ما بين قدسيتين
يعد سلاح القدسية من الأسلحة الدينية القديمة جدًا التي تستخدمها "السلطة" الدينية عند استشعارها أي تهديد أو خلقها لآخر، وبما أنها سلطة فلا بدّ أن يكون لديها سياسة في استخدام هذا السلاح الخطير والفعال جدًا؛ لذا فكانت ولا تزال سياسة توجيه سلاح القدسية واحدة، وهي استهداف المعارضين والرافضين للهيمنة والتسلط غير المشروع. بعبارة أخرى أن القدسية شماعة فقط لأهداف أكثر براغماتية، وبصرف النظر عن الأهداف السياسية والاقتصادية لجماعات القدسية فأنه ثمّة غاية رمزية لا تتجاوز السعي لتكريس التسلط الديني غير الشرعي وغير المشروع، إذ أن المتسلطين دينيًا يريدون مظاهر تسلطهم واضحة في المجال العام، ليفرضوا بعد ذلك ما يريدون من فروض الهيمنة، وهذه هي آلية اشتغال العنف الرمزي الذي يمارس بشكل خفي تمامًا، ويبدأ من أبسط الأوامر والينبغيات حتى يصل إلى أعلاها، إذ ما علاقة السلطة الدينية بتنظيم حياة وسلوك الناس بأدوات غير أدواتها عندما تتخذ من مؤسسات الدولة ووسائل العنف سبلاً لفرض أحكامها؟ فلو كان الأمر دينيًا لكانت أدواته دينية فقط .
في كل نهاية عام ومع اقتراب احتفالات رأس السنة ترتفع أصوات ممثلي التسلط الديني في كربلاء للمطالبة بتفعيل "قانون القدسية" في سعيهم لقمع الحريات ومنع مظاهر الفرح
كما لو كان الأمر دينيًا لكانت اغتيالات الأبرياء في كربلاء أشد حرمة من ظهور خصلة شعر امرأة وأشد حرمة من سماع أغنية أو وضع شجرة اصطناعية مضيئة في شارع السناتر، لكن منطق التسلط يفترض العكس تمامًا أي أنه يعد سماع الأغنية أشد حرمة وشناعة من إبادة جماعية. إن استعمال السلطة الدينية لأدوات مادية تتمثل بمؤسسات الدولة والعنف الميليشياوي هو اعتراف سافر بفشل أدواتها المعنوية للنفوذ إلى قلوب البشر.
اقرأ/ي أيضًا: الدين ضحية السلطة
ففي كل نهاية عام ومع اقتراب احتفالات رأس السنة ترتفع أصوات ممثلي التسلط الديني في كربلاء للمطالبة بتفعيل "قانون القدسية" في سعيهم لقمع الحريات ومنع مظاهر الفرح، وهو دليل على أن المنابر والمنائر التي تصرخ طول العام لم تنجح في إقناع الناس بـ"حرمة" الاحتفال ببداية العام الجديد.
إن تبرير المطالبة بقمع الحريات بداعي الأغلبية الإسلامية للمجتمع غير ممكن عند السير به نظريًا إلى نهايته وفق مفهوم الإسلاميين للأغلبية الذي يتحدد بمقتضاه ما يجوز وما لا يجوز، إذ يوصلنا إلى نتيجة مفادها اللا سياسة واللا تنوع واللا اختلاف واللا معارضة واللا مجتمع، إذ أن غير المسلم لا يجوز له العيش في المجتمع المسلم بصفة المواطنة المساوية للمسلم، وبذلك سيكون المسلم وحده من يعيش في المجتمع الإسلامي ثم أن المجتمع الإسلامي لا بدّ أن يكون على مذهب معيّن، وبالتالي لا يستطيع المسلم من مذهب آخر التعايش معه إذ لا يمكنه ممارسة ما لا يجيزه أصحاب المذهب الأغلب ولا يمكنه رفض ما يجيزه، ولا تنتهي السلسلة عند هذا الحد، إذ أن الاختلاف الذي يصل إلى حد التكفير موجود داخل المذهب الواحد والذي يفرض بالنهاية انعدام إمكانية العيش في مجتمع واحد لأصغر جماعة من الناس، ثم يمكن أن ينغلق المجتمع أكثر حتى ينحصر معيار الحق والباطل والأخلاقي واللا أخلاقي وما يجوز وما لا يجوز بشخص الحاكم الواحد الذي ربما لا يجد من يحكمه.
ورغم ذلك ينتهك الإسلامي "القدسية" في الوقت ذاته الذي يفرضها على الناس، ففي وقت المطالبة بقدسية كربلاء وبصرف النظر عن ملفات الفساد والاغتيالات والقتل المستمر للأبرياء من الجماعات الإسلامية، توجّه "قادة الشيعة" إلى أربيل للقاء رئيس إقليم كردستان في انتهاك واضح لقدسية البيت الشيعي، أي أن إقليم كردستان لم يعد حليفًا للكيان الصهيوني الغاصب ولا تدار منه المؤامرات على الشيعة، ولا تقصفه المقاومة المزعومة كلما رغبت بالقصف، وليس سببًا في خراب محافظات الجنوب، كما أن هذا البيت الشيعي عندما يتعلق الأمر بالمصالح السياسية، فلا يهتم أن يحل له مشاكله الداخلية حليف الصهاينة حسب ادعائهم، أي قدسية هذه التي يتحكم بها الإسلامي كما يشتهي؟
إذا كانت ثمة قدسية ما، فلا ينبغي لها أن تطال سماع أغنية أو إضاءة شجرة قبل أن تمنع كذب وتزييف وفساد السياسيين واغتيال الأبرياء واللعب على أوراق الطائفية والتحريض على الآخرين في حالة كون القدسية دينية فعلاً، أما لو كانت قدسية تسلطية فهي لا تستحق الاحترام والتطبيق إطلاقًا بقدر ما تستحق الرفض والنقد.
اقرأ/ي أيضًا:
التلوّث النفسي في بيئة الإسلام السياسي
عن الاستعمار والاستقلال.. محاولة لفكّ الالتباس