"دبلوماسية الصواريخ" الإيرانية تعمق المأزق العراقي
حين أصدر مصطفى الكاظمي كتاب "مسألة العراق" لم يكن يتصور أنه سيصبح رئيس الوزراء المطلوب منه حل المسألة. ولا كان أحد يتخيل أنه سيسمع قائد ميليشيا يهدد رئيس الوزراء بالموت، وآخر بقطع أذنيه ثم ينام كل منهما في منزله. لكن هذا ما حدث. الكاظمي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي يخضع "الحشد الشعبي" رسمياً لأوامره. وفصائل من الحشد الذي يتبع عملياً لـ"فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني ومذهبياً لولاية الفقيه، تحتل الشوارع وتهدد بحرب لإطلاق قائد كتيبة الصواريخ في "حزب الله" العراقي الذي قصف السفارة الأميركية بثمانية صواريخ.
والمأزق العراقي يتعمق مع الوقت منذ الغزو الأميركي عام 2003 الذي أصر عليه الرئيس جورج بوش الابن والمحافظون الجدد، على الرغم من تحذير صريح من مستشار الأمن القومي للرئيس جورج بوش الأب الجنرال برنت سكوكروفت في مقال نشرته "الوول ستريت جورنال" عام 2002 تحت عنوان "لا تهاجموا صدام". كان سكوكروفت يرى أن "الغزو لإسقاط صدام سيدمر الحملة الكونية التي أطلقناها ضد الإرهاب". وكان المحافظون الجدد يتبنون نظرية خرافية وساذجة خلاصتها أن "إسقاط صدام يحرر الشيعة في العراق من الالتصاق بإيران ويجعلهم ضد التدخل الإيراني في بلادهم". لكن ما حدث هو العكس طبعاً: إذ ربحت طهران "الجائزة الكبرى" في العراق.
مأزق من ثلاث طبقات
ولا شيء يوحي بأن الخروج من المأزق ممكن، ولو بصعوبة. فكلما حاول الكاظمي الخروج دفعته ميليشيات إيران إلى نقطة أعمق. وكلما أرادت طهران أن تبعث برسالة إلى واشنطن، قامت الميليشيات بإطلاق الصواريخ على السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في بغداد ضمن "دبلوماسية الصواريخ". والمأزق من ثلاث طبقات. الأولى، التكريس الدستوري والعملي لتقسيم العراقيين إلى "مكونات" مذهبية وإتنية، وتقاسم السلطة بينها بالمحاصصة مع أرجحية شيعية. والثانية، إقامة جيش مذهبي خارج الجيش العراقي تحت عنوان "الحشد الشعبي"، أداة في الاستراتيجية الإيرانية المطبقة في طهران عبر الحرس الثوري، وفي سوريا عبر الميليشيات، وفي لبنان عبر "حزب الله"، وفي اليمن عبر الحوثيين. والثالثة، تحويل العراق "ساحة" لصدامات وتفاهمات وتصفية حسابات بين قوة أميركية نسيت "المشروع"، الذي ادعت أنها جاءت من أجله وصارت على وشك الانسحاب، وبين قوة إيرانية لديها مشروع تحميه وتراهن على قلة الصبر لدى أميركا وسياسة "الصبر الاستراتيجي" لديها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصطفى الكاظمي يحاول التخلص مما يسميه "اختطاف العراق". ويعمل على "إعادة الدولة بعد إسقاطها وإعادة تأسيسها على خطأ منذ الغزو الأميركي". وهذا يعني، لا فقط بناء المشروع الوطني العراقي بل أيضاً قطع الطريق على المشروع الإيراني. كيف؟ ضمن ترتيب التوازن بين علاقات العراق مع إيران والسعودية ومصر وأميركا وروسيا والصين. لكن المسألة عملياً صعبة. فالتراجع عن "الخطأ" المنهجي والمقصود إيرانياً في تأسيس "الحشد الشعبي" ليس سهلاً. لا بالوسائل العسكرية لأنها تقود إلى حرب أهلية تدمر ما بقي من العراق. ولا بالوسائل السياسية لأن قادة الفصائل في "الحشد الولائي" الذي انفصل عنه "حشد العتبات" التابع لمرجعية النجف، يتلقون الأوامر من طهران التي ترفض خسارة رأسمالها ومشروعها، وأقصى ما تفعله بناء على طلب عراقي هو "ضبط" جماعتها مؤقتاً.
ثورة لبناء دولة
المهم، أن يكون العراق مهتماً بنفسه لشعبه وللعرب، بصرف النظر عن موقعه في حسابات إيران وأميركا. فالانتقام الإيراني غير المباشر لقائد "فيلق القدس" قاسم سليماني الذي اغتاله الأميركيون مع أبو مهدي المهندس من قادة "الحشد الشعبي" على الطريق من مطار بغداد، يجب ألا يأتي بالضرر على العراق. ولا "انتصار خطاب الصواريخ على خطاب العراق ومصلحته" يجب أن يقود فقط إلى ما سماه السفير الأميركي "مراجعة القضايا بين العراق وأميركا والتحالف الدولي".
المعادلة واضحة مهما كانت صعبة: لا نجاح في إعادة تأسيس الدولة من دون تصحيح الخطأ في إقامة "الحشد الشعبي" من خارج الجيش، وتشريعه وتكريس ديمومته بعد القضاء على دولة "الخلافة الداعشية". فماذا تفعل فصائل الحشد الشيعية في صلاح الدين ونينوى والأنبار سوى التحكم بالأهالي والسلبطة على الأرزاق؟ وكيف سيستمر "التساكن" بين رئيس الوزراء وقادة الفصائل الذين هددوا بقطع أذنيه وقتله وقالوا له "الاستخبارات الأميركية لن تحميك".؟
لا مهرب من الحقيقة: العراق يحتاج إلى ثورة لبناء دولة.