الاغتيالات تحيي الشارع العراقي: تظاهرات وانسحابات من الانتخابات
هتافات معادية للنظام الإيراني خلال تشييع الوزني (محمد صواف/فرانس برس)
خلطت جريمة اغتيال رئيس تنسيقيات التظاهرات في محافظة كربلاء جنوبي العراق، الناشط إيهاب الوزني، ليل السبت - الأحد الماضيين، برصاص مجهولين في مدينة كربلاء، الأوراق السياسية والميدانية في البلاد، منذرة بتصعيد في الشارع، برزت أولى مؤشراته بعودة الاحتجاجات في خمس مدن عراقية جنوبية رئيسية، مطالبة السلطات بكشف الجهات التي تقف خلف قتل الناشطين المدنيين. ورافقت هذه التظاهرات، التي استمرت حتى ساعات الفجر الأولى أمس الإثنين، عمليات حرق ملحقٍ تابع للقنصلية الإيرانية في كربلاء، التي حاصرها العشرات من الشبّان مرددين هتافات مناوئة لطهران، ما استدعى "احتجاجا" من وزارة الخارجية الإيرانية. وجاء ذلك فضلاً عن حرق المتظاهرين مقرّاً لحزب "الدعوة" في بابل المجاورة، وتمزيق وحرق صور زعامات إيرانية كانت فصائل مسلحة رفعتها لإحياء "يوم القدس العالمي"، الذي تقيمه في أواخر شهر رمضان، من كل عام. ولم تقتصر تداعيات الجريمة على الجانب الميداني، بل كان له انعكاس سريع على العملية السياسية، مع إعلان عدد من القوى السياسية المدنية تعليق مشاركتها في الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في 10 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، أو الانسحاب منها كلياً.
أحرق المتظاهرون ملحقاً تابعاً للقنصلية الإيرانية في كربلاء
وفي محاولة لتهدئة الأوضاع، بدأ مستشارون لرئيس الحكومة مصطفى الكاظمي تحركات واسعة في مدن كربلاء والنجف والناصرية، لاحتواء أي تصعيد إضافي من قبل المتظاهرين، وفق ما كشف ناشطون. وجاءت هذه التحركات بالتزامن مع استعدادات أمنية واسعة، تضمّنت إغلاق طرق رئيسية قرب مبانٍ حكومية وأمنية، وقرب قنصليات إيران في كربلاء والنجف والبصرة، حيث رصد صباح أمس العشرات من رجال الأمن العراقيين، خلال عملية انتشارهم في محيط تلك القنصليات.
وتعليقاً على ذلك، أكدت مصادر في بغداد، لـ"العربي الجديد"، أن الحكومة تسعى لاحتواء أي موجة تصعيد من قبل المتظاهرين، وأنها تواصلت مع ناشطين وشخصيات بارزة في مدن جنوبية عدة، عبر مستشارين لرئيس الوزراء بهدف التهدئة. وبحسب المصادر، فقد طلبت الحكومة من الناشطين إلغاء ندوة لهم من المقرر عقدها اليوم الثلاثاء على تطبيق "كلوب هاوس" لحشد الشارع، لكن مساعيها لذلك باءت بالفشل. وأكدت المصادر أن محاولة اغتيال الصحافي أحمد حسن، فجر أمس الإثنين، في بلدة الديوانية جنوبي العراق، فاقمت المشهد الجنوبي بشكل عام، فيما تتهم الحكومة مليشيات مسلحة بمحاولة إثارة الشارع مجدداً لعرقلة إجراء الانتخابات وإفشال الجهود الحكومية، بحسب المصادر.
وكانت الاحتجاجات التي اندلعت ليل الأحد - الإثنين، قد تخللتها أعمال حرق قرب القنصلية الإيرانية في كربلاء، حيث نظّم العشرات احتجاجات وأحرقوا "غرف" الحماية الخاصة بالقنصلية. وقبل التظاهرة بساعات، شيّع المتظاهرون جثمان إيهاب الوزني، أحد أبرز الوجوه الاحتجاجية في المدينة، هاتفين من داخل مرقد الإمام الحسين: "إيران بره بره". أما في بابل، فقد تظاهر ناشطون بالقرب من جسر الثورة، وقطعوا الطريق. وفي بغداد، خرج المتظاهرون إلى شارع "سريع الدورة" وحي العامل، كما برزت دعوات للتوجه إلى ساحة التحرير، مركز الاحتجاجات في العراق، إلا أن الانتشار الأمني الكبير حال دون ذلك. وتظاهر شبّان في مدينة النجف، وفي الصويرة التابعة لمحافظة واسط، مع توقعات بأن تزداد نسب المشاركة في التظاهرات خلال الأيام المقبلة، بالتزامن مع موعد بدء حظر التجول الوقائي الذي فرضته السلطات حتى 22 مايو/أيار الحالي. وأحرق متظاهرون مقر حزب "الدعوة" في بابل وسط مدينة الحلة، كما مزقوا صوراً وجداريات لزعيم "فيلق القدس" الراحل قاسم سليماني والمرشد الإيراني علي خامنئي، وأحرقوا بعضها كما نقلت لقطات مصورة نشرها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي.
حاولت الحكومة التواصل مع ناشطين ومتظاهرين لاحتواء الموقف
وفي ما يرتبط بالتداعيات السياسية، رأى علاء ستار، عضو المكتب السياسي في "البيت الوطني" الذي أعلن انسحابه من الانتخابات، أن "الجماعات المسلحة والمختصة بقتل الناشطين والمعارضين الحاليين لسلطة الأحزاب النافذة، إنما هي تقتل النظام الحاكم بطريقة تدريجية، ولا تخدم غير المتظاهرين الذين يزدادون قوة وتأثيراً وشعبية". وأضاف ستار في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "السلطات العراقية ضعيفة أمام قوى السلاح، وبالتالي فإن المشاركة في الانتخابات المقبلة عبر كيانات تشرين السياسية، هي عملية توريط للمتظاهرين بدعم الطبقة السياسية التي ستعيد تكرار الفشل السياسي والإداري ذاته، وتغول السلاح في البلاد".
وكانت مجموعة كيانات سياسية مدنية قد أعلنت انسحابها أو تعليق مشاركتها في الانتخابات، أبرزها "البيت الوطني" والحزب الشيوعي وحزب "الشعب للإصلاح"، بالإضافة إلى "الاتحاد العراقي للعمل والحقوق"، وحركة "نازل آخذ حقي"، و"الجبهة المدنية الديمقراطية"، و"تيار بناة العراق"، والتي تضم بمعظمها ناشطين ومتظاهرين. وجاءت الانسحابات أو تعليق المشاركة احتجاجاً على عملية اغتيال الوزني، إضافة إلى "استمرار عمليات القتل وتهديد السلم الأهلي وانفلات السلاح والمليشيات، باعتبارها مؤشرات على فشل السلطة ونظامها المتخاذل في تطبيق أدنى درجات الحفاظ على القانون"، بحسب البيانات الصادرة عن هذه القوى.
وفي هذا الإطار، أكد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، لـ"العربي الجديد"، أن "تعليق المشاركة في العمل السياسي والانتخابات المقبلة، جاء على خلفية عدم توجّه الحكومة العراقية إلى أي إجراءات عملية وفعلية للكشف عن قتلة المحتجين والناشطين، ومن ضمنهم الناشط إيهاب الوزني الذي قتل بنفس طريقة اغتيال ريهام يعقوب وأحمد عبد الصمد وهشام الهاشمي، وعشرات الوجوه المعروفة الأخرى التي ساندت الاحتجاجات في البلاد، ما يؤكد أنها ذات الجماعة التي تواصل قتل العراقيين من دون أي حضور أمني أو حكومي، لذلك فإن المشاركة في الانتخابات المقبلة في ظلّ هذا الوضع عمل غير منطقي، بل ضرب من الخيال".
ولفت فهمي أيضاً إلى "وجود مرشحين للانتخابات المقبلة عبر قوائم الكيانات المدنية الجديدة، يستقرون في أربيل وتركيا، لا يستطيعون الوصول إلى مدنهم من أجل بدء الحملة الإعلامية للمرشحين، بسبب تهديدات الجماعات المسلحة، وهو أمر كارثي ويُنذر بأزمة حقيقية في الأمن، تسعى الحكومة الحالية إلى عدم الاعتراف به". وأضاف أن "المشاركة في الانتخابات المقبلة في وضع متوتر تغيب عنه كل أشكال العدالة والنزاهة، تعني المشاركة في إنتاج نفس الوجوه والطرق وآليات العمل الحكومي والإداري في البلاد"، مؤكداً أن "مفوضية الانتخابات تعلم بالمخاطر التي تواجه المدنيين العراقيين الراغبين بالمشاركة السياسية، ولذلك فقد تحفظت عن نشر أسماء المرشحين للانتخابات لأن في ذلك خطرا على حياة الشباب الجدد". ورأى أن "هذا الأمر بات صعباً، لذلك أمام حكومة الكاظمي خمسة أشهر لتصحيح المسار، والكشف عن قتلة المتظاهرين، ولا بد أن يصاحب ذلك ضغط شعبي، لذلك من المهم اللجوء مرة أخرى إلى الاحتجاجات السلمية التي كفلها الدستور للمطالبة بتوفير بيئة آمنة وحماية للمشاركين الجدد في السياسة".
الانسحابات من الانتخابات قد تحرم المجلس النيابي المقبل من الموجوه الجديدة
أما عضو حركة "نازل آخذ حقي"، عمار النعيمي، فقد أشار إلى "الغياب الواضح للتنافس الشريف بين القوى السياسية الشعبية الجديدة، وبين قوى السلاح التي تريد أن تستحوذ على القرار السياسي". ورأى النعيمي أنه "في الوقت الذي يلجأ فيه الناشطون إلى التثقيف عبر ساحات الاحتجاج ومواقع التواصل الاجتماعي، تقوم قوى اللادولة بقتل كل المعارضين والمختلفين معها بالرأي". وأشار عضو حركة "نازل آخذ حقي" في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، إلى أن "معظم الكيانات السياسية التي انبثقت من (حراك) أكتوبر/ تشرين مستعدة للمشاركة في الانتخابات من حيث النواحي اللوجستية والشعبية والجماهيرية، لكن غياب النزاهة وانفلات السلاح وتهديد المرشحين للانتخابات من المدنيين والعلمانيين تحول دون الاستمرار بمواصلة العمل".
من جهته، بيَّن الناشط السياسي البارز في محافظة النجف علي الحجيمي، أن "الأحزاب العراقية والفصائل المسلحة حاولت طوال الأشهر الماضية جذب الكيانات السياسية الجديدة لصالحها والتحالف معها وتمويلها خلال فترة الدعاية الانتخابية وإجراء الانتخابات، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها، لذلك لجأت إلى قمع أصوات الناشطين في تلك الكيانات وتهديدهم". وبحسب قوله، فقد "عاد أخيراً مسلسل الاغتيالات عبر الجماعات المسلحة ذاتها التي تعتمد نفس الأسلوب". وأكد الحجيمي في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "المتظاهرين والناشطين في الاحتجاجات العراقية لا يريدون التواطؤ مع السلطات الحالية في التأسيس لمرحلة جديدة من مراحل الفشل الحكومي في العراق"، مرجحاً أن "عمليات الاغتيالات قد تستمر حتى موعد الانتخابات المقبلة، مستهدفةً كل من يرفض العمل السياسي مع قوى اللادولة والمليشيات الموالية لإيران".
وتعليقاً على هذه التطورات، رأى الباحث والمحلل السياسي عبد الله الركابي، أن "انسحاب وتعليق عدد كبير من القوى المدنية من الانتخابات المقبلة يعني انسحاب القوى الممثلة للتظاهرات في البلاد، وبالتالي فإن استمرار قرار انسحابها، يعني خسارة الأحزاب التقليدية التنوع في مجلس النواب المقبل، وبهذه الطريقة عادت الأحزاب التي تمسك بالحكم إلى التنافس لوحدها كما الحال في الانتخابات الماضية، وهو ما يُزعج المجتمع الدولي والمنظمات العالمية".
ولفت الركابي في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن "القوى السياسية الدينية والفصائل المسلحة المتحالفة معها كانت تدعم توجّه المتظاهرين إلى تأسيس كيانات سياسية، لأنها شعرت بأهمية هذا التوجه بعيداً عن التظاهرات في الشوارع، وكانت تظن أنها ستصل إلى تحالفات مع هذه الكيانات عبر سياسة الترغيب المالي، لكنها فشلت في ذلك، ما جعلها تتوجه اليوم إلى اغتيال الأصوات المؤثرة في هذه الكيانات، الأمر الذي قد يدفع المتظاهرين إلى العودة مرة أخرى إلى الشوارع والساحات".