خفض قيمة الدينار العراقي يعصف بالتجار والأسواق
لا تبدو بوادر رفع سعر صرف الدولار أمام الدينار مبشرة في العراق، حيث انعكست سريعاً على أسعار السلع والخدمات في ذلك البلد الشحيح بالإنتاج المحلي والمتخم بالسلع المستوردة، وباتت ملامح السخط والتذمر واضحة على التجار، فيما تسيطر مخاوف من ارتفاع غير منضبط للأسعار على العراقيين، بعد تآكل القيمة الشرائية للعملة المحلية بنسبة 21 في المئة تقريباً.
وكان البنك المركزي العراقي أعلن في 19 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، رفع سعر الصرف إلى 1450 ديناراً للدولار الواحد، بعد أن كان السعر السابق 1190 ديناراً لكل دولار، الأمر الذي تسبب بحالة إرباك شديدة في الأسواق المحلية.
وعزت الحكومة ذلك الإجراء إلى محاولاتها تطبيق بنود "الورقة البيضاء" للإصلاح الاقتصادي، وتحفيز الصناعة والزراعة المحليتين، فضلاً عن تجاوز الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، إلا أن مراقبين وخبراء في الاقتصاد أرجعوا تلك الإجراءات إلى محاولة الحكومة تقليل العجز في موازنة العام المقبل، للتمكن من سداد أجور الموظفين بعد تخفيض قيمة العملة المحلية.
إشكالية مركبة وانعكاسات مباشرة على التجار
لا تبدو الإشكالية في هذا القرار مرتبطةً فقط بتأثيرها على أسعار السلع في السوق المحلية، فقد تسببت بإشكالات بين المستوردين وتجار التجزئة في ما يتعلق بسداد أجور السلع المسحوبة قبل تخفيض قيمة العملة.
وتعتمد الأسواق العراقية على آلية سداد تجار التجزئة، قيمة بضائعهم إلى المستوردين بعد تصريف المواد المسحوبة في الأسواق، التي تبدو المعضلة الرئيسة التي تواجه الأسواق بعد خفض قيمة الدينار العراقي، وقد تتسبب بنشوء نزاعات وعدم استقرار في الأسواق المحلية.
وتتمثل الإشكالية الرئيسة في ديون تجار التجزئة للمستوردين وفي كيفية سدادها، وما إذا كانت ستُسدَّد وفق أسعار الصرف السابقة أم الحالية.
وقال المدير العام السابق للعمليات المالية في البنك المركزي العراقي، محمود داغر، إن الإشكالية الأساسية التي تعانيها السوق العراقية في الفترة الحالية "ترتبط باعتماد سعر الصرف الجديد، الأمر الذي سيخلق إشكالات عدة بين المستوردين وتجار التجزئة، وخلافات بشأن تسديد أجور المواد المسحوبة في الفترات الماضية، وهل سيتم وفق سعر الدولار السابق أم الحالي"، مبيناً أن "المستوردين الكبار يريدون تقاضي أجورهم بالدولار، فيما سينعكس هذا الأمر على التجار في الأسواق وسيتسبب بخسائر لهم، ما سيؤدي إلى حالة عدم استقرار في الأسواق".
ورجح داغر "تدخل العشائر ورجال الدين في حسم خلافات التجار في الأسواق كما حصل عام 1996، إثر صدور مذكرة النفط مقابل الغذاء والدواء التي تسببت بانخفاض أسعار الدولار حينها".
وبالإضافة إلى الاهتزازات التي تعرضت لها السوق المحلية، لفت داغر إلى أن "المقاولين العراقيين وتحديداً المتعاقدين مع مؤسسات الدولة سيعانون أيضاً من إشكالية مشابهة، حيث أن عقودهم تتم بالدينار العراقي، لكن المواد المستوردة الداخلة في البناء يتم شراؤها بالدولار، الأمر الذي يعني تسجيل خسائر بالنسبة إليهم"، مبيناً أن "الدولة لن تُقدِم على إعادة النظر في تلك العقود خصوصاً أن العقد شريعة المتعاقدين قانوناً".
وتابع أن "المرافق الحيوية في السوق العراقية ستتأثر نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، وأيضاً مرافق الإنتاج المحلي التي تدخل في صناعاتها مواد أولية مستوردة، أو المنتجين المحليين الذين ستتأثر قدرتهم الشرائية بارتفاع أسعار السلع والخدمات".
وبشأن المدة المطلوبة لحسم خلافات التجار، رأى داغر أن "الأسواق المحلية بحاجة إلى نحو ستة أشهر لحسم تلك الخلافات والتوصل إلى تسويات بين الدائنين والمدينين". وأشار إلى أن "الأسواق العراقية لم تستوعب حتى الآن صدمة تآكل قيمة العملة المحلية بنحو 21 في المئة، نتيجة ارتفاع أسعار الصرف، وما يزال بعض التجار يبيعون بأقل من السعر الرسمي للدولار"، معبراً عن اعتقاده بأن "تلك الصدمة ستزول بداية الأسبوع المقبل وسيعتمد الجميع سعر الصرف الرسمي".
زيادة معدلات التضخم بشكل كبير
يُرجح أن تزيد الإجراءات الأخيرة من معدلات التضخم في العراق، حيث رجح داغر أن "معدلات التضخم قد ترتفع إلى نحو 10 في المئة، بعد أن كانت أقل من 1 في المئة قبل تغيير سعر صرف الدولار رسمياً".
وشكا داغر من فرض قوات الأمن تسعيرة للمواد الغذائية على التجار، لافتاً إلى أن "ضابط أسعار السلع هو الدولار، والسوق تنافسية لا يحق للدولة التدخل فيها ووضع تسعيرة إلا في ما يتعلق بالاحتكار والنشاطات غير القانونية". وختم، "إن اهتزازات السوق مرهونة بمدى جدية خطوات الحكومة العراقية في تفعيل الصناعة والزراعة المحليتين كما وعدت، حيث إن انخفاض سعر العملة يجب أن تتبعه إجراءات تحفيزية للحراك الاقتصادي المحلي وسوق العمل والانتاج".
إجراءات قانونية وفرق أمنية في الأسواق
وإثر المخاوف الشعبية من احتمال حدوث قفزات كبيرة في أسعار البضائع، أصدر مجلس القضاء الأعلى توجيهاً في 23 ديسمبر الحالي، إلى محاكم التحقيق بـ"اتخاذ الإجراءات القانونية بحق كل مَن تسبب بالضرر للاقتصاد الوطني، سواء من تجار العملة الأجنبية أم التجار المحتكرين للبضائع والسلع الغذائية والسلع الضرورية التي يحتاجها الناس يومياً".
وكانت وزارة الداخلية العراقية، أعلنت في 22 ديسمبر الحالي، نشر مفارز أمنية لضبط الأسعار في الأسواق ومنع التلاعب بها.
وأكد وزير الداخلية عثمان الغانمي "تحريك مفارز في كل المحافظات لتطبيق القانون بحق مَن يحاول العبث بالأسعار مستغلاً الأزمة، وأنه سيتم الضرب بيد من حديد وتطبيق القانون الصارم بحق كل مَن يحاول استغلال قوت الشعب والإساءة إلى هذه الميزانية الإصلاحية التي تُعد بداية إصلاح حقيقي للمراحل اللاحقة".
وعلى الرغم من الإجراءات القانونية والأمنية لضبط الأسواق المحلية، إلا أن أسعار سلع استهلاكية عدة ارتفعت، بينما وصلت نسبة الارتفاع في بعض الأحيان إلى ما يقارب نسبة ارتفاع سعر صرف الدولار.
في المقابل، استنكر "اتحاد الغرف التجارية العراقية" قيام الأجهزة الأمنية بإجبار التجار على بيع السلع وفق سعر الصرف السابق، على الرغم من إعلان البنك المركزي رسمياً تغيير أسعار الصرف.
وقال الاتحاد في بيان يوم الجمعة 25 ديسمبر، إن "هذه الإجراءات التعسفية غير الدستورية أو القانونية تعيدنا إلى عصر الدكتاتورية وسلطة الدولة التي لا تحترم الحقوق والحريات، وهي مؤشر خطير للغاية على مدى محاولة حرف مسار الإصلاح الاقتصادي وتحميل التجار نتائج السياسات الفاشلة والإخفاق في ملف الأمن الغذائي من قبل القائمين عليه".
وبشأن بيان مجلس القضاء الأعلى، قال اتحاد الغرف التجارية إن "تعميم مجلس القضاء الأعلى فُسّر وطُبق بصورة خاطئة من قبل جهات إنفاذ القانون، إذ إنه لا يعني توقيف التجار الشرفاء، بل مراقبة الأسعار ومنع المضاربة، وليس إجبارهم على البيع بأسعار توازي سعر الصرف السابق 1190 الذي غادره البنك المركزي بموجب قراره".
وهدد الاتحاد بغلق الأسواق والمحال ومنافذ البيع في حال استمرار "الإجراءات التعسفية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خسائر بنسبة 25 في المئة
وتزامناً مع الإرباك الحاصل في الأسواق العراقية، نظم تجار ورجال أعمال وقفةً احتجاجية أمام البنك المركزي إثر رفع سعر صرف الدولار.
وعبر رئيس "اتحاد الغرف التجارية" عبد الرزاق الزهيري عن سخطه نتيجة تغيير أسعار الصرف، مشيراً إلى أن "تسديد أجور المستوردين تتم بشكل عام بالدينار، على الرغم من أن البعض يسدد بالدولار، وتسبب ذلك بخسائر تقدر بنحو 25 في المئة في السوق". وبشأن حل الإشكالات بين المستوردين وتجار التجزئة، بيّن الزهيري أن "السوق العراقية مرت بظروف مشابهة في أوقات سابقة وكانت تنتهي بالتراضي والتسويات بين التجار". وأضاف أن "المتضرر الرئيس من تلك الخطوة هو السوق العراقية التي باتت الحلقة الأضعف، وهذا خطأ كبير ترتكبه الحكومة"، لافتاً إلى أن "الإشكالية الأكبر تتمثل بفرض الحكومة أسعار السلع السابقة على المستوردين، على الرغم من تغير سعر الصرف الأمر الذي يتسبب بخسائر إضافية".
في السياق ذاته، قال أمير علي، وهو أحد أصحاب المحال التجارية في سوق الكاظمية، إن "إشكالات حدثت في السوق خلال الأسبوع الأخير نتيجة تغير أسعار الصرف، الأمر الذي دفع بعض التجار إلى مطالبتنا بسداد ديوننا بالدولار، وهذا الأمر سيتسبب بخسائر كبيرة لنا"، معبراً عن رفضه تلك التعاملات والتزامه سداد الأجور بالدينار العراقي.
وعبر عن سخطه إزاء الإجراءات الحكومية الأخيرة، مشيراً إلى أن تلك الخطوة "أربكت الأسواق، وما تزال أسعار السلع في الأسواق الكبيرة متذبذبة ومتغيرة بين ساعة وأخرى، فضلاً عن أنها تسببت بضغط إضافي على المواطنين تزامناً مع الأزمة الاقتصادية والأوضاع الصعبة التي يعيشونها".
استباحة الأسواق
واعتبر المستثمر والباحث الاقتصادي رمضان البدران، أن الخطوات الحكومية الأخيرة مثلت "استباحةً للسوق العراقية"، معبراً عن اعتقاده بأن "فرض تسعيرة على التجار يُعد تجاوزاً على القانون. ويتوجب على الحكومة تعويض المتضررين نتيجة رفع أسعار الدولار بطريقة غير مدروسة، لأنها تسببت بخسائر قسرية للتجار".
وأشار البدران إلى أن الدليل على التخبط الحكومي يتمثل في "استمرار السوق العراقية بالتعامل بأسعار صرف أدنى من السعر المحدد من قبل البنك المركزي"، مبيناً أن هذا الأمر يعني أن "السوق هي مَن يحدد أسعار الصرف وليس وزير المالية".
وبشأن الإجراء المتعلق بخفض قيمة العملة المحلية، لفت البدران إلى أنه "يعني خفض قيمة جميع الموجودات في البلاد بنحو 20 في المئة، ولم يقتصر تأثيره على السلع المستوردة".
وعن حديث الحكومة حول تحفيز الصناعة والزراعة المحليتين، لفت البدران إلى أن "هذه الحكومة لا تملك خططاً أو رؤى اقتصادية وعاجزة عن توفير بيئة مناسبة للزراعة والصناعة محلياً"، مبيناً أن "تتبع خريطة مطالبات الحكومة بالاستثمار الأجنبي يظهر عدم وجود خطط مدروسة، وكان الأجدى أن تفعّل معامل القطاع العام، التي تتطلب دعماً بسيطاً للدخول على خط الإنتاج".
وتبقى المعضلة الكبرى التي يعاني منها العراق، تتمثل في غياب الإجراءات الحقيقية لدعم الصناعة والزراعة محلياً، اللتان لا يكاد إسهامهما في الموازنة العامة للبلاد يتجاوز في أفضل الأحوال حدود العشرة في المئة، وهو الأمر الذي لطالما تسبب بإشكالات على مستوى أسعار السلع في الأسواق، التي تعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد لتلبية احتياجات العراقيين، ما جعلها عرضةً للهزات خلال أي متغيرات مالية تمر بها البلاد.