الأحزاب الدينية: صراع الدين والدنيا
يمكن للجمادات أن تتكلم في يوم ما وتفصح عن ماهيتها، لكن حينما يتعلّق الأمر بالأحزاب الإسلاموية فعلى الأرجح سنبقى نراوح في مكاننا، ولا نحصد سوى رطانات وتمويهات وتبريرات فيما يتعلق بماهية هذه الأحزاب. ما الغاية من هويتها الدينية؟ هل لديها برنامج ديني محض أم عناوين دينية وبرامج دنيوية؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا تتمسك هذه الأحزاب حتى الآن بعنوانها الديني بعد أن أثبتت الأحداث أنها أفسد تنظيمات، ربما، على وجه الأرض.
صدام حسين كان طاغية بلا شك لكنه تم النظر إليه كخصم طائفي وليس بالضرورة أن معارضيه المذهبيين يؤمنون بالديمقراطية بل قد يحتقرونها
مؤكد لا أحد لديه إحصائية كاملة حول التنظيمات الفاسدة في العالم، لكن من المؤكد أيضًا أننا لم نسمع من ذي قبل بهذه الأرقام المهولة من الأموال المنهوبة في فترة حكم التنظيمات الدينية دون أن تنعكس على واقعنا المتردي. ويبدو أن هذه الأحزاب لم تكن مهيأة للتمثيل السياسي بقدر ما كانت ردة فعل ضد حكم الطغيان طبقًا للذاكرة المذهبية. أي أن صدام حسين كان طاغية بلا شك، لكنه تم النظر إليه كخصم طائفي، وليس بالضرورة أن معارضيه المذهبيين يؤمنون بالديمقراطية بل قد يحتقرونها.
اقرأ/ي أيضًا: ما بين قدسيتين
إنهم زاهدون عن النُظُم الدنيوية ويتحرّجون من ذكرها، بل يستخدمونها كشتيمة؛ فإذا أرادوا الحط من شأن خصومهم، يكفي كلمة "عَلماني" كإشارة إلى انحطاطه. أنهم حتى هذه اللحظة يخشون المسّ الشيطانيّ لو ذكروا العًلمانية.
العَلمانية أكثر شيطانية من كل الأموال المنهوبة. في عرف التنظيمات الإسلاموية الفاسدة، أنك معذور في نهب البلد لكنّك لست معذورًا لو تفوّهت بالعَلمانية. المهم في الأمر، ظلت العناوين الدينية البراقة التي تتمسك بها هذه التنظيمات لا تختلف كثيرًا عن الدعايات الانتخابية. ومن هنا نفهم السر في بقاء الحياة البائسة، لكثير من جمهور هؤلاء رغم المليارات التي هُدرت، والسبب واضح وجلي، وهو وجود مثل هذا الجمهور يعني ضمان استمرارية أساطير الأحزاب الدينية.
فلنسأل مرة أخرى: هل تنحصر وظيفة هذه الأحزاب بنشر القيم الدينية؛ مثل الخير، والعدل، والإحسان، أم أنها معنية بالذات بنشر القيم المذهبية، فإذا كانوا شيعة هل يعني أننا سنشهد "فكرًا سياسيًا" للإمام جعفر الصادق، وإذا كانوا سنة فهل سنشهد "فكرًا سياسيًا" مستنبط من الفكر السياسي للإمام أبو حنيفة؟
فلنعكس السؤال: ما وظيفة المؤسسة الدينية إذًا؟ هل هذه الأخيرة مسؤولة عن الوعي الفقهي، والأحزاب الدينية مسؤولة عن الوعي السياسي؟ فإذا كانت المؤسسة الدينية تقوم بواجبها الشرعي تجاه مقلديها، فهل قامت هذه الأحزاب الدينية بالواجب الشرعي أمام جمهورها لتوعيته سياسيًا وما هي الخطوط العريضة لهذا الوعي المزعوم؟
هل ثمّة فكر سياسي شيعي أم سني، في العراق بالتحديد، واضح المعالم وينعكس في أدبيات الجماعات الإسلاموية، فإن وجد ما هي مضامينه، ومن هم أبرز الفقهاء في العراق من دشّنوا فكرًا سياسيًا بمضامين واضحة؟ وإذا كان الشهيد محمد باقر الصدر له محاولة بهذا الخصوص عبر تبيان الخطوط العريضة لدستور إسلامي، فلماذا لم يستطيعوا تثبيته في الدستور العراقي؟ لو تخلينا دفعة واحدة عن كل هذه الأسئلة ونتمسك بسؤال واحد وهو كالتالي: هل هذه التنظيمات دينية محضة أم دنيوية؟
في الحقيقة، وطبقًا لما سجّلته الوقائع، أن هذه التنظيمات لا هي دينية ولا هي دنيوية! لماذا؟ إذ يفترض بكلمة "دينية" أن تحيلنا على الأسئلة أعلاه، ولحد الآن لم نجد برنامجًا دينيًا واضحًا وصريحًا في سلوكهم السياسي. ونعني بكلمة "دنيوية" هو الاعتراف الصريح بدولة علمانية تحيّد الدين عن الدولة حيث يمارس طقوسه في الفضاء العام، وكذلك نعني بهذه الكلمة فكرًا سياسيًا يميزها عن باقي التنظيمات. إذًا، ثمة منطقة حرجة وشديدة التوتر لا تفصح عن نفسها من خلال هذه الأحزاب، وهي التوتر والانحراف الشديد عن بوصلة العمل السياسي؛ في الجانب الديني تراهم يزبدون ويرعدون لو تعلق الأمر بدعاية انتخابية، لكن في عالم الصفقات والتسويات وتوزيع المغانم، فالتنازلات عن الشعارات البراقة سيجري على قدم وساق، والإيفاء بالوعود، حتى لو كانت تتضارب مع المنطق الفقهي الذي يؤمنون به، سيكون على أحسن ما يرام، وباب التحالف مع خصومهم الدنيويين أو المذهبيين سيكون مشرعًا وبلا حاجب أو بوّاب. لكن، وكما ذكرناه في مقالة سابقة، لا بد أن يكون المرشح لرئاسة الوزراء متديّن وهذا أهم ما أنجبته منظومتهم السياسية!
أليس من حقنا بعد كل هذا الجنون أن نهتدي بالعرّافات، ربما نعثر لديهنّ على الجواب الشافي حول ما يحدث في العراق السياسي وخصوصًا حول هذه الكيانات التي يحلو لها أن تسمي نفسها تنظيمات دينية؟
اقرأ/ي أيضًا:
الدين ضحية السلطة
التلوّث النفسي في بيئة الإسلام السياسي