شجرة آدم تلقي بظلال سحرها على ملتقى دجلة والفرات
عند ملتقى دجلة والفرات في قضاء القرنة الواقع شمالي مدينة البصرة العراقية، توجد "شجرة آدم" التي طالما كانت مركز جذب للسياح والزائرين الأجانب، وترسخ وجود الشجرة العتيقة في عمق الموروث الشعبي المحلي، باعتبارها رمزاً للصمود، وينظر لها البعض بوصفها شجرة مباركة، والبعض الآخر يرى فيها نفحة من نسائم ميثولوجيا حضارات بلاد ما بين الرافدين القديمة.
جنة عدن
قنصل روسيا القيصرية في البصرة ألكسندر أداموف أشار في كتابه "ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها" الصادر عام 1912 إلى أن "القرنة لا يمكننا أن نصفها وصفاً كاملاً من دون أن نذكر الأسطورة التي تقول إنها تقع في الموضع الذي كانت تقوم به جنة أجدادنا، ولتأكيد ذلك يقوم سكان القرنة بإطلاع الرحالة المحبين للاستطلاع على شجرة (إدراك الخير والشر)، وهي عبارة عن شجرة طلح عربية قديمة تقوم على الضفة اليمنى لنهر دجلة".
بينما جاء في كتاب "النصرة في أخبار البصرة"، الذي هو عبارة عن تقرير قدمه القاضي أحمد نوري الأنصاري إلى والي البصرة منيب باشا عام 1860، أن "في القرنة شجرة قديمة من جنس السمر مشهورة عندهم باسم (البرهام)، ويزعم أهلها أنها من زمن آدم أب البشر، والبعض يقول إنها من زمن المسيح"، وجاء في العدد الأول من "سالنامة" البصرة (الكتب السنوية التي لخصت أهم أحداث الدولة العثمانية الإدارية والعسكرية) الصادر عام 1890 أن "القرنة فيها البرهامة القديمة المشهورة التي يأتيها الإنجليز للزيارة".
وعلى ما يبدو فإن أداموف سبق الرحالة والدبلوماسيين الأجانب الآخرين في الحديث عن الشجرة، مع أن مدينة القرنة مر بها الكثير منهم، وبعضهم أوغل في ذكر تفاصيل غزيرة عنها من دون الإشارة إلى الشجرة العريقة، مثل الرحالة الدنماركي كارستن نيبور عام 1765، والإيطالي دومينيكو سيستيني عام 1781، والبريطاني جون جاكسون عام 1797، والتركي أبو طالب بن محمد خان عام 1804، والفرنسي أدريان دوبريه عام 1809، والإيراني محمد الحسيني المنشي عام 1820، والرحالة البريطاني سوانسن كوبر عام 1893. والأخير قال عن القرنة "المكان يثير شيئاً من المتعة، بسبب الرواية المحلية بأنه يمثل جنة عدن، ومن المؤكد أنه مكان ساحر، ويضفي على نفسه هالة من الرومانسية". ولعل اهتمام الرحالة والمستكشفين الأجانب بالقرنة خلال القرون الماضية ينبع من تصور بأنها المنطقة التي ورد ذكرها في العهد القديم من الكتاب المقدس، بصفتها الأرض ذات الأنهر الأربعة.
تكتسب الشجرة قيمة رمزية كبيرة لأسباب عدة منها موقعها قرب ملتقى دجلة والفرات (اندبندنت عربية)
شجرة مباركة
وحسب المواطن العراقي عبد الله محمد من قضاء القرنة فإن "الشجرة وعلى الرغم من كونها ميتة، فإن جذعها لم يتأثر كثيراً بالحروب السابقة، ولا الظروف المناخية القاسية، وهذا ما جعلها رمزاً محلياً للصمود"، مؤكداً أن "الكثير من السياح والرحالة والمستشرقين زاروا موقع الشجرة وأعجبوا بها وبالحكايات الشعبية المتصلة بها، لكن منذ أعوام عدة لم يأتِ أي سائح أجنبي لرؤيتها".
مواطن آخر من القرنة يدعى محمد رحيم، 65 سنة، قال إنه منذ كان طفلاً وجد شجرة آدم متيبسة الأغصان، لكن جذعها كان أكثر استقامة، وأغصانها كانت أكثر كثافة مما هي عليه اليوم، مبيناً أن "لا أحد من سكان القرنة يعرف بشكل دقيق متى وجِدت الشجرة، لكن هناك اعتقاد عام بأنها مباركة"، مضيفاً أن "بعض النساء يقصدن الشجرة أحياناً بهدف التبرك والدعاء بالقرب من جذعها الملطخ بحناء النذور".
وقال عراقي آخر، يدعى حسين عبد الرضا إنه "خلال التسعينيات تعرضت الشجرة لتجاوزات، أبرزها تشويه جذعها بآلات حادة من قِبل مراهقين لا يعون أهميتها، إذ كانوا يحفرون عليه أسماء وعبارات للذكرى"، مضيفاً أن "نوعاً آخر من التجاوزات ما زال مستمراً، إذ إن بعض النسوة يقتطعن أجزاءً صغيرة من الشجرة، كما أن السفرات المدرسية التي تنظمها مدارس بين حين وآخر أثرت أيضاً في الشجرة، لأن بعض التلاميذ يتسلقون جذعها، ويتشبثون بأغصانها. وخلال 2002 أصيبت الشجرة بآفة الأرضة، وأخذت تنخر جذعها لأشهر متتالية، قبل أن تُكافَح بمبادرة من الأهالي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عمرها الحقيقي
في بعض المصادر جرى اعتبارها شجرة سدر (نبق)، وفي مصادر أخرى شجرة برهام (اللبخ)، وما لم تكن من أحد النوعين فربما تكون نوعاً من اليوكالبتوس (قلم طوز)، ويميل إلى هذا الرأي المهندس الزراعي الاستشاري علاء البدران، الذي كان نقيباً للمهندسين الزراعيين في البصرة.
أما من ناحية القِدم فتتباين الآراء بشأن العمر الفعلي للشجرة، وبعض أصحاب الاختصاص يعتقدون أن عمرها يتراوح ما بين 400 إلى 600 عام، لكن هناك مَن يعتبرها أقدم من ذلك بكثير، منهم المدير السابق لهيئة الآثار والتراث في البصرة، قحطان العبيد، الذي قال لـ"اندبندنت عربية"، "من المحتمل أن يكون عمر الشجرة آلاف السنين، وعلى الأرجح أنها شجرة سدر، فهذا النوع من الأشجار المعمرة منتشر في المنطقة منذ زمن بعيد".
وأشار العبيد إلى أن "الشجرة تكتسب قيمة رمزية كبيرة لأسباب عدة، منها موقعها المميز قرب ملتقى دجلة والفرات، وصِلتها غير المباشرة بأساطير سومرية، خصوصاً قصة الطوفان المدونة بالنص المسماري، وكذلك الروايات التي تحدثت عن إله المياه إنكي، وكيف كان يخرج من مدينة أريدو السومرية باتجاه المياه المالحة، أي الخليج، مروراً بموقع الشجرة".
وتظهر "شجرة آدم" في صور فوتوغرافية تعود إلى بداية الاحتلال البريطاني للبصرة عام 1914 محاطة بسياج دائري من الطابوق بارتفاع متر، وتبدو ميتة منذ ذلك الحين، ولأهميتها السياحية أنشئ فندق بجوارها خلال السبعينيات، وخلال الثمانينيات جرى تأهيل موقعها. وفي 2005 بادرت وزارة الموارد المائية العراقية بإنشاء متنزه سياحي في موقعها.
وتضمن المشروع، الذي تجاوزت تكلفته 600 مليون دينار (500 ألف دولار)، تشجير مساحة 2363 متراً مربعاً، وإنشاء مرسى للزوارق على نهر دجلة، ورصف بضعة أمتار من المساحة المحيطة بالشجرة وإحاطتها بسياجين بعد تثبيت جذعها بالأسمنت، إذ إنه قبل تثبيته كان الجذع مطروحاً على الأرض، كما ضمت الشركة المنفذة المشروع شجرتين قديمتين تقعان على مقربة من شجرة آدم إلى موقع المتنزه.
وكانت شجرة آدم تُسمى شجرة إبراهيم، بناءً على رواية تفيد بأن النبي إبراهيم جاء إلى القرنة، وصلى في مكان الشجرة، وتنبأ بوجودها، وفي رواية أخرى هو مَن زرعها، واعتمدت السلطات هذه الرواية، ووضعت لافتة عند قاعدة الشجرة تضمنت باللغتين العربية والإنجليزية ما نصه "في هذه البقعة المباركة، حيث يلتقي دجلة بالفرات تشرفت بزيارة سيدنا إبراهيم الخليل سنة 2000 ق.م، وصلى بها وقال: ستنبت هنا شجرة كشجرة آدم في جنة عدن".
وربما القرنة لا تقع ضمن مسارات هجرة وتنقلات إبراهيم الخليل كما وردت في سفر التكوين، لكن مدينة أور السومرية التي ولِد فيها كانت عاصمة للمنطقة التي تقع فيها القرنة، حيث توجد الشجرة.