فاروق يوسف يكتب سيرة عراقية بمذاق الحنين
شذرات حياتية متفرقة، يُلملمها الشاعر والناقد العراقي فاروق يوسف، في كتابه "كأنها حياة – نصوص من سيرة مبعثرة" (دار خطوط وظلال). يمزج يوسف في هذا الكتاب بين الخاص والعام، والهم الشخصي والهم الجمعي، فينسج رؤية جديدة، تنطلق من حدود الذات، لتعبر إلى العالم الرحب، توثق الجمال والقبح وتُؤاخي بين الألم والأمل.
عبر العتبة الأولى للنص مهَّد الكاتب لمقصد الرحلة، وغاية السطور، مستخدماً أداة التشبيه "كأن" ليجمل رؤيته للحياة التي عاشها، والتي نقلها عبر نصوصه، ليشي بأن حياته لم تبلغ تصوراته عن الحياة، وإنما اقتربت منها، وربما ابتعدت عنها لكنها أبداً لم تماثلها، بل باتت تشبهها وحسب. وهكذا، مرر الكاتب طيفاً من الألم، ظل مصاحباً لكل محطات رحلته، وإن لونها في بعض الأحيان بشيء من الرضا.
كذلك كان الشق الثاني من عنوانه "نصوص من سيرة مبعثرة"، دالاً على انتهاجه التجريب والتفكيك، واتباعه اللانسق، فلا أحداث متسلسلة، ولا زمناً متدفقاً، وإنما هي لحظات ومواقف متفرقة، في فضاءات مكانية منفصلة، وزمنية متباعدة، اقتنصها من رحلته، التي توزعت بين الوطن والغربة، لكنها جميعها تشاركت وحدة الشعور ولسان السرد.
العتبة الثانية التي استهل بها يوسف نسيجه، كانت اقتباساً من الروائي الفرنسي مارسيل بروست: "الأفضل أن يرى الإنسان حياته في الحلم بدلاً من أن يعيشها. مع أن عيشها هو أيضاً أن يراها في الحلم، وإنما بغموض أقل وبوضوح أقل في آن معاً" (ص2)، ليؤكد غموضاً واغتراباً يغلف الرحلة، ويمرر ضمناً تساؤلات جدلية عن ماهية الحياة.
لغة أخرى
شرع الكاتب في تأسيس بنائه بلغة مغايرة، تجلى عبرها تكوينه الثقافي، واحترافه فنوناً عدة، يجمع فيها بين الشعر والرسم والسرد، ليمنح المجاز في نصوصه بطولة مطلقة، انطلق منها إلى مساحات لا محدودة من الخيال. وكان للمفارقة الكبرى التي تسنى له معايشتها ومقاربتها واقعاً، في حياة توزعت بين الوطن والغربة؛ أثراً في رصد وتوثيق العديد من الثنائيات الحياتية المتقابلة عبر سيرته، والتي تنوعت بين الثلج والدفء، والعزلة والصخب، والخوف والأمان، والحياة والموت. وقد أتاحت له تلك الثنائيات المتناقضة ممارسة نوع من النقد للواقع العراقي، وللعراقيين في لحظات زمنية متفرقة.
كتاب السيرة (دار خطوط وظلال)
وعلى الرغم مما يمكن وصف النسيج به، من كونه نوعاً من الأدب الشخصي، فإن فاروق يوسف لم ينقل تجربة الذات وسيرتها، في حدود النفس الضيقة، وإنما جاوزها إلى حدود أوسع وأكثر شمولية، فطرق قضايا الوطن الكبرى، ليوثق تاريخاً من المآسى، تجرعها العراق على مدار عقود متوالية، كما تجرعها في حقب تاريخية أبعد. فرصد الأزمات العراقية مع دول الجوار، لا سيما إيران وأفغانستان، التشرذم والتعصب، والحصار الاقتصادي الذي أودى بحياة أكثر من مليون ونصف المليون طفل عراقي، بسبب نقص الدواء والغذاء، تحت مظلة الشرعية الدولية، ودفع العراقيين للهرب من الوطن والقفز من السفينة، سعياً للنجاة باللجوء... "قفز أهلي كلهم. المجانين قفزوا وتركوا البيت خالياً". كذلك مرر قضايا أخرى كالاحتلال الأميركي، كخيانة بعض العراقيين في الخارج لوطنهم وتأييدهم للمحتل، والهيمنة الإيرانية واحتضار الأمة التي كانت من قبل قبلة التاريخ. هكذا بدا الكاتب مسكوناً بالوطن وآلامه على الرغم من الغربة والارتحال، وعلى الرغم ذاتية السيرة. فبينما استحوذت على عينيه مشاهد الثلج والغابات والحدود والقطارات، كانت ذاكرته مرصودة للحنين وحسب، وما إن أشرقت فيها شمس اللغة حتى تجلى الدفء في نصوصه المبعثرة، وأضاءت بصور الأعظمية، والوزيرية، وشارع المغرب، وشارع الرشيد، والفلوجة، والنجف، وغيرها من معالم الوطن.
حكايات غير مكتملة
لم ينتهج الكاتب أسلوباً مباشراً للسرد، وإنما كانت الضمنية والدلالة والرمز وسيلته للحكي وتمرير الرؤى. وكانت الحكايات غير المكتملة، طريقاً ناجزاً، أبرز عبره ما أغفله من أحداث، وأضاء به ما غيبه من تفاصيل. فحين جاء على ذكر ولاية الفقيه، أضاء ما أغفله من التدخل الإيراني في العراق. وحين جاء على ذكر جيش المهدي، أضاء ما سكت عن ذكره من تبعات وجود الاحتلال الأميركي في العراق، وما قامت به قوات التحالف من جرائم، اقتضت ظهور مقاومة عراقية. وحين استدعى هيمنغواي، أضاء ما أغفله من ويلات وأهوال الحروب، التي جسدها أدباء وكتاب غيره. وحين استدعى نوري السعيد، أضاء ما أغفله من تاريخ الرجل الذي باع نفسه للمستعمر وكان له يد تسلب الوطن وتقتل أبناءه: "أنعم بالنوم مثل ملك. مثل ملك أقود القراصنة إلى البئر والقيهم في جوفها... كانت امرأة دوشان تصعد السلم. وكان نوري السعيد قد خرج من البئر" (ص14). اعتمد الكاتب أسلوب السرد الذاتي، ما يتسق مع طبيعة السيرة الذاتية، لكنه مارس التجريب، عبر الخروج من الذات، واستبدال ضمير المتكلم بضمير المخاطب، في بعض مواضع النسيج. ليغلفه بمزيد من الجمالية والصدق، ويتيح لصوت السارد مزيداً من القدرة على النقد والتفنيد وجلد الذات. ومثلما استخدم اللغة جسراً، وصل به بين الشرق والغرب، استخدم الجسر نفسه، في العبور إلى الماضي وإعادة إنتاج التاريخ، ليبرز مزيداً من التناقضات بين الحاضر والماضي، حضارة التاريخ وكبوة الراهن، التي تشبه الموت. فبلغ عصور السومريين وحضارتهم في بلاد الرافدين، جناين بابل. وبلغ أيضاً العصر العباسي، واستدعى بعض صحوته، وازدهار حركة الترجمة والفلسفة، عبر الإشارة إلى "إخوان الصفا". واستخدم تقنيات التقابل والتماثل، ليمزج بين القديم والحديث، ويزيل الحدود الزمنية الفاصلة بينهما، ويقارن بين قوة ما كان، ووهن ما حل، لا سيما حين استدعى شخصية أبو الطيب المتنبي وقصيدته المقفاة بالـ"ها"، والتي تسببت في موته.
"كان الشاعر العباسي محقاً حين قال (ها)، ففي تلك الـ(ها) كان حتفه. نحن لا نملك حتى (ها) المتنبي. كان المتنبي رائياً، صبوراً، خالقاً ومتأنياً في التأمل. خبرته هي نتاج عصور من الذهب، أما خبرتنا فقد التهمتها المعادن التي تصدأ".
ماذا فعل البرابرة؟
لم يكن يوسف يعبر عن اتساع ثقافته وحسب، حين زجّ إلى نسيجه بشخصيات تاريخية كبيرة، بعضها، رسامون، وكتاب، وشعراء، وإنما كان أيضاً يدلل على حضارة بقعة من العالم، توالى على النيل منها برابرة كل العصور، المغول، والفرس، والعثمانيون، والإنجليز، وأخيراً جنود التحالف، فنالت موتاً لم تكن تستحقه.
وعلى الرغم من استغراقه في الهم العام سلك الكاتب خطاً ذاتياً موازياً. فدفع بين طيات نصوصه بقصص الأصدقاء، لحظات الحب ومضات الأمل. وظل يتراوح بين العام والخاص ويزاوج بين الذات والعالم في خدمة الحنين إلى الوطن. وقد عزز هذه الحالة من النوستالجيا، باستدعاء لمحات من الفولكلور العراقي، في غير موضع من النسيج... "يقول العراقيون: "ماء الحمص المغلي يشفي... وفيه شفاء إذاً". كذلك استدعى اسم مسعود العمارتلي، في إشارة لواحدة من الشخصيات الفولكلورية العراقية الشهيرة، وكان لها قصة غريبة وحظ عثر، ومصير يشبه في مأساويته مصير الوطن، إذ ماتت المرأة التي اشتهرت بغناء "البستات" الريفية العراقية، مسمومة بيد "زوجتها"، بعد أن ادّعت أنها رجل وتزوجت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تخللت النسيج ومضات من الفانتازيا، أراد الكاتب عبرها، السخرية من قتامة الواقع وعبثيته، ومقاربة شططه وجنونه، وإضفاء مزيد من الجاذبية على السرد... "قلت لها بعد أن أخذت نفساً عميقاً لأبدو طبيعياً: لا بأس سأخبرك بالحقيقة التي لن تصدقيها. أنا الجني الذي، فقد فرصته في العودة إلى عالم الجن. كنت جنياً، ولكنني سأظل سجين هذا الجسد البشري إلى وقت غير معلوم بعد أن فقدت خاتمي" (ص63).
كذلك لجأ الكاتب إلى تناصٍّ كثيف وغير مباشر مع الموروث الديني، والنص القرآني، ما أكسب السرد مزيداً من الجمالية، وأتاح مساحة كافية، لإبراز حجم معاناة الوطن... "الجحيم إذاً هو اختراع إيراني. بالنسبة للعراقيين على الأقل. نار وقودها العراقيون والحجارة" (ص31). وعلى الرغم من هيمنة الشعور بالغربة، واللوم والحنين، على نصوص السيرة المبعثرة، أبى الكاتب أن يغادر نصوصه إلا بشكر الفلوجة التي جسدت – بوصفه - لحظة وفاء خارقة، لتومض وحدها وسط كل هذا الظلام.