عن أبوية "التوثية".. لماذا هي أخطر من الكاتم؟
"التوثية" مصطلح شعبي عراقي يستخدم للدلالة على العصا الغليظة والقصيرة، وتسمى "توثية" لأنها تؤخذ من شجرة التوت، وفي مصر يطلق عليها اسم "النبّوت" أو "الشوم".
انتهى استعمال "التوثية" مع نهاية عصر الشقاوات أو الفتوات وغابت عن المخيال الشعبي العراقي، حتى أعادها السيد مقتدى الصدر إلى الواجهة بعد "ليلة التواثي" الشهيرة في ساحة التحرير، تحت إشراف القيادي في التيار الصدري أبو دعاء العيساوي، عندما اقتحم أتباع التيار الصدري ساحة التحرير لتمرير مرشحهم لرئاسة الوزراء آنذاك محمد توفيق علاوي وتقديمه "خاوة" كمرشح للثورة بقبعاتهم الزرقاء وضربات "تواثيهم الأبوية" التي نزلت على رؤوس شباب الساحة محملةً بوصايا السيد القائد.
يبرز خطر "التوثية الأبوية" على المدى البعيد فمفهوم الحكم لدى الصدر هو مفهوم ما قبل حداثي "بطريركي أبوي"
لم تكن صدمة كبرى في وقتها، فخِطاب الصدر المتعلق بالتظاهرات والمتظاهرين تغيّر بشكل ملحوظ بعد اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي جمال جعفر "أبو مهدي المهندس"، مطلع العام 2020، ثم كعادته وعلى نحو مفاجئ، ركب الصدر موجة المقاومة التي تصاعدت حدتها، وتحول خطابه عن ساحات التظاهر من الخطاب الأبوي الناعم إلى وجه الأبوية القبيح؛ المشكك والمنبه والمحذر. والخطورة هنا ليست بتحول الخطاب، بل بـ "الأبوية" كمفهوم بحد ذاته خرج من المجال الخاص بين الصدر وأتباعه إلى المجال العام.
يتقلب الخطاب الصدري عن ثورة تشرين تماشيًا مع تقلبات السيد فيقتربُ في أحيانٍ كثيرة من خِطاب المليشيات الولائية، بل حتى أنّه قد يستعير منهم أدواتهم؛ الطعن بالأعراض والأخلاق وتخويِن الذِمم وتهم العمالة، باستثناء الكاتم فهو علامة مسجلة للفصائل.
لم تكن الميليشيات في حينها تخوض حالة صِدام مع الصدريين، على الرغم من التوتر نتيجة التنافس على فرض الهيمنة على الفضاء السياسي الشيعي، فأجندة المليشيات كانت مزدحمة بالمهام، وعلى رأسها قمع ثورة تشرين ومطاردة شبابها ونشطائها على الأرض عبر التضييق عليهم واغتيال رموزهم، ثم تبرير قتلهم في الإعلام والسوشيال ميديا بألسنة محلليهم وأقلام جيوشهم الإلكترونية.
ينتصرُ الكاتم في الظاهر ويعود الثوار إلى بيوتهم أو منافيهم أو قبورهم، وينشغل المجتمع باستعراضات رئيس الوزراء الإعلامية وفوضى الميليشيات وجدل الانتخابات البرلمانية، ثم يتشتت شمل الثوار هربًا من الصمت البارد للكاتم أو ظل التوثية القامع. فثنائية الفتح سائرون التي أفرزتها انتخابات العام 2018 استحالت بعد ثورة تشرين إلى ثنائية أقبح؛ التوثية والكاتم.
اقرأ/ي أيضًا: تساؤلات حول المواقف الصدرية
وعبر سلسلة طويلة ومريرة من الانتهاكات التي طالت العراقيين في السنتين الأخيرتين، أصبح من الممكن لأي مواطن أن يربط ذهنيًا التوثية وكاتم الصوت، كرمزيات للدلالة على أصحابها، بانتظار مرحلة أخرى عنوانها حتى الآن فوز الصدر بـ 73 مقعدًا عبر انتخابات قاطعها القسم الأكبر من المحتجين.
على الجانب الآخر، ظهر انعدام التجانس والهستيريا الولائية بدأت منذ مطلع العام 2020 وصولاً إلى يومنا هذا، حيث تتخبط قوى الفصائل الولائية وتعيش أسوء أيامها حاليًا. فقوة الضبط المركزية رحلت مع سليماني وتناغم الإيقاع بين أمراء الحرب رحل مع المهندس.
التخبط برز في عمليات "فصائل المقاومة" ميدانيًا وسياسيًا بشكل فجّ في الانتخابات التي غاب عنها التنسيق بينهم، ليستدركوه بعد الخسارة المدوية عبر إطار ركيك في محاولة يائسة لحفظ ماء الوجه وتقليل الأضرار قدر الإمكان.
وهنا يبزر السؤال الكبير للمرحلة المقبلة؛ هل التوثية الأبوية أخطر من الكاتم فعلاً؟ إذا يبدو أنّها كذلك على المدى البعيد، فمفهوم الحكم لدى الصدر هو مفهوم ما قبل حداثي، بطريركي أبوي، تجد له دلالات لا تحصى في تغريداته ولقاءاته المتلفزة وأسلوب تعامله مع أتباعه. سيادة مطلقة تقابلها تبعية عمياء يستمدها الصدر من إرث ديني.
ولا يختلف شكل تبعية أنصار الصدر مهما اختلف أسلوب تعامله معهم، كما هو في "البنيان المرصوص" حاليًا، فهو من يشاء ويرفع من يشاء يجمد ويُفعِّل ولا شيء متوقعٌ غير الطاعة التامة، مهما ظهر من تناقضات في مواقفه وعشوائية مفتعلة في تكتيكاته.
وهذا النموذج مازال رائجًا في المجتمع العراقي الذي ترسخ فيه النظام الأبوي بفعل عوامل عدة أبرزها حقبة الدكتاتور.
كل هذا يمكن الصدر الآن من محاولة فرض توازنات جديدة خارج الاستقطابات، فهو داعية للسلام مغادر لعقدة الحرب الطائفية متصالح مع الإقليم العربي وطهران، وكذلك الوجود الأمريكي في شكله الدبلوماسي، مع عنوان براق؛ رفض السلاح الخارج عن سيطرة الدولة.
لكنه في نفس الوقت يملك المليشيا الأكبر؛ سرايا السلام أو جيش المهدي، مع صلاحية حصرية لتحريك عشرات آلاف المسلحين "المجمدين" متى شاء.
يتقلب الخطاب الصدري عن ثورة تشرين تماشيًا مع تقلبات الصدر فيقتربُ في أحيانٍ كثيرة من خِطاب المليشيات الولائية
لا يريدنا الصدر أن نؤمن تمامًا بنهاية "جيش المهدي" وندين فترته، حتى وإن كان النواة الأساس للمليشيات والحاضنة الأكبر للفصائل التي انشقت لاحقًا تحت عنوان يطول ذكرها، بل يريدنا أن نقتنع بأنّ ميليشياته هي الأكثر انضباطًا، وأنّ تجربته الأبوية الناجحة مع مواليه - الذين يصورهم كعبء في بعض الأحيان ويصفهم مرارًا بالجهلة - ستؤتي ثمارها إن تم تعمميها على كامل العراق.
التجربة الأبوية التي رأينا معالمها وتطبيقها خارج التيار في "ليلة التواثي" وفيما حدث مع الناشط أحمد الوشاح عندما اعتقلته جهة حكومية واقتادته معصوب العينين إلى منزل السيد الصدر ليعتذر بعد أن انتقده عبر أحد مواقع التواصل.
خليطُ مثيرٌ للتأمل، فهو أب حنون لكنه شديد العقاب، قائد ديني لكنه "متنور" ومستعد للتحالف مع الحزب الشيوعي والتيار المدني، طاغية لكنه يجلس مع أتباعه ويتكلم بلغتهم وطريقتهم، حامي الأخلاق والآداب في ساحات التظاهر وخيام الثوار وطالب الإصلاح في الدولة له فيها وزارتان هما الأشد فسادًا وكارثية (الصحة والكهرباء).
ما القادم؟
هذا ما يبدو عليه الأمر من الداخل، أما من الخارج وفي ظل المتغيرات السياسية نكتشف أنّ الصدر أصبح أكثر طموحًا، خاصة بعد انتصاره بالانتخابات الأخيرة وتحالفاته السنية الكردية لتشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان ومن ثم الحكومة "الصدرية قحّ" أو "نص نص". طموحه الذي جعله يبدو غير مكترث بتهديدات "الحرب الشيعية - الشيعية" التي تصدر من مُنظري القوى الفصائلية وبعض رجال الإطار التنسيقي.
ويرتكز طموح الصدر المتعلق بدوره في الدولة الشيعية القادمة على عدة معطيات موضوعية، بعضها داخلي وبعضها إقليمي – دولي، يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- وجود حاضنة شعبية لا يستهان بها، يدعي أتباعه أنّها مليونية.
- المساحة التي تعمل بها الفصائل الولائية وتمظهراتها (الانتهاكات) مُدانة دوليًا وإقليميًا وتكاد تكون معدومة الحاضنة الشعبية، أما طبيعة وشكل انتهاكات أتباع التيار الصدري فليست كذلك.
- مزاج الشارع الذي أصبح فاقدًا للأمل خاصةً بعد احتجاجات تشرين، ومعدوم الثقة بالنظام السياسي والرعيل القديم من الطبقة السياسية، والتي كان يحرص الصدر ألا يبدو جزءًا منها.
- انهماك إيران بمفاوضات فيينا ورغبتها بتخفيف حدة اللعب في سبيل تحقيق مكاسب متعلقة باتفاقها النووي، الذي يترافق مع بروز تيار داخل السياسة الإيرانية يتعارض مع طريقة عمل سليماني (تسريبات وزير الخارجية الأسبق جواد ظريف).
- صراع النفوذ والسيطرة بين الميليشيات والتحركات الفردية لأمراء الحرب، مما أدى إلى تسارع سقوطهم شعبيًا وتعرض أغلبهم لعقوبات دولية وضمهم لقوائم الإرهاب.
- رغبة إقليمية بإعادة فتح قنوات الاتصال بين العراق و"العمق العربي".
- وجود ميل نحو فكرة "الطاغية المتنور" وموجة حنين إلى الدكتاتوريات في المجتمعات العربية التي شهدت ثورات وكذلك في المجتمع العراقي، بفعل الإحباط الناتج عن الخسارات المتتالية "لثورات الربيع العربي" وتأثير الثورات المضادة. وهو حنين سببه وهم "الاستقرار الذي يرافق أنماط الحكم الدكتاتوري".
هذه المعطيات وغيرها تمهد طريق مقتدى الصدر لتنفيذ مشروعه السياسي، مشروع عراق الصدر الواحد بعد أن كان عراق الصدرين. مشروعه الذي بدأ فعليًا برمزية دخول أتباعه الجلسة الأولى للبرلمان بأكفانهم وشعارات "عجِّل فرجه والّعن عدوه".
يستعد الصدر لتنفيذ مشروعه السياسي "مشروع عراق الصدر الواحد بعد أن كان عراق الصدرين"
ومكمن الخطورة ليس احتمالية تشكيل حكومة تابعة للصدر، بل احتمالية التطبيع مع حزمة كيان وصيّ ذو سلطة أبوية وسلالة عائلية يشعر وريثها بأحقية وعصمة لا يمكن مسائلتها. التطبيع مع كل ما ينضوي تحت هذه العباءة وتثبيتها كأمرٍ واقع، في مجتمع غارق في العقليات الأبوية الوصيّة أصلاً.
يقرأ الصدر معطياته جيدًا، وتحت عباءته السوداء يخبئ لنا دورًا أبويًا مهووساً بالسيطرة، و"مشروعًا إصلاحيًا" مجهول المعالم بلا برنامج مع "توثية".
اقرأ/ي أيضًا:
ديمقراطية السقيفة
في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة