الكيانات التشرينية: تحديات النموذج الأول
حتى وإن كنت من أشد المتشائمين إزاء الحالة العراقية، وهذا مبرر جدًا، نظرًا للانسداد الهائل الذي نعيشه نتيجة جمود النظام السياسي وعجزه التام عن الاستجابة لتغيير كبير في ديناميات المجتمع، ولكن لا يمكنك أن تخفي بعض التفاؤل نتيجةً لصعود بعض الكيانات السياسية المنبثقة من رحم الاحتجاج إلى المشهد السياسي، حتى مع كونك من غير مؤيديها.
الجمهور يعيش حالة هي مزيج بين عدمية سياسية وانعدام ثقة على مستوى واسع اتجاه "نخبه" والفاعلين والمؤثرين داخله
إن مجرد تجاوز حالة عدم الرغبة أو العجز عن البدء بخطوة اتجاه تكوين بديل سياسي، هو اختراق وإنجاز مهم بحد ذاته، ولكن أهمية هذا الاختراق تأتي من ذات المنطقة التي تنبعث منها تحديات جسام تنتظر هذه الكيانات الناشئة، أي من كونها تمثل اللبنة الأولى لمشروع سياسي حقيقي، ولتحليل الموقف الذي سيواجه هذه الكيانات في المستقبل القريب لا بدّ من معرفة أين ستعمل هذه الكيانات وفي أي منطقة، وبالتالي ما هي معاييرها ومحدداتها، وهذا مؤداه ضرورة المرور ببعض البديهيات. فمثلًا، على مستوى الحاضنة الاجتماعية فأنت تتعامل مع جمهور ناقم جدًا لم يتخلص إلى اليوم من تأثيرات الحالة الثورية، وأن دافعه للتصويت لك أنت بالذات هو دافع عقابي - أي معاقبة الأحزاب التقليدية بعدم التصويت لها. وأيضًا، وقبل كل هذا أصلًا، وبسبب انغلاق المجال السياسي وحرمان شرائح المجتمع من الممارسة السياسية نتيجة للاستبداد، فأنت تتعامل مع جمهور يجهل أبجديات العمل السياسي. بعبارة أبسط: أنت قبالة جمهور يجهل وظيفتك كبرلماني أولًا، ويجهل ما يجوز لك فعله وما لا يجوز فعله ثانيًا.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة القيادة والحضور في الكيانات الناشئة
ثم أنّ الحرمان وفي موازاته الكبت، حين يلتقيان مع انفتاح مفاجئ على ما هو موجود من مقومات حياة كريمة تتوفر حتى لأكثر شعوب المنطقة فقرًا، فإنّ أحد إفرازات هذا الخليط هو حالة غليان مستمر؛ ذلك أنّ مواكبة الجمهور للتحسن المستمر في نمط حياة الشعوب الأخرى يدفع للطموح بالمثل، خاصة بالنسبة لأجيال الخريجين الشباب، ولكن المشكلة الأكبر تنشأ حين يرتفع سقف التوقعات والطموحات هذا تزامنًا مع ضعف إمكانية الدولة على تلبية هذه التوقعات، وهذه خلطة انفجار، وأخيرًا، ونتيجة لفشل الموجات الاحتجاجية السابقة، وفشل تمثلاتها السياسية، ونتيجة للخذلان الذي تسببه مثل هذه الحالات، فأنّ هذا الجمهور يعيش حالة هي مزيج بين عدمية سياسية وانعدام ثقة على مستوى واسع اتجاه "نخبه" والفاعلين والمؤثرين داخله.
إن خلطة العوامل السلبية هذه، والتي لا أعتقد أن شهد التاريخ اجتماعها في جمهور ما، تعمل وتتفاعل ضمن بنية اجتماعية لا يمكن وصفها بوصف ألطف من كونها تركيبة اجتماعية لا تنتمي إلى المجتمع الحديث، حيث الولاء للقبيلة والطائفة والجماعة، ولا ولاء لمؤسسات الدولة بل لا قيمة ولا اعتبار للعمل المؤسساتي بشكل عام، وهذا بحد ذاته تحدٍ كبير - حتى على مستوى التنظيم الداخلي - لكيانات تقدم نفسها كمؤسسات يديرها أفراد تربطهم علاقات تعاقدية!
أما في منطقة العمل المباشر، أي في مساحة التعامل مع القوى السياسية، فأنت أمام بديهيات أخرى، افترض أن التذكير المستمر بها ضرورة، خشية ضياعها في فوضى مفاهيم مغلوطة أو أخرى لا تنتمي لتقاليد العمل السياسي أصلًا. إنّ العمل السياسي عمل كسائر الأعمال يستلزم الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية. لا أعرف من قال العكس، ولكن بسبب أجواء السياسة العراقية المنحطة والفاسدة تمامًا، قد ترسخت هذه الفكرة لدرجة أصبح البديهي أن السياسة لا تفترض بالمطلق حدًا أدنى من الأخلاق، إلى حد محو الفوارق بين السياسي ورجل المافيا (أحيانًا يكون لعمل المافيات حدًا أدنى من أخلاقيات العمل) وهذا ما يُخشى أن تنزلق إليه بعض الكيانات الناشئة فالسياسة، وإن كانت مبنية على البراغماتية، ولكنها مع ذلك لا تفترض تمييع المبادئ بالمطلق، ولا تفترض دائمًا مسح الحواف الحادة للخطاب.
أعتقد أن التحدي الأكبر ينشأ من صعوبة الموائمة بين منطقتي عمل في تناقض وتوتر مستمر لناحية معايير العمل، فالعاملون هنا سيجدون أنفسهم مستقطبين بشدة أما لجهة معايير الجمهور وتصوراته المثالية أو لجهة معايير النظام وآلياته. فبين حاضنة اجتماعية تجنح أحيانًا للغلو في تصوراتها الملائكية عن العمل السياسي، وبين مساحة عمل لا تضبطها ضابطة ولا تحدها محددات سوى تلك المتعلقة بتوازن القوى، يكون العمل أشبه بحرث حقل ألغام وتمهيده ليصبح حقلًا صالحًا للزراعة!
والخلاصة أن هذا التوتر الدائم بين هاتين المنطقتين، أي بين الشارع والسياسة، سيضع هذه الكيانات الناشئة تحت ضغط رهيب يكونون فيه طوال الوقت أمام خيارين، فأما الانزلاق نحو خطاب شعبوي يحاكي الوعي السائد لدى الجمهور، وبالتالي نحن أمام مسار ينتهي عند إنتاج خطاب فاشي/إقصائي أو في أفضل الأحوال الانكفاء والانعزال تدريجيًا عن مساحة التأثير السياسي، وفي كلاهما الخسران.
وأما الخيار الآخر، فهو استيعاب آليات النظام لهذه الكيانات وإخضاعها لأعرافه وتقاليده وبالتالي سلخها عن حاضنتها الاجتماعية تدريجيًا وتحويلها لمجرد كتل صغيرة تدور في فلك كتل أكبر على أمل كسب بعض فتات ما تغنمه القوى المهيمنة على القرار، وفي هذا الخسران أيضًا.
العمل السياسي عمل كسائر الأعمال يستلزم الحد الأدنى من المعايير الأخلاقية
أتصور أن خلق مسار آمن يبتعد عن الانزلاق نحو كلا المنحدرين، يبدأ من إبعاد عملية ترتيب الأولويات عن المزاج الشعبي وإخضاعها لمعطيات الواقع الموضوعي أولًا، ومن ثم الابتعاد عن آليات الكسب السريع وربط الخطاب بمنافع ملموسة بعيدًا عن هذيانات "فيسبوك" ثانيًا وثالثًا والأهم تكثيف التواصل مع الحاضنة الاجتماعية وتعزيز الثقة معها مضافًا إلى الحفاظ على حد أدنى من التنسيق، مع ضرورة مد النفوذ داخل الاتحادات والنقابات في سبيل توفير حاضنة أكثر تنظيمًا وتماسكًا وأكثر اتساقًا مع شروط الواقع من تلك المبعثرة على شكل مجاميع، وللحديث تتمة.
اقرأ/ي أيضًا:
تحديات نواب الاحتجاج: النموذج الأول والمهام الجسام
"نواب الاحتجاج" في البرلمان الخامس.. من ساحات الدم إلى السياسة