إيران تجرعت السم فشربه العراقيون!
لم تمحُ 40 عاماً أوجاع وأحزان ومأسي الحرب العراقية - الإيرانية، التي يتذّكرها الشعبان بمنتهى المرارة أو بذات كأس السم الذي تحدث عنه الخميني الذي أوقفها في الثامن من أغسطس (آب) عام 1988، حتى صارت الثمانيات الأربع (8/8/ 1988)، أبرز تاريخ في حياة الشعبين العراقي والإيراني معاً، وأضحت يوم سعد لكلا الشعبين اللذين خرجا بجراح لم تندمل بعد وبذكريات مريرة لعدد من سقطوا فيها.
لا سلام منجز حتى بعد الأربعين
أربعون عاماً معادلة الحرب لم تؤسس لسلام دائم بين البلدين، فضحاياها ما زالوا في شوارع بغداد وطهران معاً، وبقايا لافتاتها السود معلقة، ولكن بفارق الحاضر الذي يسبغ الحياة الإيرانية بالتعافي والشماتة، التي تجرع زعيمها الخميني وقتها كأس السم وهو يوافق على وقفها، بعد أن خسر الطرفان ملايين الضحايا بين قتيل وجريح واقتصادين مدمرين بالكامل، وخرج العراق منتصراً عسكرياً وسياسياً، كما كان يعلن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وهو يجول بعبائته العربية ساحة الاحتفال الكبرى ببغداد التي أدخرها لهذا الحدث التاريخي وليرسل رسالة للآخرين في الطرف الشرقي، بأن انتصاره كان للعرب الذين آزوره في الحرب، ووضعوا كامل طاقتهم لمعاونة شعب العراق في حربه على إيران رغم تواصلها ثماني سنوات مريرة، أستمرت ليل نهار بين كر وفر.
ودمرت خلال الحرب مدن وأزيلت قرى وهجّر مئات الآلاف من سكان الحدود في جبهة طولها (1300) كيلو متراً، تمر بجبال ووديان وسهول وبراري وقتلت أكثر من عشرة مليون نخلة بشظايا الحرب، واستخدمت وقودا لتدفئة وطعام الجنود.
حرب على جبهة 1300 كيلو متراً
وشهدت المعارك استخدام كلّ أنواع الأسلحة بمختلف الأعيرة، وجربت كل أنواع الطائرات التي أغارت على عمق البلدين وأفرزت أساطير من أشكال الصمود وسفر التحدي الذي ظل سمة الحرب في صراع الإرادات، التي يتداخل فيها ما هو تاريخي وجغرافي مع تنوع عجيب لكل النوازع وتيارات الموالاة والمعارضة في عموم أطراف الحرب، المحلية والإقليمية والدولية.
وكان عمق إيران البالغ ثلاثة أضعاف عمق العراق وبعد عاصمتها عن الحدود البرية، ضمانة لها من أن لا تسقط بسهولة كما سقطت مدن الحدود الإيرانية التي تداعت في الحرب الخاطفة التي تمكن العراق من شنها في السنتين الأوليتين، خصوصا مع ترجيح الوصول لبغداد في أي خرق محتمل حيث تبعد 120 كيلومتراً، في جبهة طويلة مشتعلة على امتداد 1300 كيلو متراً.
وكانت التعبئة الإيرانية والنفس الطويل هي التي حكمت استراتيجية المواجهة الإيرانية للجيوش العراقية الثلاثة، والفرق التي ازدادت إلى أكثر من 32 فرقة، بعد أن دخل الجيش العراقي بتسع فرق فحسب مطلع الثمانين أول أيام الحرب، واضطر لتعبئة المدنيين وسحب كل القادرين على الحرب ما جعل الجيش يتضخم بهدف الإمساك بالأرض والدفاع عن ثغرات الجبهة الطويلة.
وبرز خلال الحرب الدعم العربي والإقليمي الذي انخرط حيزه الأكبر لنصرة العراق لا سيما من دول الخليج التي قاتلت بالمال والدعم المعنوي لمد جبهة الحرب العراقية بما يمكنها من الاستمرار لكي يتمكن العراق وجيشه من الانتصار، رغم الخسائر المادية الجسيمة، والكلفة العالية للمعارك التي خاضتها القوات العراقية على الجبهة الملتهبة.
الثابت أن العراق اضطر راغباً أن يعلن قبوله ومبادرته لوقف الحرب طيلة السنوات اللاحقة للعام 1982، لكنه قوبل بتعنت إيراني ورفض الامتثال لحالة وقف الحرب اعتمادا على دعم جديد تلقته إيران من بعض الدول في مقدمها كوريا الشمالية وسوريا وحزب الله اللبناني، ودول أخرى وجدت في هذه الحرب ما يؤمن مصالحها السياسية والاقتصادية.
تفوق جوي عراقي طال أهدافاً إيرانية
من جانبه ظل العراق يعتمد على تفوقه الجوي وحصوله على أحدث الطائرات في العالم بدعم الغرب وأموال الشرق، سيما طائرات (السوبر إنتندر) الفرنسية المتطورة التي كانت لها مقدرة التحليق فوق طهران وضرب أهداف منتخبة، لاسيما الاستهداف المستمر لمنشآت إيران الاستراتيجية كالمنشآت النووية وجزيرة خرج البعيدة والاستراتيجية وتدمير عقد التعبئة الحيوية، مع إقامة سد ناري بري في سواتر الحرب ونقاط الاشتباك القريبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استراتيجية إيرانية جديدة
أما إيران التي أعلنت أنها انتقلت من الدولة إلى الثورة بعيد العام 1979 فإنها اعتمدت على تصفية خصومها في الداخل وتغيير استراتيجية الحرب إلى تكوين جيش غير تقليدي، آفل من أيام الشاه، وذلك بتأسيس الحرس الثوري والباسيج وتكوين فيالق المقاومة والاستخبارات، وتغيير عقيدة الحرب إلى السلطة الدينية (الثيوقراطية)، التي مكنتها لتسويغ حجم ونوع الضحايا وإعلانهم "شهداء من أجل تحرير القدس والدفاع عن المقدسات وصولاً لكربلاء"، وقد استثمرت هذا الجو العاطفي الحماسي لتصفية خصوم الثورة وإعادة وظيفة أجهزة الدولة المدنية نحو العسكرة، وقد نجحت في تأمين مقاتلين تزج بهم على الجبهات وهم يحملون مفاتيح كربلاء الذين قيل لهم بأنهم بمجرد عبور السواتر العراقية في البصرة والعمارة وديالى وخانقين وجبال زاغروس يصلون إليها.
كانت حرباً شرسة في عقيدتها وفي حجم ونوع التعبىئة التي رافقتها، وفي حجم خسائرها البشرية التي رافقتها وأعداد الأسرى والمفقودين الذين راحوا ضحايا في البلدين، ما ولد آلاف المشاكل التي بدأت ولم تنته خصوصاً العداء المستحكم في نفوس الشعبين، وتاريخ دموي من الصعب أن يمحى بيسر.
شاهد عراقي على خسائر الحرب
وقال أول سفير عراقي في إيران بُعيد وقف الحرب، عبد الستار الراوي، إنه حين حضر عرضاً لذكرى الحرب في منطقة دزفول الإيرانية، هاله حجم الضحايا الذين تقدموا منصة العرض من المقاتلين المعوقين الذين طالتهم صواريخ أرض - أرض العراقية والمدفعية الثقيلة بعيدة المدن، وهم يستعرضون على الكرسي المتحرك الذي يسحبون به بأيديهم وأرجلهم المقطعة، حينذاك قال: أدركت حجم الحقد والأسى الذي خلفته تلك الحرب التي أصروا على استمرارها.
شعارات الحرب وثمن التعبئة
كانت الحرب مذبح مئات الآلاف من الشباب العراقي والإيراني نتيجة الإصرار على شعارات تعبوية يُشيعها السياسيون الذين وجدوا فيها مرتعاً لأحلام وأغطية خاوية لتصفية الخصوم وتبديل معادلة الحكم التي كانت سائدة، في كلا البلدين رغم خسائرها الباهظة.
فقد ظلت إيران ترفع شعارات التعبئة وتقديم مسوغات الحرب المقدسة كمبرر لاستمرارها باعتبارها طريقا وحيدا للعبور إلى القدس عبر كربلاء، التي تبعد عن الحدود الإيرانية مئات الكيلومترات، وتُلبس مقاتليها الشباب مفاتيح الجنة التي ستمنحهم فك أقفال القدس بعد العبور على جثث العراقيين في جبهات القتال، هكذا كان يقُال لهم.
أما الاستراتيجية العراقية، فأحيت الموروث التاريخي العدائي بين البلدين من أيام الصراع العربي مع الفرس الساسانيين والأخمينيين وكورش الذي دمر بابل، وروج الإعلام العراقي لحكايات غزو العيلاميين الفرس العراق ونقلهم مسلة حمورابي، ما احيا تاريخا من العداء مع خراسان وأرض فارس مع العرب، ومعركة ذي قار مع كسرى باستحضار الماضي وزجه كمسوغ للحرب وإطلاق اسم (قادسية صدام) على تلك الحرب، والتذكير بنار معابد الفرس المجوس، وإذكاء كل ما يثير الحنق ويبرر ويوفر مصدرا للتعبئة مع سيل من الحجج من كل طرف بأنه هو من بدأ الحرب.
2003 مفترق الطريق وكبوة النصر
معادلة اليوم اختلفت وانقلبت تماماً بعد احتلال العراق عام 2003، فقد دخل الإيرانيون العراق وكأن أبواب الجنة قد فتحت لهم بتمكن الأميركيين من تغيير معادلة حكم العراق بإسقاط نظام صدام حسين، وتحولهم إلى سلطة أخرى للعراق يحكمها نظام المحاصصة والمكونات والسماح لأطراف المعارضة العراقية السابقة التي احتضنتها إيران عقودا من الزمن وتربت في كنفها، بأن تتولى السلطة بأحزابها الموالية، التي كانت تتقدم خطوة واحدة على منطق الإدارة الأميركية التي أعلنت تزعمها لمشروع التغيير في العراق، وتحويله إلى بلد ديموقراطي كما تخيلت.
في وقت كانت فيه القيادة الإيرانية أكثر معرفة بالجمهور العراقي واستخدامها المتواصل لأسلوب الترغيب والترهيب والتوغل المستمر داخل المجتمع العراقي واستمالته بأدوات محلية، يساندها في نجاح مهمتها أمران: حل أجهزة ومؤسسات الدولة العراقية ونظامها السابق وتحالف الأطراف العراقية الشيعية الموالية لإيران، لاسيما التي عادت من إيران كقوات بدر والمجلس الأعلى وحزب العمل وسواها.. مع إصرار كردي على حلّ الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية العراقية التي تحمل تاريخا طويلا في صراعها مع إيران الثورة وأوقفت تصدير ثورتها ربع قرن، لكنها وجدت في النوايا الأميركية التي تمنت أن يمتثل العراقيين لمنطق عملية سياسية من خلال تمثيل محاصصي خلق فوضى غير مسبوقة في تاريخ المنطقة... كل ذلك وفر غطاء للجنرال قاسم سليماني وهو من نتاج الحرب العراقية - الإيرانية على إدارة أصابعه ومدّ حباله القوية في التحكم بالمشهد العراقي بل القدرة على النفاذ والتأسيس العسكري داخل العراق، بدافعية مركبة هي مزيج من ثقافة حرب الثمانينيات الذي كونت محتواه العقائدي وخبرة ميدانية مع اتباع مطيعين قادهم ضد دولتهم أيام الحرب كمعارضين شرسين، ساعده في ذلك غياب عربي حقيقي وخشية أطراف عراقية من عقوبات أميركية محتملة عليهم بعد أن أبعدت كل الزعامات العراقية التي سبقت عام 2003، وصدرت أحكام ضدهم ووضعتهم في لوائح العقوبات، مع توفير غطاء قانوني بحل مؤسسات الدولة التي كانت تملك ذاكرة الحرب وإحالتها على التقاعد ولكن بدون أجر أو نهاية خدمة!
وبالتأكيد فإن جيلاً عراقياً جديداً يسعى لاستعادة قوته والعمل المستمر على بلورة عراق جديدة لن يخضع لهيمنة أية قوة أجنبية شعاره (نريد وطناً).