"شرائع حمورابي" قوانين للعدل والاقتصاد والحكم التوحيدي قبل 4 ألفيات
قد يكون حمورابي منسياً بعض الشيء اليوم، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط، التي كان يجدر بها ألا تنساه ولو ساعة واحدة. فمن دون مبالغة يمكن لمن يقرأ سيرته، من ناحية، ومن يطلع على نصوص شريعته المدهشة والمبكرة زمنياً إلى حد الإفراط من ناحية أخرى، أن يكتشف خلف هذا الاسم تقدماً تشريعياً وصرامة إدارية وتأسيساً لحكم ساد في منطقتنا قبل نحو أربعة آلاف عام. وقد يكون منطقياً أن نقول من المستحيل على أكثر الحالمين خيالاً في عالمنا اليوم أن يحلم بما يدنو منهما، ولو من بعيد. ربما يكفي القول، إن مجموعة القوانين المعروفة باسم شريعة حمورابي تكاد تكون حتى اليوم مثالاً يحتذى لأفضل قواعد الحكم العادل، سواء عنينا بهذا التعبير حكم مملكة ما، أو أحكاماً قضائية تحكم بالعدل بين الناس.
بين الشرائع والتنظيم الإداري
ولنبادر هنا إلى القول إن النصوص التي ترجع إلى حمورابي ليست فقط تلك الشرائع الحقوقية القانونية العظيمة التي ظهرت في عالم كاد يكون بعد في غمرة همجيته، بل تضم كذلك ما اكتشفه باحثون أركيولوجيون من رسائل عديدة كان حمورابي يتداولها مع مندوبيه في المناطق البعيدة عن عاصمة ملكه، بابل، وتحمل توجيهات منتظمة حول الحكم والإدارة، بما في ذلك تفاصيل توجيهية تتعلق بشؤون الزراعة والتوزيع العادل وتقنيات الري وشق الأقنية مع حرص حمورابي على أن تحمل ردود مساعديه ونوابه إليه أجوبة واضحة وإيجابية تتعلق بكل ما يطرح من مسائل.
وعلى أهمية هذه المراسلات والمسائل التي تبحثها، سنكتفي هنا بالحديث عن متن النصوص التي تؤلف ما يعرف بـ"شريعة حمورابي" لبعدها الكوني، وكذلك لأن ثمة كثراً من المؤرخين والعلماء يتحدثون دائماً عن انتشارها وتأثيرها منذ تلك الأزمنة المبكرة في العدد الأكبر من المناطق المأهولة، حيث شكلت المرتكزات الأساسية لمعظم الشرائع القانونية التي عرفتها تلك المناطق، وربما لا تزال تفعل حتى اليوم.
مراسيم المساواة
حمورابي نفسه، الذي أسس الإمبراطورية البابلية، وحكمها بين عامي (1728 و1686 ق م)، بحسب التقديرات، كان يسمي شريعته "دينات ماشاريم"، أي "مراسيم المساواة". وصاغها انطلاقاً من مجموعة كبيرة من قوانين وشرائع جمعها من عدد من المدن والمناطق ذات المجتمعات الثابتة في منطقة سومر، كانت تطبق عملياً من قبل تأسيسه مملكته، بل منذ بدايات الممالك السامية في منطقة بين النهرين، لكنه عمل على تنقيحها وعصرنتها كي تتلاءم مع دولته التي كان يريدها حديثة، ومع حكمه الذي كان يريده عادلاً.
وبعد أن وحد تلك النصوص أمر بتدوينها محفورة بأحرف كونية على نصبين كبيرين من الصخر الأسود لا يقل ارتفاع كل منهما عن مترين وربع المتر، ويوجد أحدهما اليوم في متحف اللوفر الباريسي. ولقد أقيم النصبان في مواجهة معبد مكرس للإله شماش (الشمس)، بحيث تكون النصوص معروضة أمام المواطنين بكل وضوح تطلعهم دون أي التباس أو مواربة على حقوقهم وواجباتهم. وتوزعت تلك "الحقوق والواجبات" على 282 مادة يفترض أن الإله شماش هو الذي أملاها بنفسه على الملك المؤسس، غير أنها في مجملها نصوص مدنية تبدو وكأنها كتبت بأقلام مجموعة من فقهاء قانون وضعيين متنبهين إلى كل ما يمس حياة المواطنين وسعادتهم والخير العام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل اللافت هنا أن الأسلوب الذي صيغت به مواد القانون ولغته يبدو واحداً، وكأن من أنجزه كان بالفعل حمورابي نفسه، كما تفترض الحكاية التاريخية. ومن الأمور اللافتة أيضاً هنا أن كل مادة من المواد تبتدئ بتعبير هو نفسه دائماً، حيث في كل مرة يكون التعبير "شم" الذي يعادله في العربية تعبير "ثم"، أو "إذا" يتلوه استعراض موجز لظرف معين يعكس قضية حقوقية معينة، ويتلو ذلك نوع من الحل للقضية المطروحة تبعاً للظرف القائم. وهذا الحل يتضمن بالتالي الحكم الذي يجب العمل به، والعقاب الذي يجدر به أن يكون من نصيب الجاني، إن كانت القضية جنائية، أو الحل الذي يتوجب العمل به، إن كانت القضية مدنية.
بكل وضوح وعدل
ولقد رأى المؤرخون القانونيون أن شريعة حمورابي هذه تتميز عن مجمل الشرائع السومرية التي سبقتها أو عاصرتها، بكون صياغتها بالغة الوضوح، وأحكامها تستند إلى أخلاقية واضحة، ما يجعلها تشكل بصورة جلية مرحلة متقدمة في اللجوء إلى التقنيات القضائية، بل تجعل حتى بعض موادها تبدو وكأنها معاصرة لنا. ولنضف إلى هذا كون نصوص الشريعة يسبقها نص تقديمي من الواضح أن الملك قد كتبه بنفسه، ليس فقط لأنه يحمل ما يبدو أنه توقيعه، بل كذلك لأنه يحمل روح سيد البلاد كما يحمل ما يمكن اعتباره معادلاً نظرياً للتاريخ السياسي الذي عرف عن حمورابي نفسه، والمتعلق بخاصة بالتنظيم الإداري وطرائق حكم المناطق البعيدة التي كانت تضم إلى المملكة البابلية فور السيطرة عليها وتحويل سكانها إلى مواطنين في مملكة حمورابي لهم حقوق البابليين، وعليهم واجباتهم بحيث تسري عليهم القوانين دون تفرقة، بالتالي كان من البديهي، وبحسب ما يؤكد الملك في مقدمته، وبعد ذلك في الخاتمة التي وضعها لشريعته، أنه ليس ثمة من مجال لإقامة أي تفريق بين هذه القوانين التي تسري على الجميع، وبين أمور التنظيم السياسي والاقتصادي، لا سيما ما يتعلق بالزراعة التي كانت تشكل بريّها وتوزيع منتجها، عماد الوضع الاقتصادي للبلاد، وهو الأمر الذي يلح حمورابي في كل حين على كونه المكانة الأولى في اهتماماته القانونية.
من السلالة إلى الإمبراطورية
كان حمورابي الملك السادس بين حكام تلك السلالة التي تسمى "السلالة البابلية الأولى"، ومع ذلك يعد هو المؤسس الحقيقي للإمبراطورية البابلية. ولئن كانت قد جرت خلال القرون السابقة سجالات واسعة حول الزمن الحقيقي لحكمه، فإن توافقاً ساد قبل عقود على اعتبار العامين المذكورين أعلاه هما اللذان حكم بينهما لمدة قد تصل إلى أربعين عاماً، وانتهت برحيله.
على أي حال، رحيله أضعف المملكة، وأزال الإمبراطورية، لكنه لم يلغِ أياً من الشرائع الحقوقية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن فترة حكم حمورابي لم تتميز بالإصلاحات القانونية وحدها، بل شهدت فورة ازدهار اقتصادي تبدّى فريداً من نوعه في ذلك الحين، بخاصة أنه اعتمد بشكل أساسي على تطوير الزراعة و"ميكنة" شق الأقنية، الأمر الذي أمّن مياه الري إلى مناطق لم يكن لها عهد بالزراعة، فإذا بها تتحول لمناطق زراعية، ما شجع أعداداً كبيرة من رعايا مدن وممالك مجاورة على تفضيل الانضمام إلى منطقة حكم حمورابي على البقاء في حمى الممالك المجاورة التي راحت تبدو شديدة التخلف والفقر مقارنة بتلك المملكة الصاعدة التي كان يعرف اللاجئون إليها، أو حتى الذين كانوا يضمون قسراً بفعل الفتوحات والحروب، أنهم تحت حكم حمورابي، وبفضل شرائعه وإصلاحاته وتحديثاته، سينعمون بمصير أفضل!
ولقد خاض حمورابي على أي حال حروباً ضارية، لا سيما ضد ممالك أقدم منه وأرسخ مثل مملكة عيلام التي كان يحكمها الملك (ريم – سين)، ومملكة لارسا عند المنطقة الفراتية السفلى، وهو حقق في تلك الحروب انتصارات حاسمة مكّنته من أن يسيطر بالانطلاق من بابل على مجمل المناطق السومرية والأكادية، ولو لفترات لم تطل كثيراً، بحيث إن الإمبراطورية التي بناها خلال فترة حكمه بدأت بالتفكك عند رحيله كما أسلفنا، ومع ذلك بقيت شريعته مصدر إلهام في العديد من المناطق التي شكلت دولاً وممالك جديدة من بعده، فهمت على أي حال مسألة الارتباط بين الازدهار الاقتصادي والتنظيم السياسي وحكم القانون على الطريقة الحمورابية.