هل ينجح البريطانيون في حل أحجية الشرق الأوسط بعد الفشل الأميركي؟
أعتاد المتابع للمشهد السياسي في الشرق الأوسط والأزمات التي تشتعل فوق مياه الخليج العربي، على رؤية الطائرة الإنجليزية تحلّق في أجواء المنطقة وبين عواصمها وقت احتدام الصراعات.
هذه العادة البريطانية لم تنقطع حتى في ظل انشغالها بترتيب أوراقها الداخلية استعداداً لما بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو حتى في ظل المعركة التي تخوضها لتجهيز مناعة عامة تعيدها إلى الحياة الطبيعية بعد عام وبائي عصيب، إذ واصل المبعوث الخاص لرئيس الوزراء البريطاني إلى منطقة الخليج إدوارد ليستر لقاءاته مع المسؤولين السعوديين، بعد أن استقبله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مساء الأحد، ثم التقى نائب وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان، اليوم الثلاثاء.
هذه اللقاءات الرفيعة لم تكن الوحيدة، فقد حلّ وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودية عادل الجبير أيضاً في قائمة لقاءات المسؤول البريطاني.
هذه الاجتماعات التي استمرت على مدى يومين لم تفصح عن تفاصيل سوى "مناقشة الأحداث الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك"، وفق ما نشر الجانب السعودي، في حين لم تحمل وسائل الإعلام البريطانية أي معلومات عنها.
إلا أن ما غرّد به نائب وزير الدفاع السعودي عقب اللقاء كان رأس الجليد لما تم طرحه عندما قال "أكدنا شراكتنا لصون الاستقرار والأمن في المنطقة".
هل يملك البريطانيون شيئاً لم تجرّبه أميركا؟
عندما قرر الأميركيين أن لا يكونوا جزءًا من أزمات المنطقة، بل طرفاً يستخدم نفوذه لإيجاد مقاربات للتهدئة بعد أن أرهقتهم برمالها المتحركة، اكتشفوا أن الدور الجديد لا يقل صعوبة عن سابقه، بعدما فشلوا في خلق مقاربة توافقية يجد الطرفان العربي والفارسي مصالحه فيها من دون أن تضر بمصالح الطرف الآخر.
فقد فشلت فكرة الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي دشّن مرحلة جديدة في سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، بتقليل الانحياز المعتاد لبلاده مع "حلفائها التاريخيين" في المنطقة العربية، ضد الأعداء التقليديين منذ قيام الحكومة الثورية في إيران، إذ عمد إلى أخذ خطوة أقرب ما تكون إلى الحياد، عندما قال "لا يمكن أن تقنع الإيرانيين بقبول وساطة أو مبادرة لمفاوضات تحل أزمات الشرق الأوسط وأن تنحاز إلى الطرف الآخر"، إلا أن الرغبة لم تكن كافية لإنجاح مسعاه، فالخطوة التي أخذها ليكون أقرب إلى الإيرانيين جعلته أبعد عن الحلفاء التاريخيين على الضفة الأخرى من الخليج.
كان هذا جليّاً عندما غادر البيت الأبيض، لتستخدم الرياض وعواصم خليجية أخرى ثقلها الدبلوماسي والاقتصادي لدى صديقها الجديد في البيت الأبيض لإسقاط الاتفاق النووي، بعدما التقى الطرفان على العداء للاتفاق ولموقّعيه.
هذه الخطوة إن دلّت على شيء، فهي دلّت على أن حل أوباما لم يكن مقبولاً بما يكفي بالنسبة إلى الطرف العربي كما كان مقبولاً بالنسبة إلى الإيرانيين، إلا أن المقاربة التي تلتها لم تكن أقل سوءاً. فخطة الرئيس السابق دونالد ترمب لوضع حدّ لحالة اللاإستقرار التي تغذيها "حرب إيران في المنطقة" بحسب جيرانها، كانت انسحاباً من الصفقة النووية بالكلّية وفرض أقسى العقوبات في التاريخ تجاوزت في عددها الـ800 عقوبة.
وعلى الرغم من الأذى الكبير الذي ألحقته تلك الحزمة العقابية بالنظام الإيراني، إلا أنها لم تجعل جيرانها أكثر أماناً، بل جعلت طهران أقل خوفاً من العواقب بعدما باتت لا تملك ما تخسره، ما قاد الصراع في المنطقة إلى التصعيد بدلاً من محاصرة قدرات طهران العسكرية، على الرغم من رهان ترمب وحلفائه على قدرة العقوبات على إحداث تغيير جذري على المدى البعيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من سعي الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن للبحث عن دور أكثر دبلوماسية، إلا أن مواقفه في اليمن التي لا تعجب السعوديين ولم تنجح بالمقابل في إقناع الحوثيين بالكفّ عن عملياتهم العسكرية، لا يبدو أنها قادرة على إيجاد حل كامل، ما يطرح تساؤلاً حول ما في جعبة البريطانيين، أصحاب النفوذ الأقدم في المنطقة.
دبلوماسية الحلول القابلة للتطبيق
وبالحديث عن تجربة أميركا في اليمن، يجدر تقييم الدبلوماسية البريطانية هناك أيضاً، إذ قادت لندن جهوداً داعمة لموقف المبعوث الأممي مارتن غريفيث لإيجاد موقف مشترك يمكن البناء عليه للحل في البلد ذي الحلول المنقوصة.
فقبل أن يخوض غريفيث في جولته الأخيرة للتحضير لطاولة مفاوضات بناءً على المبادرات القائمة، تحدث مصدر دبلوماسي بريطاني لـ"اندبندنت عربية" مؤكداً نجاح بلاده بتحقيق اختراق في جدار الخلاف عن طريق تأسيس وثيقة تم على إثرها البدء في مفاوضات سياسية غير مباشرة بين الشرعية والحوثي.
وأضاف المصدر أنه "تم التواصل مع وزير الخارجية اليمني أحمد بن مبارك، والناطق باسم الحوثيين محمد عبد السلام، واشترط الأول وقفاً شاملاً لإطلاق النار، في حين اشترط الثاني، فتحاً كاملاً لمطار صنعاء وميناء الحديدة"، وباتت تلك الشروط اليوم وثيقة نهائية لتأسيس حوار مقبل تتضمن الحد الأدنى من مطالب الطرفين على أن لا يشترطوا ما هو أكثر من ذلك قبل الجلوس إلى الطاولة.
وحول الخطوات العملية، قال "يقود المبعوث الخاص باليمن مارتن غريفيث الجهود لإقناع كل طرف بشروط الآخر ضمن الميثاق لإبداء حسن النوايا والانخراط بعدها في العملية التفاوضية"، الأمر الذي بات أكثر جلاءً اليوم عقب تخفيف القيود عن ميناء الحديدة.
هذا الاختراق على الرغم من عدم بلوغه النتيجة التي يمكن من خلالها إنهاء الحرب حتى هذه اللحظة على الأقل، إلا أنه نجح في تأسيس قاعدة ينطلق منها غريفيث الذي ظل طيلة السنوات الماضية يبحث عن نقطة يلتقي فيها مع الأطراف غير الملف الإنساني.
وفي إطار الحديث عن حلول الشرق الأوسط، تأتي زيارة مبعوث لندن إلى الخليج في وقت باتت الأخبار عن لقاءات سعودية إيرانية في بغداد أقرب إلى التصديق، مع تأكيدها من قبل مصادر عدة بعدما كشفت "فاينانشال تايمز" السرية عنها قبل أيام، ما ينبئ بدور ربما تلعبه لندن في محاولة الاحتواء الدولية للصراع.
زوّار الأزمات
الأجواء المرتبكة في العلاقة بين واشنطن والرياض بعد أن قرر بايدن "إعادة ضبط العلاقة مع السعودية"، هي أجواء يجيد البريطانيون التحرك خلالها.
ففي ظل سيطرة مصانع السلاح الأميركي على الترسانة العسكرية السعودية، في مقدمتها أنظمة الدفاع الجوي، وجدت المملكة المتحدة في أنصاف الخلافات بين السعودية والولايات المتحدة فرصة لاستعراض منظوماتها الجوية التي لا تلقى رواجاً في سوق السلاح الكبيرة في المنطقة العربية، إذ وافقت بريطانيا على إرسال قوات ومنظومات دفاعية من نوع "كام" إلى السعودية في يونيو (حزيران) الماضي، بعد أن سحب ترمب عدداً من قواته وبطاريات الدفاع الجوي التي تنشرها وزارة الدفاع الأميركية في السعودية منذ استهداف منشآت "أرامكو" في سبتمبر (أيلول) 2019.
هذه المنظومات عالية التطور لا تجد لها حصة من الإنفاق العسكري الخليجي الكبير على الرغم من تطورها، إلا أنها نجحت في استعراض قدراتها وإمكاناتها في تعويض "ثاد" أو "باتريوت" عن طريق الاستثمار في أنصاف الأزمات.
إلا أن الأمر الآن بات أكثر أهمية بالنسبة إلى الإنجليز، بخاصة بعد أن أعلن بوريس جونسون عن عالم بلاده الجديد في استراتيجيتها التي كشف عنها الشهر الماضي. فقد أكدت الوثيقة "العلاقات التاريخية القوية مع منطقة الشرق الأوسط، وضرورة تعميق هذه الروابط لتصبح بريطانيا من شركائها الرئيسيين، وبناء الشراكات الأمنية الوثيقة مع السعودية وإسرائيل، لحماية مصالح المملكة المتحدة في المنطقة بشكل أفضل". وأضافت الوثيقة "سنقدم عرضاً أمنياً أكثر تكاملاً لحماية مصالحنا، والعمل مع شركائنا لتعزيز وتحديث قدراتهم الأمنية لضمان الاستقرار الدائم في المنطقة" وهو ما يُعدّ ضرورة لتعزيز الفرص الاقتصادية والاستثمارية مع شركاء بلاده في المنطقة.
هذا الاستحقاق يجعل من نجاح المنطقة في الوصول إلى حد أدنى من التفاهم وإلى شكل مقبول من الهدوء، أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى الإدارة البريطانية، التي تنظر إلى الشرق الأوسط ومنطقة "آسيان" بصفتهما يقعان في صلب النهضة الإنجليزية الموعودة، ما يعزز من فرص لعبها دوراً أكثر حيوية من الأميركي الذي لم يعُد يأبه بالإقليم.