ما مصير الودائع غير اللبنانية في المصارف؟
منذ بدأت الأزمة المصرفية في لبنان على خلفية شحّ السيولة وتوقف المصارف عن التعامل بالدولار الأميركي، برزت المخاطر المحيطة بالودائع العائدة إلى اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين، كما تلك العائدة إلى أفراد ومؤسسات خاصة أو رسمية عربية وأجنبية.
ومع تفاقم الأزمة في ظل غياب أي إجراءات أو تشريعات تحمي تلك الودائع أو تحدّد مصيرها، فقد بدأ عدد من كبار المودعين المحليين أو الخليجيين التفاوض مع المصارف اللبنانية لمعرفة مصير أموالهم، خصوصاً أن استعادة هذه الودائع بقيمتها لم يعد خياراً متاحاً، وضاقت هوامش الخيارات وباتت محصورة في عملية إعادة هيكلة أو جدولة، يتفق المودع مع المصرف المعني على شروطها، وإلّا فإن الخيار الآخر سيكون اللجوء إلى القضاء.
وبالفعل، فقد بدأ بعض أصحاب الودائع من الأفراد غير المقيمين مقاضاة مصارفهم، بعدما تبيّن أن مرور الوقت يفاقم المشكلة ولا يعالجها، بحيث لا تزال الودائع محتجزة ورهينة إدارة كل مصرف، فلا يمكن لصاحبها التصرف بها إلّا من خلال شيكات مسحوبة على المصرف المركزي لصالح الاستعمال المحلي وليس التحويل إلى الخارج.
ومقابل مشكلة الأفراد في التصرف بودائعهم، برزت كذلك مشكلة مماثلة لدى المؤسسات والمصارف الخليجية التي وظّفت جزءًا مهماً من أموالها في النظام المصرفي اللبناني طمعاً بمعدلات الفوائد المرتفعة التي كانت المصارف اللبنانية تقدمها إلى زبائنها، لا سيما بعد عام 2016، الذي شكّل محطة مفصلية في بدء المسار التراجعي للوضعين المالي والمصرفي، والذي انتهى إلى الانهيار والإعلان غير الرسمي عن إفلاس هذا القطاع، بعد أسابيع قليلة من كشف الدولة اللبنانية عن إفلاسها عبر تخلّفها عن دفع التزاماتها من سندات اليوروبوندز الدولارية لحامليها في مارس (آذار) 2020.
هل بدأ الاقتطاع من الودائع؟
في الخطة الاقتصادية التي قدمتها الحكومة إلى صندوق النقد الدولي طمعاً ببرنامج معه يساعدها على طلب الدعم الدولي، كان التوجه الرسمي واضحاً باللجوء إلى طلب "مساهمة استثنائية من كبار المودعين"، تقارب العشرة في المئة. وترك إقرار الخطة بهذا البند قلقاً بالغاً لدى أصحاب الودائع الكبيرة من دول الخليج، الذين وضعوا أموالهم بهدف الإفادة من البنية المرتفعة للفوائد. وجاء التعميم الأخير لحاكم المصرف المركزي رياض سلامة الذي يطلب فيه من المصارف حث زبائنها على إعادة 15 في المئة من الأموال التي أخرجوها منذ عام 2017 وتتجاوز قيمتها 500 ألف دولار أميركي، ليدق ناقوس الخطر حول الخطوة الثانية التي سيلجأ إليها المركزي والتي ستكون حكماً الاقتطاع من الودائع التي لا تزال ضمن المصارف اللبنانية ولم تحوّل إلى الخارج.
الأموال اليمنية
في هذا الإطار، لا تزال الأزمة بين مصارف يمنية و"بنك بيروت" عالقة، على الرغم من تدخل المصرف المركزي في كل من اليمن ولبنان لمعالجتها. وتتمثل المشكلة بوجود أرصدة عائدة إلى مصارف يمنية لدى "بنك بيروت" تتعلق بالتزامات ناشئة عن اعتمادات مستندية مغطاة من وديعة سعودية، هي عبارة عن هبة مقدمة من البنك التجاري السعودي. وكان تم الاتفاق على العقد مع "بنك بيروت" لفتح حسابات تستحق لشركات باكستانية لتصدير الأرز، ثمناً للبضائع المستوردة. لكن عقب تنفيذ العقد، توقف "بنك بيروت" عن تحويل المبلغ المستحق، بعدما بدأت أزمة التحويلات تتفاقم داخلياً في ظل الحظر الذي فرضه المصرف المركزي على المصارف.
ومع تفاقم الأزمة مع المصارف اليمنية وارتفاع حدّة الشكاوى التي بلغت حد مشاركة وفد يمني في التظاهرات ضد مقر المصرف المركزي في شارع الحمراء في بيروت، وجه سلامة كتاباً إلى نظيره اليمني في مارس الماضي يعلمه فيه أنه حث "بنك بيروت" على إيجاد حلّ فوري للمشكلة. وردّ المركزي اليمني في يونيو (حزيران) كاشفاً عن أن الأمور لا تزال على حالها، ولم يحصل أي تطور، داعياً بشدة إلى إطلاق هذه الأرصدة، نظراً إلى ما يرتبه التأخير من أضرار وخسائر على المصارف اليمنية المعنية تجاه أصحاب الالتزامات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والواقع أن المصارف اليمنية، كما التجار والمستوردين اليمنيين، يواجهون مشكلة كبيرة في تعاملاتهم بسبب الحظر على استعادة هذه الأموال التي قدّرها مركز صنعاء حتى نهاية العام الماضي بـ240 مليون دولار تشكل نحو 20 في المئة من مجموع النقد الأجنبي اليمني خارج البلد. وهذا الأمر أثّر في عمليات الاستيراد التي كانت تجري بعيداً من القيود، بفعل الاعتماد على المصارف اللبنانية، نظراً إلى التشدّد المفروض على صنعاء. ولا تتوقف الارتدادات السلبية على الجانب اليمني، بل تتجاوزه إلى القطاع المصرفي اللبناني الذي فقد الثقة الخارجية به بعدما كان مركزاً أساسياً لاستقطاب الودائع بفعل الحوافز والمردود المجزي الذي كان يقدمه.
من جانبه، كشف مصدر مسؤول في "بنك بيروت" عن أن المصرف مكبّل اليدين وغير قادر على الاستجابة لمطالب المصارف اليمنية، لكنه في المقابل قلّل من تداعيات الأزمة، نظراً إلى التسهيلات التي يقدمها المصرف عبر فروعه الخارجية الموجودة في كل من عُمان ولندن وقبرص، وذلك من خلال فتح الاعتمادات لتسهيل عمليات الاستيراد. وقال المصدر إن الجانب اليمني يبدي تفهمه للواقع الذي يمر به القطاع المصرفي اللبناني، إذ باتت معالجة المشكلة خارج قدرة المصرف أو إمكاناته بعدما تم وضع القيود على أمواله كما على أموال كل المصارف اللبنانية الأخرى.
وعلمت "اندبندنت عربية" أن الأزمة التي تعود إلى أقل من عام، كون هذه الأموال حديثة وليست قديمة، تحرّكت بعد تدخل لجنة الرقابة على المصارف، وقد اتخذت طابعاً طائفياً وسياسياً، فيما يسعى المصرف إلى معالجتها ضمن الأطر القانونية، علماً أن المصدر المشار إليه آنفاً كان استبعد إمكان لجوء المصارف اليمنية إلى القضاء. وعزا ذلك إلى أن مثل هذا الخيار يمكن أن يؤدي إلى توقف التسهيلات التي يقدمها المصرف عبر فروعه في الخارج، وقد لا تكون المصارف اليمنية في ظل القيود والتشديد المفروضين عليها قادرة على فتح خطوط ائتمان أخرى.
أموال العراق
وما يصح على الأموال اليمنية يصح كذلك على الأموال العراقية التي استثمرت في المصارف اللبنانية، وعلقت فيها. لكن مصادر مصرفية أكدت أن الجانب العراقي ليس في وارد فتح أزمة مع المصارف اللبنانية انطلاقاً من هذا الموضوع لسببين، أولهما أن المصارف اللبنانية لديها وجود مهم في العراق، ومن الطبيعي أن توظّف الودائع الموجودة لديها في المصرف الأم، أي في لبنان. أما السبب الثاني، فيكمن في أن جزءًا كبيراً من الأموال العراقية لم يدخل بالشكل القانوني، بل حوّلت من خلال عمليات تهريب أو بيع للعملة.
وفي حين لا يمكن مقاربة حجم هذه الأموال في ظل نظام السرية المصرفية المعمول به في لبنان، إلّا أن التقديرات تتحدث عن مئات الملايين التي يعود جزء منها إلى الحكومة العراقية وكانت تودع بأسماء شخصيات لبنانية قريبة من السلطة. ولم ينفع القانون الصادر عام 2010 المتعلق بإنشاء صندوق لاسترداد أموال العراق في إعادة أي من الأموال الموجودة في لبنان.
أموال الخليج
أما بالنسبة إلى الودائع الخليجية في لبنان، فتفيد مصادر مصرفية مطّلعة أنه على الرغم من عدم القدرة على تحديد حجمها، نظراً إلى قانون السرية، لكنها لم تعد كبيرة بعدما عمد مودعون كثر إلى سحب جزء غير بسيط من ودائعهم. وهذه العملية بدأت فعلياً منذ عام 2017، تاريخ استقالة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري من الرياض، حيث سجّل بعدها خروج ما يقارب 3 مليارات دولار من القطاع المصرفي اللبناني واستمرت منذ ذلك التاريخ وتيرة استنزاف الودائع وقسم كبير منها يعود إلى مودعين عرب.