالية لها على غالبية المفاصل الاقتصادية والسياسية للبلاد، واستفادت طهران من تلك المعادلة في جعل العراق معزولاً عن محيطه الإقليمي والمجتمع الدولي، الأمر الذي وفّر لها مساحةً لجعل العراق رئةً اقتصادية رئيسة تجعلها قادرة على مواجهة العقوبات الاقتصادية الأميركية، فضلاً عن تمكنها من إدارة مشهد علاقاته الخارجية من خلال كتل برلمانية قريبة منها.
وتنطلق طهران من خلال ثلاث مسارات في عرقلة أي انفتاح عراقي على الولايات المتحدة ودول الخليج العربي، تتلخص بمحاولات الترويج لخطاب طائفي، وتأزيم المشهد الأمني، بالإضافة إلى عرقلة أي اتفاقيات محتملة بين العراق وتلك الدول من خلال البرلمان العراقي.
وتستفيد طهران من ميزان تبادل تجاري عالٍ مع العراق يبلغ نحو 12 مليار دولار وتسعى إلى رفعه ليصل إلى حدود 20 ملياراً، على الرغم من أن بضائعها لا تُعد منافِسة في السوق العراقي، لكن عدم وجود اتفاقيات تبادل تجاري أو انفتاح للعراق مع دول أخرى، مكّن إيران من التفرد في النفوذ على المشهدين الاقتصادي والسياسي للبلاد.
ويرى مراقبون أن جملة العوامل تلك، تدفع "الفصائل الولائية" (مصطلح يشير إلى الفصائل المسلحة التي تدين بالولاء لإيران) إلى مواجهة أي محاولات تقارب بين العراق من جهة والولايات المتحدة أو المحيط العربي من جهة أخرى بهجمات إعلامية شرسة، حيث تستخدم عدة أوراق كمصدات، من بينها ورقة التصعيد الطائفي كواحدة من أبرز وسائل مواجهة مشاريع كهذه.
ويستبق زعماء الفصائل المسلحة أي احتمالات انفتاح على دول الخليج العربي بتصريحات نارية تهدف إلى التصعيد الطائفي، ففي 14 يونيو (حزيران) 2020، قال زعيم ميليشيا "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي إن "المشروع الخليجي الذي قادته السعودية والإمارات واحد من المشاريع التي أُريد منها تدمير البلاد"، عازياً ذلك إلى "عدم تقبل وجود نظام سياسي في العراق تحكمه الغالبية الشيعية"، وهي استعارة لطالما رددها زعماء المليشيات المرتبطة بإيران في محاولات الاستقطاب الطائفي وحصر علاقات العراق بإيران.
وكان الخزعلي اتهم إسرائيل وأميركا والإمارات بمحاولة إثارة الفوضى والاقتتال الداخلي، إبان انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 العراقية، وهو الخطاب الإعلامي الذي انتهجته كل الأدوات الإعلامية الموالية لإيران في مواجهة التظاهرات المطالِبة بالإصلاح السياسي ومحاسبة الفاسدين.
البرلمان عائق أساسي
ويشير مراقبون إلى أن تلك القوى ستواجه انفتاح العراق على أي دولة خارج محور إيران، من خلال عرقلة أي اتفاقات محتملة في البرلمان العراقي، حيث تمتلك النفوذ الكافي لعرقلة أي اتفاقيات خارج الهيمنة الإيرانية.
الاستهدافات العسكرية
في سياق آخر، يرجح مراقبون أن تستخدم تلك الفصائل التلويح بالاستهداف العسكري لأي مشاريع محتملة للعراق مع دول الخليج العربي أو أميركا، حيث أن العمليات العسكرية التي تشنها تلك الجماعات ضد الأرتال الاميركية، حتى وإن كانت منسحبة، تعطي انطباعاً واضحاً بأن تلك القوى المسلحة التي تطرح خطاباً معادياً لأميركا ودول الخليج، لن تمانع تصويب بنادقها على أي مشاريع خليجية محتملة في العراق.
استثمار طهران في عرقلة أمن العراق
في السياق، يشير مراقبون إلى أن استهداف المصالح الأميركية بصواريخ كاتيوشا يتعدى محاولة استفزاز واشنطن أو جرها إلى صراع على الأرض، إلى محاولة إثارة توترات أمنية تمنع نشوء بيئة استثمارية آمنة وتعرقل استثمارات خارج إطار الشركات التي تمثل واجهات للمصالح الإيرانية وميليشيات عراقية مرتبطة بها.
وهو الأمر الذي أشار إليه رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر قائلاً إن "استهداف المصالح الأميركية بالصواريخ هي محاولة من قبل أذرع إيران لجعل البيئة الاستثمارية غير آمنة أمام شركات خارج إطار نفوذها"، مبيناً أن "هذا الأمر هو الذي يدفع دول الخليج العربي إلى إعادة التفكير قبل الدخول على خط الشراكات الاقتصادية مع العراق".
وأضاف لـ"اندبندنت عربية" أن "إيران تحاول إعادة مشهد عامَي 2006 و2007 في العراق، الذي دمّر اقتصاد البلد ونسيجه الاجتماعي، ما يسهل على المجموعات المسلحة السيطرة على تلك المجالات ويبعد الدول العربية عن عقد شراكات اقتصادية وسياسية وأمنية معه".
وتابع داغر بالقول إن "أبرز استثمارات إيران في العراق كانت في مجال عرقلة الملف الأمني، وبما أنها لا تستطيع لعب دور الشريك الاقتصادي فهي تلجأ إلى التصعيد الأمني"، مشيراً إلى أن "إيران تعتمد على التصعيد الطائفي والأمني في عرقلة أي انفتاح على دول الخليج العربي".
فرضيات الإعلام الولائي
ويبدو أن ما يشكّل البادرة الأولى التي تمكّن أي رئيس وزراء عراقي من صد محاولات أذرع طهران لإفشال مساعي بغداد للانفتاح على أي دولة خارج المحور الإيراني، تتركز حول جدية أو عدم جدية دول الخليج العربي وأميركا في لعب دور في قضية الاستثمار داخل العراق، ومساعدة الدولة العراقية على بناء اقتصاد رصين وعقد شراكات استثمارية معها.
وبشأن العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، أكد حبيب أن "الفصائل المسلحة تنشط في ترويج فرضيات من بينها أن شركة جنرال إلكتريك الأميركية لم تنجح في رفد العراق بما يحتاجه من الطاقة على الرغم من التزامها بعقود عدة"، مشيراً إلى أن "إعلام الفصائل يركز على اتهام الشركة الأميركية ويبتعد عن الحديث في ملفات فساد وهدر للأموال في وزارة الكهرباء".
وختم بالقول إن "المعركة إعلامية بالدرجة الأساس، لكن المنجزات على الأرض ستقطع الطريق أمام أي حملات دعائية ممنهجة لتلك الجماعات"، مبيناً أن "التحدي الأكبر يتمثل بنجاح العراق واصدقاؤه الجدد في المنطقة في إثبات قدرتهم على بناء شراكات اقتصادية وليس الاكتفاء باللقاءات السياسية".