سلال فاكهة بحالة جيدة منذ القرن الرابع قبل الميلاد.. اكتشافات مذهلة في مدينة قديمة مغمورة بمياه المتوسط
تم اكتشاف سلال من الخوص مليئة بالفواكه التي ظلت بحالة جيدة منذ القرن الرابع قبل الميلاد، ومئات من المصنوعات الخزفية القديمة والكنوز البرونزية في الأنقاض المغمورة بالمياه لمدينة ثونيس-هيراكليون (Thonis-Heracleion) شبه الأسطورية قبالة سواحل مصر.
وتقع المدينة الغارقة بالقرب من مصب نهر النيل (فرع رشيد) شمال شرق الإسكندرية، وبالقرب من أبو قير، ويعود اختفائها وغمرها بالمياه إلى أكثر من 12 قرنا من الزمان، نتيجة مجموعة من الزلازل وموجات التسونامي وارتفاع منسوب مياه البحر منذ نهاية القرن الثاني قبل الميلاد وحتى القرن الثامن الميلادي، الذي شهد غرق بقاياها تحت البحر.
ويقول عالم الآثار البحرية الفرنسي فرانك غوديو -الذي يقود الاكتشافات عن المدينة الغارقة- إن المدينة المغمورة تأسست قبل تأسيس الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد، وعرفت المدينة أوقاتًا مجيدة كونها ميناء إلزاميا على جميع السفن القادمة إلى مصر من العالم اليوناني. وكان لها أيضًا أهمية دينية بسبب معبد آمون، الذي لعب دورًا مهمًا في الطقوس الدينية القديمة، ويعتبر في موقعه الإلكتروني أنه “ربما تأسست المدينة في حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، وخضعت لكوارث طبيعية متنوعة، ثم أخيرا غرقت بالكامل في أعماق البحر الأبيض المتوسط في القرن الثامن الميلادي”.
قبل اكتشافها عام 2000 من قبل “المعهد الأوروبي للآثار تحت الماء” (IEASM)، بقيادة فرانك غوديو، لم يكن هناك أي أثر لمدينة تونيس هيراكليون، وكان اسمها قد اختفى تقريبًا من ذاكرة البشرية، ولم يتم حفظه إلا في النصوص الكلاسيكية القديمة والنقوش النادرة التي عثر عليها علماء الآثار على الأرض؛ إذ يخبرنا المؤرخ اليوناني هيرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد) عن معبد عظيم تم بناؤه حيث وطأت أقدام البطل الشهير هيراكليس أرض مصر لأول مرة.
اكتشافات جديدة
أورد تقرير لصحيفة “غارديان” (The Guardian) البريطانية، أن هذه اللقى ظلت على حالها منذ اختفاء المدينة تحت الأمواج في القرن الثاني قبل الميلاد، ثم غرقت أكثر في القرن الثامن الميلادي، بعد الكوارث الطبيعية الكارثية، بما في ذلك الزلزال وموجات المد، وأوضح التقرير أن هذه المدينة التي تحمل الاسمين المصري واليوناني (ثونيس المصري) و(هيراكليون اليوناني) كانت على مدى قرون أكبر ميناء في مصر على البحر الأبيض المتوسط.
وأضاف أن الموقع الشاسع -في خليج أبو قير بالقرب من الإسكندرية- نُسي حتى أعاد غوديو اكتشافه قبل عقدين من الزمن، في واحدة من أعظم الاكتشافات الأثرية في الآونة الأخيرة.
كانت التماثيل الضخمة من بين كنوز حضارة غنية تجمدت في الزمن. وتم عرض بعض الاكتشافات في معرض كبير في المتحف البريطاني عام 2016.
وأشار إلى أن غوديو تفاجأ بآخر هذه الاكتشافات وقال لغارديان إن سلال الفاكهة كانت “لا تصدق”، حيث لم يمسها أحد لأكثر من ألفي عام؛ إذ كانت لا تزال مليئة بالدوم، ثمرة نخلة أفريقية كانت مقدسة عند قدماء المصريين، وكذلك بذور العنب.
وقال “لم يصب الخراب أي شيء، كان من المدهش للغاية رؤية سلال من الفاكهة”، مضيفا أن أحد تفسيرات بقائها بحالة جيدة قد يكون أنها وُضعت داخل غرفة تحت الأرض، مشيرا إلى دلالة محتملة لها علاقة بالجنائز.
تلة كبيرة
عُثر على هذه الآثار داخل منطقة اكتشف فيها غوديو وفريقه تلة كبيرة (تل مرتفع فوق القبور) يبلغ طولها نحو 60 مترا وعرضها 8 أمتار وعروض جنائزية يونانية فاخرة.
يعود تاريخ هذه التلة إلى أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، عندما عاش التجار والمرتزقة اليونانيون في ثونيس-هيراكليون. وكانت المدينة تسيطر على مدخل مصر عند مصب الفرع الكانوبي لنهر النيل. وقد سُمح لليونانيين بالاستقرار هناك خلال الفترة الفرعونية المتأخرة، وقاموا ببناء ملاجئهم الخاصة.
قال غوديو عن المدفن الضخم “إنه يشبه جزيرة محاطة بالقنوات. في تلك القنوات، وجدنا كمية -لا تصدق- من الترسبات المصنوعة من البرونز، بما في ذلك الكثير من تماثيل أوزوريس، إله الخصوبة المصري القديم.”
وأضاف “في تلك الجزيرة، شيء مختلف تماما. وجدنا مئات الترسبات المصنوعة من السيراميك، واحد فوق الآخر. هذا سيراميك مستورد، أحمر على أشكال سوداء من العلية”.
خزف وجرار ومشغولات برونزية
ويستمر غوديو قائلا إن هذه الاكتشافات تُعتبر أكثر إثارة للاهتمام نظرا لوجود كميات هائلة من الخزف المصغر، نماذج يونانية قديمة عالية الجودة، بما في ذلك أمفورا (جرة أو إبريق يوناني أو روماني قديم طويل بمقبضين وعنق ضيق)، تحت التلة. وكانت المشغولات البرونزية موجودة حول التلة، بما في ذلك المرايا والتماثيل الصغيرة”.
وجد غوديو أيضا أدلة كثيرة على الحرق، مما يشير إلى احتفال “رائع” أدى إلى منع الناس من دخول هذا الموقع مرة أخرى. يبدو أنه أغلق لمئات السنين حيث لم يتم العثور على أي من القطع الأثرية التي تم العثور عليها في وقت لاحق من أوائل القرن الرابع، على الرغم من أن المدينة عاشت لعدة مئات من السنين.
لغز كبير
قال “هناك شيء غريب جدا هنا، ربما تم استخدام هذا الموقع مرة واحدة، ولم يتم التطرق إليه من قبل، ولم يتم التطرق إليه بعد ذلك، لسبب لا يمكننا فهمه في الوقت الحالي إنه لغز كبير”.
يأمل غوديو في العثور على إجابات داخل بعض الكنوز، والتي تشمل بقايا كنبة خشبية للمآدب محفوظة جيدا، ومزهرية كبيرة في العلية وتميمة ذهبية ذات “جودة رائعة”.
سفينة بطليموسية
على بعد نحو 350 مترا، وجد علماء الآثار أيضا سفينة “بطليموسية” فريدة يبلغ طولها 25 مترا، وقد تم بناؤها وفقا للتقاليد الكلاسيكية، مع المفاصل، إلا أنها تحتوي أيضا على ميزات البناء المصري القديم، بتصميم ذي قاع مسطح كان من الممكن أن يكون مثاليا للملاحة في نهر النيل والدلتا.
ويقدّر غوديو أن احتمال حدوث المزيد من الاكتشافات أمر محيّر، فحتى بعد إجراء عمليات التنقيب المتكررة على مدى العقدين الماضيين، تم استكشاف حوالي 3% فقط من المنطقة حتى الآن.
يعمل المعهد الأوروبي للآثار المغمورة بالمياه، بقيادة غوديو، بالتعاون الوثيق مع وزارة السياحة والآثار المصرية وبدعم من “مؤسسة هيلتي” (Hilti Foundation)، وستتم دراسة الاكتشافات وحفظها قبل عرضها في المتاحف.
ويعد علم الآثار الغارقة علما حديثا، لا يزيد عمره عن قرنين من الزمان، وفى مصر كان التركيز بشكل دائم على آثار ما تحت الأرض، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
ولا تزال آلاف القطع الأثرية والمدن المطمورة تحت سطح البحر في شواطئ الإسكندرية عرضة للتآكل والطمس بفعل تلوث مياة البحر وأعمال الردم، وهو ما دفع عددا من المثقفين والأثريين إلى الدعوة لحماية هذا التراث وتحويله إلى متاحف تحت الماء فيكون مصدر جذب للملايين من السياح.