الحرية بين الحقيقة والادّعاء
معظمنا يحب الحرية، وبعضنا يكابد مشاق كبيرة لانتزاع الحرية. وأيًا كانت مضامينها ومستوياتها، فالكل يتفق على ضرورة نفي الإكراه لكي تظهر الحرية. والشعوب التي ذاقت الامرّين تفهم مغزى الحرية وتمارسها في حياتها العامة والخاصة، وهي نتاج لنظم اجتماعية وسياسية تتخذ من الحرية نقطة شروع لتفكيرها وسلوكها. فالحرية هناك ليست مادة للحذلقة والتقنّع والإدعاء؛ فالعلاقة الاعتمادية القائمة بين السياسة والمجتمع أفرزت بمرور الوقت نماذج فلسفية، وعلمية، وفنية، وأدبية، شيّدت مؤسسات عظيمة بمختلف أدوارها، وبنىً تحتية لمختلف صنوف المعرفة، كل هذه الأمور حدثت بفعل الإيمان العميق بالحرية. فهذه الأخيرة لا يمكن اختزالها إلى فعاليات مؤقتة سرعان ما يظهر باطنها عند أول تجربة.
حتى حرية التعبير لم تناضل القوى السياسية والاجتماعية من أجلها لكي تغدو لاحقًا ثقافة متأصلة في سلوك المواطن والسياسي العراقي على حد سواء
وبصراحة شديدة، أن مجمل فعالياتنا الاجتماعية والسياسية لا تخرج عن إطار حرية التعبير. فهي فعاليات مفرغة من معناها من جهة خلوها من الإسهام في البناء الفكري. ولا نجادل في الحقيقة التالية لبداهتها: الغالبية العظمى من الناس تعوض حرية التفكير بحرية التعبير، حسب تعبير كيركيجارد. فلا ننتظر من عموم الناس نظريات اجتماعية وسياسية؛ ذلك أن الجمهور يقوده الإيمان، بحسب غرامشي، بينما تنهمك النخبة الثقافية في تأطير الفعاليات السياسية وتحويلها إلى سلوك. وفي هذه الأثناء يختبر المثقف والجمهور جدوى هذه النظرية من تلك. وقد وضّحنا بمقالة سابقة هذا الأمر فلا جدوى من التكرار. فما يهم هنا هو الجدوى التالية: ما القيمة المترتبة على الفعاليات الاجتماعية والسياسية إن حصرت نفسها بحرية التعبير؟ والجواب، ببساطة شديدة، هو التشرذم والمزيد من عنف السلطة واستهتارها بحياة الناس.
اقرأ/ي أيضًا: الحرية بوصفها مشكلة اجتماعية
لكن ثمة نكتة غريبة وذات مغزى: حتى حرية التعبير لم تناضل القوى السياسية والاجتماعية من أجلها لكي تغدو لاحقًا ثقافة متأصلة في سلوك المواطن والسياسي العراقي على حد سواء. فمن هذه الناحية ظلّت الحرية شيطان رجيم ومشكلة اجتماعية تقاتل ضدها السلطة السياسية من جهة والنظم الاجتماعية من جهة أخرى؛ ففي العائلة، والمدرسة، والجامعة، والمجالس العشائرية والدينية وغيرها، لا ينظر للحرية باعتبارها جزء أصيل في الإنسان، وليست منّة يجود بها علينا أحدهم، بل يُنظر لها على أنها رديف للإباحية والتحلل وتهديد سافر للقيم الاجتماعية. وأيًا كان نوع الجدال المتمخّض عن هذه الحقيقة، فستلقي بظلالها على وضعنا السياسي والاجتماعي، وستفشل أي بادرة تحاول النهوض بالواقع البائس.
لذلك لا نستغرب من شيوع ثقافة المناكدة وتشويه السمعة وإضفاء طابع شخصي على مجمل اختلافاتنا "الفكرية". بعبارة أخرى: حتى الجماعات التي تعتبر حرية التعبير قدس أقداسها تسقط في وحل الخصومات النفسية. لسنا ملائكة في نهاية المطاف، وعموم الناس، وعلى مر التاريخ، كانت مشكلتها الأكبر هو وقوعها فرائس سهلة بيد الرغبات الجامحة. والمعول الحقيقي على من يؤمن بالتغيير، ونفترض أن من يؤمن بالتغيير يؤمن بالحرية، ومن يؤمن بالحرية يؤمن بنفي الإكراه، ومن يؤمن بنفي الإكراه يؤمن بتفهّم الآخرين، ومن يؤمن بتفهم الآخرين يؤمن بالتواصل الصحي القائم على احترام وجهات النظر والإصغاء إلى أفكار الآخرين.
غير أن الأمر، وحتّى هذه اللحظة، ليس غريبًا على الإطلاق، لأنه لا يمكنك أن تقفز على كل هذه التراكمات التاريخية دفعة واحدة، خصوصًا إذا كنت تفتقر للبنية التحتية اللازمة لإعداد أجيال تؤمن بالحرية بالفكر والسلوك. فشيوع حالة التنمّر وعدم الرضا عن كل شيء (رغم أنه لا يوجد شيء يستحق الرضا) يتناسب منطقيًا مع ثقافتنا المضطربة. فأنت نتاج واقعك السياسي والاجتماعي، ومؤكد لو كنت تواقًا للتغيّر، فمن الضروري للغاية أن تعكس البديل الموازي وأنت تسعى للتغيير. فإن لم يحدث هذا كله، ففي هذه اللحظة ينبغي أن تسأل هذا السؤال: ما الأمر الذي يجعلني أسعى للتغيّر إذن، ما الحقيقة التي تجعلني حرّا بمعنى الكلمة؟
اقرأ/ي أيضًا:
القراءة والحرية
رياح الحرية والقيم الراسخة.. هل مياهنا راكدة؟