ماذا تعرف عن "الطائفة الذهبية"؟
يجاور الصابئة المندئيون المياه ومجاري الأنهار، كجزء من عقيدتهم التي انتشرت في بلاد الرافدين منذ القدم، حيث يقول الشيخ ستار جبار حلو رئيس الطائفة الصابئية في العراق والعالم لـ"اندبندنت عربية": "يعتبر الماء الركيزة الأساسية للديانة المندائية، ولا يمكن إجراء أي طقس ديني من دون الماء، والماء أنواع كما في النصوص الدينية في كتبنا المباركة، هناك الـ"ميعي"، وهو الماء الحي، في عوالم الأنوار الخالدة العليا، والماء الجاري- ماء "اليردنة" هو الذي له منبع ومصب واضحان ويجري بشكل مستمر، ومياه العيون ولا يمكن إجراء الطقوس الدينية في مياه البحار أو المياه، أو في المياه المرة أو الراكدة والآسنة، لأنها تعد مياهاً ميتة، وليس فيها حياة، ولا يمكن إجراء الطقوس المندائية الدينية فيها". والمندائية إحدى الديانات الإبراهيمية الموحدة الأربع.
كيف ورد ذكرهم في القرآن
ذُكروا في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر" البقرة/ 62، كما ورد ذكرهم في سورة الحج "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر" الحج/ 17، وفي قوله تعالى "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون" المائدة/ 69.
الصابئة لمن يتبعون؟
كما ورد اسمهم في الميثولوجيا السائدة في بلاد الرافدين أو أرض السواد لكثرة نخيلها، وهم من أتباع النبي يحيى بن زكريا، أولاد يعقوب، وهو صاحب رسالتهم وكتابهم المقدس المسمى "كنز ربه" المكتوب بالآرامية، وهم سبقوا اليهودية والمسيحية كدين، يوحدون الرب ويتبعون أنبياء الله آدم وشيت وإدريس ونوح وسام بن نوح ويحيى بن زكريا، وقد انتشروا إضافة للعراق في فلسطين، وفي عربستان.
وحين تقرأ كتابهم "كنز ربه" الذي ترجم من الآرامية للعربية، آواخر القرن الماضي في العراق بأمر من الرئاسة العراقية من خلال لجنة علمية متخصصة في اللغات الشرقية، ثم صاغه الشاعر المندائي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، يتأكد لك أن الصابئة يدعون لوحدانية الله "أن الله الحي العظيم انبعث من ذاته وبأمره وبكلمته تكونت جميع المخلوقات والملائكة التي تمجده وتسبحه في عالمها النوراني، كذلك بأمره تم خلق آدم وحواء من الصلصال عارفين بتعاليم الدين الصابئي، وقد أمر الله آدم بتعليم الدين لذريته لينشروه من بعده"، نص أصل الديانة الصابئية.
وبهذه الرؤية يؤمن المندائيون بأن شريعتهم تمتاز بالعمومية والشمول، وقد جاءت كلمة الصابئة من الفعل "صبأ" المهموز، التي تعني خرج وغير حاله، من الضلالة إلى الإيمان، ودين الحق، وهي حقبة طويلة في تاريخ البشرية حين بدأ الإنسان في تغيير ديانته وعباداته الوثنية إلى التوحيد، بعد عصور من الشرك، وتنازع الآلهة التي تصورها الإنسان، للقوى الغيبية المسيطرة، كما كان يعتقد ويرى حكماء الصابئة أن كلمة (صابئة) إنما جاءت من المندائية الأقدم من العربية والعبرية، التي تعني (تعمد، أو اصطبغ، غطس، غط) التي هي أهم طقس في الديانة الصابئية، مقترنة بالماء.
أعياد الصابئة
وللصابئة أعياد ومناسبات ما زالوا يحتفون بها، آخرها هذا الأسبوع وهو "عيد الازدهار"، وهو عيد سنوي يحتفل به مندائيو العراق والعالم، بذكرى عودة الملاك جبريل، عليه السلام، إلى السماء كما يعتقدون، بعدما كان قد نزل إلى الأرض للتبشير بالازدهار والنور، هكذا يفسر شيوخ الدين الصابئي مراسيم العيد الذي يقام على شواطئ دجلة والفرات، والاغتسال الذي يمارسه الرجال والنساء بمختلف الأعمار بملابس نظيفة بيضاء.
وهناك العيد الكبير، وعنه يقول رئيس الطائفة ستار جبار حلو: "في معتقدنا، عندما صلبت الأرض، ونجدت السماء والكواكب، ووضعت كل في مدار ربطت سرة الأرض في قبة السماء، وبدأت منها الحركة والأيام وبعدما شقت الأنهار وأينعت الأزهار والطيور وأخذت غرفة من الماء الحي ماء من عوالم النور العليا وألقيت في الماء الآسن فأصبح ماءً مستساغاً لبني البشر، وهذا هو العيد الكبير، الذي يقام في يوليو (تموز) من كل عام".
ويضيف "على حافة النهر، تجري طقوس الصباغة في الماء الجاري، وهناك يتم الاغتسال من الجنابات، ولكن الصباغة وهي طقوس دينية خاصة يتخللها قراءات دينية، وهناك الطماشة حيث يجري الانغماس بالماء أو تحت (الدُش) والاغتسال بالماء من النجاسات، ومن التقارب من الزوجة كما قال نبينا يحيى مبارك اسمه (إن تقربتم من زوجاتكم تطهروا بالماء إن بقي شعرة واحدة لم يمسها الماء فلم تتطهروا)"، ويشير إلى أنه "كذلك وجب التطهر عند مس الميت والمرأة الحائض والمرأة الواردة، وكل هذه تتطلب الاغتسال بالماء الجاري كاملاً مع قراءات دينية خاصة عليها، وهذا من جوهر الديانة المندائية".
ومن أعياد الطائفة الصابئية عيد "البنجه" أو عيد " البرونايه" ويستمر خمسة أيام يكون مقارباً لعيد نوروز "عيد الربيع" منتصف مارس (آذار)، وهو "تجليات الخالق العظيم في خلق عوالم النور وخلق الملائكة".
يقول رئيس طائفة الصابئة "وفي اليوم الأول تتجلى بصفة الأياربه- الرب العليم- وفي اليوم الثاني يتجلى بصفة "مارد ربوده"- رب العظمة- وفي اليوم الثالث تجلى بصفة "منداتي"- العليم- وفي اليوم الرابع تجلى بصفة "كوشطا"- الحق- بداية البدايات وفي اليوم الخامس تفجرت المياه الجارية "اليرادن العليا" التي خلق منها كل شيء، وبحسب معتقدنا، حيث تزال الحواجز بين الأحياء والأموات وتجرى الطقوس الدينية الكبرى للمتوفين الذين لم يأخذوا الكفن ولم يغتسلوا، حيث يُكسون بالملابس الدينية من خلال أشخاص يشابهونم، سواء كانوا رجالاً أو نساء أو أطفالاً متزوجين أو غير متزوجين، أما العيد الآخر، فهو في ولادة النبي المبارك يحيى بن زكريا (دفة ديمانا) الذي يصادف في اليوم الـ19 أو الـ20 (حسب السنة الكبيسة) في مارس من كل عام وفيه الولادة الروحية للأب يحيى"، بحسب المعتقد الصابئي.
أما عيد الازدهار في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، وفيه وفق المعتقد الصابئي (انتصر النور على الظلام من خلال الملاك جبرائيل الرسول الذي نزل إلى عالم الظلام ودعس على ذلك العالم وقيده بأمر الحي العظيم وقيد الشر وهيأ الأرض لخلق آدم وحواء) كما يورد الشيخ الحلو.
ويقوم الشيخ بقراءة نصوص من "كنز ربه" على مسامع المغتسلين في النهر بمياه جارية، وهذا شرط وجودهم هنا، في مشهد أسطوري يتكرر منذ آلاف الأعوام، تحت أعين وانتباه أبناء الديانات الأخرى الذين ينصتون عن بعد لطقوس الصابئة ومشهد غطسهم المتكرر في الماء.
كيف يتم اختيار رئيس الطائفة؟
أما رئاسة الطائفة، فقصة أخرى، فرئيس الطائفة يتم اختياره من قبل رجال الدين ومجلس عموم الطائفة في العراق وفي العالم، لمدة سبع سنوات، بحسب النظام الداخلي للطائفة وليس هناك أي تأثير من قبل المراجع للديانات الأخرى، كما أكد الشيخ الحلو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
معاناة الصابئة بعد 2003
تاريخ الصابئة الطويل يلفه الغموض، كونهم مجتمعاً يعاني من اضطهاد الآخرين الذين أرادوا تحويلهم العقائدي لدياناتهم، منذ اليهودية، لكنهم رفضوا ذلك وظلوا يحافظون على دينهم وإرثهم، يجمعهم مع الآخرين ديانة التوحيد، وكونوا مجتمع (الجيتو) أو أشبه به لممارسة طقوسهم، الذي هو جزء من عادات لا تضر الآخرين، من بينها الاغتسال والغط في الماء الجاري في حوض دجلة والفرات، لذلك سكنوا قرب الأنهار وجداول الماء، ويجمع الباحثون على أن أصلهم الشرقي من العراق، حيث أقدم الديانات قرب أور مدينة النبي إبراهيم في الناصرية بجنوب العراق، وهي إحدى عواصم السومريين الأربع أور واريدو وسومر والوركاء.
ويعد القرن السابع الميلادي عصر اكتشاف ديانة الصابئة، بعد ترجمة كتابهم المقدس إلى الألمانية فعرف بهم في أوروبا، وقامت بعدها الإنجليزية الليدي دراور، التي عاشت في جنوب العراق مدة ربع قرن لتتقصى معتقدات الطائفة المندائية وتترجم للغة الإنجليزية أغلب الكتب والمخطوطات المندائية عن الآرامية، لتسجل سبقاً علمياً في بحث الديانات القديمة.
الطائفة الذهبية
اهتم المجتمع الصابئي بالمهن الأكثر صعوبة وأغلاها فعملوا في مهنة الصاغة، التي احتكروها لقرون فأطلق عليهم لقب "الطائفة الذهبية" في العراق، برعوا في العلوم والآداب فكان منهم، في التاريخ العربي، أبو إسحاق الصابي، وثابت بن قره وولداه اللذان برعا في علوم الطب، والرياضيات والفلك وإبراهيم بن هلال الأديب الذي تولى ديوان الرسائل والمظالم العباسي، وعشرات العلماء والأدباء المعاصرين، فكان منهم أول رئيس لجامعة بغداد عبد الجبار عبد الله الذي يقال، إنه أسهم في شرح نظرية آينشتاين، وأدباء أفذاذ أمثال عبد الرزاق عبد الواحد ولميعة عباس عمارة، وعزيز السباتي وعبد العظيم السبتي وبيت المراني وآخرين.
معاناة وهجرة
لكن الصابئة شأنهم شأن كل الأقليات في العراق وقع عليهم حيف كبير جراء صعود الطائفية والغلو الديني، يؤكد ذلك رئيس الطائفة قائلاً "عانت طائفتنا بعد عام 2003 كثيراً ما تسبب في هجرة كثيرين منهم بسبب القتل والتهجير القسري والاغتصاب والخطف، إضافة إلى فقدان الأمان وعدم وجود سلطة قوية تحمي الأقليات عموماً، وعدم حصر السلاح بيد الدولة، ما تسبب في هجرة كثير من العراقيين من مختلف المكونات الدينية، لكن الأقليات كان نصيبها أكبر من هذه الهجرة، حيث كان عددنا أكثر من 70 ألف مواطن صابئي، أصبح العدد بين 15- 20 ألف صابئي، والسبب هو أعمال العنف وعدم إعطاء الحقوق وكثير من الأمور التي أدت إلى هجرة أبنائنا للخارج، وهذه حقيقة خسارة إلى الطائفة وإلى العراق وتنوعه".
ويرى رئيس الطائفة المندائية أن حماية الأقليات تستدعي تشريع القوانين سواء من السلطة التشريعية وفرضها من السلطة التنفيذية من أجل ديمومتهم والمساهمة في انتعاشهم، لا سن التشريعات العنصرية التي تسهم في سرعة هجرتهم، "هناك كثير من التشريعات التي أدت إلى إيذاء الأقليات، في العراق، إضافة إلى عدم إعطاء الحقوق وعدم تنفيذها من قبل السلطات المتعاقبة، تسببت في هجرة أبنائنا إلى الخارج في وقت نحن المكون التوحيدي الأول في البلاد ولا نؤمن بالتبشير الديني، ولا نأخذ ولا نعطي، لذا فإن هذه الهجرة أثرت علينا بشكل كبير وآذتنا كثيراً، حيث إن أبناءنا في الخارج معرضون للحركات التبشيرية وإذابتنا مع مكونات أخرى".
ويؤكد الشيخ ستار جبار حلو أن هناك تشابهاً كبيراً في أديان التوحيد و"أن المحب هو المحب للآخرين والأقرب إلى الله، لأن مصدر الأديان واحد، فنحن نلتقي بالتوحيد مع الأديان الأخرى ومنها الإسلام، كما جاء في كتابنا المبارك (كنز ربه)".