إعادة فتح "جديدة عرعر" يعيد الاعتبار لـ"رحلات العقيلات"
بعد إغلاق دام ثلاثين عاماً للطريق البري الوحيد بين السعودية والعراق، أعاد الجاران العربيان افتتاحه الكلي، بعد انفراج جزئي لعبور الحجاج قبل ثلاثة أعوام.
وتوافق المسؤولون السعوديون والعراقيون على أهمية خطوة فتح المنفذ في الجانب الاقتصادي، وفقاً لأحمد الحقباني، محافظ الهيئة العامة للجمارك السعودية، الذي أكد أن المعبر سيسهم في تنشيط حركة التجارة عبر ما أسماه "البوابة الجديدة للصادرات السعودية ووارداتها".
أمر مشابه، تطرق له وزير الداخلية العراقي عثمان الغانمي، عندما أكد أن "الجُدَيدَة" كما يسمى لدى سكان المنطقة الحدودية في الجانبين هو "المعبر الأول الذي تفتتحه المناطق الحدودية، على أن يعمل البلدان على افتتاح معبر الجميمة في محافظة المثنى خلال الفترة القادمة لتعزيز العملية التجارية البينية"، ويقع بالقرب من رفحاء شمال شرقي السعودية.
تصحيح مسار التاريخ
بالنظر إلى ما حملته تصريحات المسؤولين حول أهمية هذا الشريان في بناء العلاقة الاقتصادية والسياسية بين البلدين، تتجلى أهمية الخطوة في إعادة التاريخ إلى نصابه، الذي شكلت فيه الظروف السياسية شكل العلاقة الاقتصادية منذ رحلات "العقيلات" من عالية نجد إلى حوض الفرات من خلال بوابة الصحراء الواسعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فلم تكن الحركة بين شبه الجزيرة العربية والعراق على مر التاريخ أمراً طارئاً يرتبط بظرف تاريخي، إلا أن حركة بعينها كانت لها اليد الطولى في التأسيس لعلاقات جديدة متقلبة بين هذه الحدود المهمة.
ومع قيام الدولة السعودية الأولى (قبل 300 عام تقريباً)، اختار عدد من القبائل التي عارضت (لمصالح سياسية) ميثاق الدرعية بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب الاتجاه شمالاً، بحكم طبيعة البدو الرحل الذين يستقرون حيث يطيب لهم العيش من دون الالتزام بالجغرافيا.
إلا أن ما لم يكن طبيعياً هو الاستثمار السياسي الذي باشره العثمانيون المتوجسون من الدولة الجديدة القائمة في الصحراء، باستغلالهم القبائل القادمة من جنوب العراق (وهي التي لطالما صدتها) بغية الاستفادة منها في مواجهة الغارات السعودية، التي كانت تتوسع على حساب مناطق الانتداب العثماني في تلك الجغرافيا، بحسب ما نشره المؤرخ الباحث عبدالعزيز عبدالغني في كتاب "نجديون وراء الحدود"، الأمر الذي تسبب في تأسيس علاقة متأزمة بين المكونين الاجتماعيين في نجد والمهاجرين إلى أراضي العراق.
تاريخ مصطلح "العقيلات" وحمولته
على رغم اختلاف المؤرخين في سبب التسمية، إلا أنهم اتفقوا على أنهم لم يحملوا الاسم معهم من نجد، فكل المراجع النجدية القديمة التي أرخت للحركة الاجتماعية المهمة، لم تورد لفظ "العقيلات" في صفحاتها، بل أتت من مراجع خارجها كانت في مجملها من العراق سواءً من قبل إنجليز أو أتراك، أو حتى عرب الشام ومصر.
واختلفت المراجع في تعريف واشتقاق التسمية، إذ يرى العالم السياسي البريطاني هنري لايارد أن كلمة "عقيلات" تطلق على القبائل التي ترجع أصولها إلى أنساب متعددة ومختلطة، مكونة قبيلة واحدة.
أما المصادر التاريخية المحلية في العراق وتركة حكامها في ذلك الوقت، فقد رأت سبباً أكثر بساطة من ذلك، فقد اشتهر أفراد تلك القبائل التي سميت بـ"العقيلات" بأنهم يعصبون رؤوسهم بالعقال ليقيهم لفح الحر ويغطون عيونهم ليحميها من رمال الصحراء الحارقة، ما يخفي ملامحهم، الأمر الذي ميزهم عن بقية قبائل نجد في حينه.
وأتت هذه العادة بعد أن اختارت تلك القبائل الهجرة من نجد والتنقل عبر خطوط التجارة الدولية البرية، فأخذت من التجار عاداتهم، وهم الذين كانوا يعقلون قوائم الإبل حتى لا تهرب، وحين يقصدون السفر يفكون تلك العُقل، ويعصبون بها رؤوسهم حتى يصلوا، وهو ما لم يكن شائعاً لدى أقرانهم النجديين الذين تركوهم خلفهم قبل الهجرة شمالاً.
وعلى رغم تكون خليط العقيلات من قبائل نجدية عرفت بـ"القصيمات"، والثانية من شمّر ويعرفون بـ"الجربا"، إلا أن لب هذه الجماعة ومادتها الأساسية كانت من القصيمات وفق مراجع تاريخية عديدة، منها ما ذكر ابن سند البصري في "مطالع السعود بطيب أخبار الوالي داود"، الذي ركز في أكثر من موضع على قبائل القصيم (منطقة شمال الرياض) ودورها في تشكيل الجماعة.
"عقيل" على درب التجارة الدولية
يبدو أن "بني عقيل" لم يكونوا مهتمين بالعودة إلى نجد حتى على سبيل التجارة، بخاصة بعد أن تحسسوا درب التجارة البري الدولي، الذي كان يربط شرق العالم بغربه عبر شمال الجزيرة العربية والعراق والشام، ليصلوا وادي النيل وقلب أفريقيا بشبه القارة الهندية.
لم يعتد البدو ارتياد هذه الطرق والمهن، إلا أن العقيلات اقتحموا خريطتها التجارية عبر ما كانوا يجيدونه، وهو السلاح، فبحسب "موسوعة الاستكشاف، اكتشاف آسيا وأفريقيا، نسخة 1979" فقد كانت قيادة القوافل عبر طرق التجارة الدولية في شقها البري عبر الجزيرة العربية في أيدي بني خالد، ويتولى أمير الخوالد تعيين شيخ القافلة الذي يقودها إلى وسط العراق، ثم يتولى أشراف البصرة قيادتها إلى الشام.
وتضيف الموسوعة "كان بنو خالد يستعينون بالعقيلات كحراس وحمالين وجمالة لشدة بأسهم وقدرتهم على حماية القوافل، واستمروا في القيام بنفس الدور مع وكلاء القوافل الآخرين في جميع رحلاتهم وصولاً إلى أفريقيا"، وهو ما تستند إليه الموسوعة في تفسير تعرّف بدو عقيل على التجارة الدولية ودروبها، ومن ثم اقتحامها كوكلاء مستقلين لا حراساً لصالح وكلاء آخرين فحسب، ليبدأ بعدها "لابسو العقال" رحلة التجارة الدولية كتفاً بكتف مع كبرى القوافل التي تتنقل عبر صحراء العرب، كوكلاء محليين يتولون عملية الشحن البري بكل خدماته المصاحبة.
فبحسب بحث "رحلة من البصرة إلى حلب" الذي نشره البريطاني بارثولوميو في 1850، يقوم شيخ المجموعة التي تتولى عملية الشحن بتقدير الأجر المسمى بـ"الخاوة"، التي تشمل رسوم المرور والحرس المرافقين، وحِمل كل بعير من السلع والأشخاص، كما يتفقون معهم على تزويدهم بالماء عن طريق مصادر محلية يعرفها الوكيل، بالإضافة إلى تكاليف الهدايا التي تعطى للقبائل التي سيمرون بديارها، ويبلغ متوسط هذه المصاريف عادةً قرشين وثلاثة أرباع القرش.
ويضيف ذات المصدر أن العقيلات كانوا يفرضون ما يشبه رسوم التأمين، إذ تزيد المصروفات في حال تعرضت القافلة لأخطار استثنائية، ويحسب المبلغ الإضافي ويقسم على المشتركين من التجار بالتساوي.
المصلحة الاقتصادية تعيد صياغة العلاقة السياسية
استمرت عقيل في درب تجارتها الدولية، مستغنيةً بأرضها الجديدة في العراق وفرصها الدولية بين آسيا وأفريقيا، فيما لا تشكل الحركة بين عالية نجد ووادي الفرات قيمة تذكر بجوار تلك الطرق، إلا أن ظرفاً تاريخياً اعترض درب التجارة البرية أسهم في تغيير الواقع الاقتصادي، ما أعاد تقييم المواقف السياسية بين الإقليمين.
وأسهم إنشاء قناة السويس في تحويل مسار التجارة الدولية من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، متزامنةً مع الثورة الصناعية واختراع السفن البخارية التي تقطع مسافات أطول في فترات أقصر، ما جعل من إمكانية الالتفاف على الجزيرة العربية واعتماد درب البحر الأحمر الجديد مجدياً.
أضعفت تلك التغييرات أهمية الوكلاء المحليين للتجارة الدولية في الصحراء العربية، ليكسد الدرب البري مقابل الطريق البحري، الذي لا يمر من مضارب العقيلات، التي كانت تتولى نقل البضائع على جمالها من موانئ العقير والزبير في الخليج حتى أفريقيا ومياه المتوسط.
هنا بدأت قبائل العقيلات تتحول إلى ناقل تجاري محلي، وبدأت بالعودة إلى قلب الجزيرة العربية، وتشكيل خط تجاري داخلي جديد أكثر نشاطاً بين أراضيها السابقة، وعاد القصيميون إلى نجد، والجربا إلى حائل للعمل وفق الواقع والمصلحة الجديدة، بعد ازدهار إمارتين في هاتين المنطقتين خلق لها وزناً سياسياً، بالتالي اقتصادياً، أسهم في تأسيس مرحلة جديدة، انتهت بدولة واحدة بعد قيام الدولة السعودية الثالثة التي نجحت في تمدين القبائل النازحة شمالاً أكثر من سابقتيها.
عرعر… زبير القرن الحادي والعشرين؟
أسهمت هذه التحديات التي ضربت المنطقة، في تأسيس واقع جديد بين نقطتي التجارة التي أسسها أبناء عقيل في بناء علاقة جديدة بين العراق ونجد (السعودية في ما بعد)، كانت الزبير جنوب غربي العراق هي المركز الاقتصادي الرئيس لهذه الحركة.
وعلى الرغم من أن أجواء سياسية عصفت في العقود الماضية بالعلاقات التاريخية بين الوجهتين، إلا أن الظرف التاريخي أعاد صياغة الشكل الاقتصادي بين البلدين، ما أسهم في إعادة صياغة الشكل السياسي.
ما يحدث اليوم لا يختلف كثيراً إلا في الأسماء، فـ"جديدة عرعر" كما تسمى في السعودية، التي ظلت مغلقة لثلاثة عقود استأثرت فيها مصالح الجيران الدوليين بالعلاقة مع العراق من دون محيطه العربي، تعيد فتح أبوابها مجدداً بوعود اقتصادية بتحويلها إلى منطقة اقتصادية ومنصة صادرات وواردات بين البلدين اللذين يسعيان إلى إعادة بناء علاقتهما، للاستغناء ببعضهما عن محيط بدأ بالتغير ورسم واقع اقتصادي وسياسي جديد، فهل تكون عرعر هي "زبير" القرن الحادي والعشرين؟