البابا يضمد جراح الموصليين ويأسف لـ"التناقص المأساوي" لمسيحيي الشرق
مثلت زيارة البابا فرنسيس لقلب مدينة الموصل وسط استقبال رسمي وشعبي كبير فاق التوقعات في المدينة التي تضررت كثيراً بفعل سيطرة تنظيم "داعش" عليها لنحو ثلاث سنوات، رسالة واضحة على تغيير كبير في توجهات السكان الذين بدوا أكثر تحرراً من قيود الخوف من التطرف والمتطرفين للمرة الأولى منذ سنوات طويلة.
وجاءت الزيارة بعد وصول البابا إلى مطار أربيل بطائرة عراقية من طراز "بوينغ"، ولقائه الزعيم الكردي مسعود بارزاني وعدداً من قادة الإقليم قبل التوجه إلى مدينة الموصل بمروحية خاصة، وبحماية من طيران الجيش العراقي الذي انتشرت مروحياته في المطار استعداداً للرحلة، ما بين الحاجة إلى ضرورة إسراع المجتمع الدولي والحكومة العراقية في إعادة إعمار وترميم مطار الموصل، بهدف جعل المدينة قبلة للمنظمات الدولية والمستثمرين وتحفيز عملية الإعمار فيها.
زيارة أولى لمسؤول دولي رفيع
تمثل زيارة البابا إلى الموصل أرفع زيارة لمسؤول دولي بهذا المستوى منذ الإعلان عن تحرير المدينة في تموز (يوليو) 2017. وقد أظهر مجيء البابا منذ لحظة وصوله إلى مقر عمليات نينوى، وانتقاله إلى وسط مدينة الموصل القديمة باتجاه كنيسة "حوش البيعة"، استعادة المدينة قدرتها على استقبال زوارها الدوليين من دون ملاحقة أو استهداف من قبل عناصر تنظيم "داعش".
واستقبل البابا في باحة الكنيسة بالتصفيق والتهليل والتحيات، بينما توزع المصلون على مقاعد خشبية أمام منصة وضعت ليجلس عليها الحبر الأعظم إلى جانب مسؤولين كنسيين آخرين ورهبان من مدينة الموصل، بينهم رئيس أساقفة الموصل المطران نجيب ميخائيل موسى.
ورحب الحبر الأعظم في كلمته بدعوة ميخائيل إلى عودة المكون المسيحي بفاعلية، والقيام بدوره المهم والأساسي في الحياة وتحديث المدينة، وتجديدها.
ويقدر عدد من الإحصاءات غير الرسمية أن نحو 250 ألف مسيحي هم من تبقى بعد أن كان يعيش في هذه المنطقة ما يقارب مليوناً ونصف المليون قبل عام 2003، بعد أن هاجر البعض على يد التنظيم في حين هاجر آخرون خلال الأزمات والحروب التي عاشها العراق.
"داعش" دعا إلى مهاجمة روما
نشرت الحكومة العراقية في اليوم الثالث لزيارة البابا الموصل وقرقوش وحدات من جهاز مكافحة الإرهاب والفرقة الخاصة وعناصر من جهاز الاستخبارات العراقي والأمن الوطني وعشرات المروحيات والطائرات لحماية موكب الحبر الأعظم وطرق جولته في المدينة.
ووسط الركام في ساحة الكنيسة، ترأس البابا فرنسيس صلاة عى أرواح "ضحايا الحرب" في المنطقة، آسفاً في كلمة ألقاها لـ"التناقص المأساوي" في أعداد المسيحيين في الشرق الأوسط.
واتخذ "داعش" الكنيسة بعد تدميرها مقراً لتنفيذ أعمال التعذيب والإعدامات بحق الرافضين له، وكانت عناصره تردد شعارات من داخلها عام 2015 تقول إن التنظيم سيحرر "روما من الصليبيين"، لكن المفارقة أن البابا رفع الصلوات من باحة هذه الكنيسة بالذات وسط حضور جماهيري واسع.
بدوره، يرى رئيس منظمة "عين الموصل"، أنس الطائي، أن هذه الزيارة "المهمة"، ستسهم في إعادة إعمار المدينة، لا سيما كنائسها، ومطارها المدمر.
ويضيف أن "حضوره سيمهد لعودة أهم أعمدة المدينة، أي المسيحيين، باعتبار أن عدد العائدين حتى الآن لا يتخطى الـ75 عائلة، وكذلك سيسهم في قدوم كثير من الشخصيات المهمة والشركات العالمية، وستكون هناك التفاتة من الحكومة لتسليط الضوء على المدينة".
المساهمة في إعمار الموصل
وأكد الطائي أنه من المعيب عدم وجود مطار في المدينة، ما اضطر البابا إلى المجيء بمروحية من أربيل، بدلاً من أن يأتي مباشرة إلى الموصل، لافتاً إلى أن عدد سكان نينوى أكثر من ثلاثة ملايين شخص، وهم بالتالي بحجم دولة، لذلك يجب المباشرة بإعادة الإعمار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي محطته الأخيرة في نينوى، وصل إلى كنيسة الطاهرة السريانية الكاثوليكية القديمة والمدمرة في قرقوش بقضاء الحمدانية عبر مروحية وسط استقبال شعبي كبير في شوارع المنطقة ذات الغالبية المسيحية، حيث انتشر الآلاف على جوانب الطرق لإلقاء التحية عليه.
وأقام البابا قداساً في كنيسة الطاهرة دعا فيه إلى السلام والأمن ونبذ العنف، وأشاد بالجهات التي وقفت مع المسيحيين في وقت شدتهم في هذه المنطقة، مؤكداً ضرورة نبذ العنف ودعم التعايش بين الأديان.
وكان تنظيم "داعش" قد سيطر على مدينة قرقوش في أغسطس (آب) 2014، ودمر أغلب كنائسها، ما اضطر أغلب سكانها إلى هجرتها باتجاه مدينتي دهوك وأربيل قبل تحريرها نهاية عام 2016 على يد القوات المسلحة العراقية.
ومن المقرر يقيم الحبر الأعظم قداساً كبيراً في أربيل من المتوقع أن يشارك فيه أكثر من عشرة آلاف شخص.
أهمية خاصة
وترتدي هذه المحطة من الزيارة أهمية كبرى، لا سيما أن محافظة نينوى وعاصمتها الموصل، تشكل مركز الطائفة المسيحية في العراق، وتعرضت كنائسها وأديرتها الضاربة في القدم لدمار كبير على يد التنظيم المتطرف.
وعندما سيطر التنظيم على المنطقة، أيد البابا استخدام القوة لوقف انتشاره، ودرس إمكان السفر إلى شمال العراق للوقوف إلى جانب الأقلية المسيحية.
ولا تزال آثار الحرب ظاهرة في المنطقة، على الرغم من مرور نحو أربع سنوات على طرد التنظيم منها بعد معارك امتدت شهوراً طويلة وخلفت مئات الضحايا ودفعت الآلاف للنزوح.
ولا يوجد في نينوى ملعب رياضي مناسب أو كاتدرائية لإقامة قداس بابوي، كما يوضح رئيس أساقفة الموصل ميخائيل نجيب لوكالة الصحافة الفرنسية. ويضيف أن "14 كنيسة مدمرة، سبع منها تعود للقرون الخامس والسادس والسابع".
قرقوش
ولبلدة قرقوش أو بغديدة تاريخ قديم جداً سابق للمسيحية. يتحدث سكانها اليوم لهجة حديثة من الآرامية، لغة المسيح، ولذلك تعدّ محطة مهمة في زيارة البابا.
ولحق دمار كبير بقرقوش على يد "داعش" ولا يزال الوضع الأمني متوتراً مع انتشار الجماعات المسلحة التي ترعاها الدولة بأعداد كبيرة في السهول المحيطة. هناك، يزور البابا كنيسة الطاهرة التي دمرها التنظيم، لكن أعيد ترميمها بالكامل.
وهذه أول زيارة بابوية على الإطلاق للعراق، يحقق فيها فرنسيس حلماً لطالما راود البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني.
اليوم الثاني
وفي اليوم الثاني من زيارته التاريخية، التقى البابا، أمس السبت، في النجف المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني الذي أعلن اهتمامه بـ"أمن وسلام" المسيحيين العراقيين.
وندّد البابا في كلمته، السبت، من أور في جنوب العراق بـ"الإرهاب الذي يسيء إلى الدين"، مضيفاً "نحن المؤمنين، لا يمكن أن نصمت عندما يسيء الإرهاب للدين. بل واجب علينا إزالة سوء الفهم".