في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة
"يا أخوان! النستلة ليست ضرورية، قلّصوا المصاريف" الشيخ جلال الدين الصغير في إحدى خطبه.
لكي نثبت صدق قضية ما علينا أن نستنطق الوقائع التاريخية بمعزل عن أمزجتنا الشخصية. فمثلًا، حين نقول إن السياسة العراقية هي فن احتقار الناس والضحك على ذقونهم، لم نجانب الوقائع على الإطلاق، رغم كمية التهكم التي توحي بها العبارة. وإضفاء التهكم على مثل هذه القضايا للتخفيف من حدّة التوتر التي ترافقنا ونحن نتتبع تاريخنا السياسي، أو بشكل أدق، تصريحات ودعوات السياسيين. فمن هذه التصريحات والدعوات نكتشف حجم الاحتقار والتعالي التي يضمرها السياسيون للشعب العراقي. كما لو أن المعجم السياسي العراقي لا توجد فيه مفردة سوى تلك المفردات التي تثير الشفقة على هؤلاء السياسيين، لأنّهم حتى هذه اللحظة يعتقدون أنهم يتعاملون مع الشعب كما لو أنه مجاميع من البلهاء والحمقى.
لم ينته صدام حسين كثقافة ومن جملة امتداداته أنّ نكاته المثيرة لا زالت تتردد على لسان الساسة العراقيين لكن بتعبير مختلف
كل العراقيين يذكرون تلك اللحظة الفكاهية الفريدة يوم خرج صدام حسين من على شاشات التلفزيون ليعلن فقدان الورقة الرسمية لحصته التموينية. وأضاف دكتاتور العراق السابق أنه لا يملك سوى بدلة رسمية واحدة، علمًا أن الشعب العراقي كان يتابع رئيسه السعيد وهو يرتدي أفخر البدلات الإيطالية والفرنسية، وينظر لكمية البذخ المبذول في أعياد الميلاد الصبيانية لشخص الرئيس، ويتحسّر على وزن الذهب المبذول في العربة الذهبية الصغيرة لهذا الدكتاتور وهو يحيي الأطفال من نافذتها الصغيرة في عيد ميلاده الميمون.
اقرأ/ي أيضًا: هل يوجد لدينا نظام سياسي؟
كانت هذه المشاهد رغم حالات النفور المضاعف الذي تسببه فينا لكنها لا تخلو من مشاهد كوميدية اعتبرها العراقيون في سنواتهم العجاف تزجية للوقت، وتعويضًا عن الروتين اليومي القاتل. وسرعان ما انطلقت النكات مثل النار في الهشيم بين عموم العراقيين. ولا يخلو بيت عراقي من هذه النكات التي كانت سلوة عزاء الناس في أيام البعث الكئيبة والمظلمة.
طبعًا، ومثلما أشرنا مرارًا وتكرارًا، أن صدام حسين كثقافة سياسية واجتماعية لم ينتهِ، ومن جملة امتدادات هذا الشخص، وبمعزل عن تقليده في الطغيان، فلا زالت نكاته المثيرة تتردد على لسان الساسة العراقيين لكن بتعبير مختلف، بل شهدنا أكثر النكات بغضًا وامتحانًا للأعصاب، ففي الثاني من نيسان/أبريل عام 2012، صرح وزير الكهرباء الأسبق حسين الشهرستاني بما يلي" نأمل أن يصل إجمال الإنتاج قبل نهاية 2013 إلى نحو 20 ألف ميغاواط، وبهذا سيكون بمقدورنا تلبية حاجة البلاد من الطاقة بالكامل، بل ونسعى إلى تصدير الفائض إلى الأسواق المجاورة، ونوّه الشهرستاني إلى أن "الحكومة ستعمل على تزويد أصحاب مولدات الكهرباء بالوقود اللازم لإجبارهم على بيع الكهرباء بأسعار تنافسية خلال موسم الصيف الحار". ونحن نعيش اليوم الذكرى العاشرة لهذه المزحة البغيضة و"التحشيش" الذي أفاض به وزيرنا الأسبق.
وهذه المرة عن حجم الأرقام الفلكية للأموال المتداولة بين نواب البرلمان وتصرف لهم كمرتبات شهرية. إذ صرحت إحدى البرلمانيات ذات يوم وأقسمت بأغلظ الأيمان أن الراتب لا يغطي معظم نفقات البيت علمًا أن راتب النائب العراقي يصل لعشرة آلاف دولار. وهذه النكتة سخيفة للغاية واعترف أنها ليست مضحكة على الإطلاق ولم تنجح هذه النائبة بإضحاك العراقيين مثلما كان يفعلها صدام حسين.
وفي 27 تموز/ يوليو عام 2017 صرح الناطق الإعلامي باسم تيار الحكمة "بليغ أبو كلل" بخصوص بعض الشبهات التي أثيرت حول حجم العقارات الفارهة التي يمتلكها السيد عمار الحكيم، فتصدى أبو كلل لهذه الشبهات ففندها بتصريحات مضمونها، أن "السيد عمار الحكيم مؤجر من قبل الدولة ولا يمتلك عقارًا باسمه، وأنهم قاموا ببناء قاعة عبد العزيز الحكيم من أموالهم الخاصة، وقد عرضت الدولة على الحكيم أن يتملّك عقارًا على حسابها الخاص لكنه رفض!"، وطبعًا صدّق العراقيون هذه النكتة الظريفة فانفجرت مواقع التواصل الاجتماعي في وقتها وفاضت قرائح الظرفاء بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
للأسف الشديد لا أملك تسلسلًا زمنيًا لسجّل النكات السياسية العراقي، لأنّي متأكد سيكون الموضوع أوسع من هذه المقالة القصيرة، لذلك مضطر للقفز أربع سنوات خارجًا عن التسلسل الزمني المعتاد وأقف عند أحداث تشرين يوم أعلن رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي عن الترشيح الالكتروني لمنصب رئاسة الوزراء، وأظنها خاتمة النكات وخاتمة الضحك على الذقون، لقد أنستنا هذه النكتة ما قبلها وما سيأتي من بعدها ويحار المرء عن حجم الاحتقار الذي يكنّه جماعة الخضراء لهذا الشعب المسكين لدرجة أنهم يعاملونه بهذه الطريقة المفضوحة والمتعمدة باستفزاز ذكاء الناس. وتيمّنًا بعادل عبد المهدي ونكتته الشهيرة أعادت جماعة الخضراء اليوم نفس النكتة لكن هذه المرة الترشيح الالكتروني لرئيس الجمهورية، غير أن النكتة الأولى، والحق بقال، لها قصب السبق في إثارة قرائح العراقيين.
المهم في الأمر، وفي ذات السياق، وفي معرض ترويج الحماسي لحملته الانتخابية الأخيرة، يفاجئنا السيد هادي العامري، بأن مأساة الجنوب وتخلف البناء فيه نابع من ذلك الحب الذي تكنّه الأغلبية الشيعية التي تسكن الجنوب منذ قرون. لذلك يقول العامري إنهم يمنعونا من البناء لأننا نحب الحسين. ومن حسن الحظ أعتبرت هذه النكتة من قبل الرأي العام من العيار المتوسط لأنها تندرج في خانة التهريج الانتخابي الذي يحصل كل دورة انتخابية.
تيمّنًا بعادل عبد المهدي ونكتته الشهيرة أعادت جماعة الخضراء اليوم نفس النكتة لكن هذه المرة الترشيح الالكتروني لرئيس الجمهورية
وبودي أن أختتم هذه المقالة بـ"فزورة" أطلقها يوم أمس ساسة الإطار التنسيقي وهي كالتالي: "نريد حكومة توافقية لأن الحكومات السابقة كانت محاصصاتية". ما الفرق بين التوافق والمحاصصة؟ وحده الله من يعلم ماذا يحدث.
اقرأ/ي أيضًا:
الواقع العراقي وشروطه المُعَقّدَة
تضامنات سياسية مٌزَيّفَة