هل من جدوى للانتخابات البرلمانية في العالم العربي؟
لا تؤدي الانتخابات البرلمانية في دول العالم العربي الدور الذي من أجله تم تبني الانتخابات العامة أو اختيار الشعب لممثليه في البرلمان كتتويج للديمقراطية في أي دولة من الدول، فالفكرة التي تطورت عبر آلاف السنين هي أن الشعب مصدر كل السلطات، وهو الذي ينتخب ممثليه في السلطة السياسية، وهؤلاء الممثلون يختارون الحكومة أو السلطة التنفيذية التي ستدير حياة الشعب ووطنه، على أن يقوم البرلمان بوظيفة المراقبة والتشريع وسن القوانين التي تصب في مصلحة الشعب.
ديمقراطية وتوافقية
اختيار الديمقراطية التمثيلية سواء بالأكثرية أو وفقاً للتمثيل النسبي، بات ذو أهمية كبرى حول العالم، على اعتبار أن الدولة تعمل من أجل خدمة مصالح شعبها، بعدما تم الاتفاق في علم السياسة حول العالم بأن تعريف الدولة أو بالأحرى كيفية تحقق شروط وجود الدول لا يكون من دون وجود شروط ثلاثة معاً، ويؤدي غياب واحدة منها إلى فقدان الدولة سبب وجودها، وهي الشعب والأرض والسلطة. والشعب هو أهم عنصر في هذه المعادلة، فدولة بلا شعب يمكن اعتبارها غير موجودة، بينما يمكن القول إنها دولة فاشلة في حال عدم وجود السلطة، أو اعتبارها محتلة مثلاً في حال عدم فرضها لسلطتها على كامل أراضيها بسبب عدو خارجي، ويمكن اعتبارها فاشلة إذا ما كانت غير مسيطرة على كامل الأرض بسبب فريق من الشعب الذي يطالب بالانفصال أو الذي يملك قدرات مالية وعسكرية أقوى من الدولة نفسها، أو فاشلة لأن حكامها استولوا على السلطة بالقوة، أو استولوا على مقدرات الدولة المالية والسياسية بالقوة على الرغم من وصولهم إلى السلطة بواسطة الانتخابات.
في العالم العربي وقبل "انتفاضات" ما اختلف العرب على تسميته "الربيع العربي" أو "الخريف العربي" المنطلق في العام 2011، لم تكن الانتخابات النيابية ذات مفاعيل أساسية، إما بسبب سيطرة الحزب الواحد وزعيمه الأوحد أي الديكتاتور، أو بسبب ما يسمى بالـ "توافق"، أو الديمقراطية التوافقية.
قبل الثورات العربية وفي أغلب الدول العربية كان القائد الأعلى يختصر بسلطاته كل البرلمان، بل ويختار من سيترشح للانتخابات لكي يكون البرلمان شكلاً ومضموناً خاضعاً لإمرته.
بعد الانتفاضات الشعبية العربية التي يفترض أنها اشتعلت من أجل إسقاط الأنظمة الديكتاتورية وإقامة أنظمة ديمقراطية تمثيلية تؤمن العيش الكريم وحرية التعبير لمواطنيها، فقد تم غالباً الانقلاب على نتائج الانتخابات التي اتفق الجميع على أنها جرت بشفافية ومن دون تزوير.
هذا الأمر ينطبق على مصر وليبيا والجزائر دوماً، وعلى العراق ولبنان وتونس والسودان حالياً، وهي البلدان التي تكررت فيها الثورات فوق الثورات السابقة من أجل استعادة سلطة الشعب من محتكريها حتى بعد "الثورات"، ولكن على الرغم من ذلك فإن هذه الأنظمة لا تزال تعاني الكثير لإجراء الانتخابات النيابية أو للإلتزام بنتائجها في ما لو أجريت.
لبنان والعدوى السلبية
لنأخذ لبنان مثالاً لما يسمى "اللبننة"، أو الديمقراطية التوافقية التي على الرغم من دلالات اسمها على أنها قائمة على التوافق بين أنواع وأقسام ومجموعات الشعوب اللبنانية، إلا أنها دائماً وغالباً السبب في تعطيل الحياة السياسية الطبيعية في هذا البلد الصغير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من ذلك تقوم بعض الدول العربية بـ "لبننة" أوضاعها كما يحصل في العراق، أي اللجوء إلى الديمقراطية التوافقية بدلاً من نتائج الانتخابات الفعلية. فيرفض الفرقاء نتائج الانتخابات وتشكيل الحكومات على أساسها، على اعتبار أن عدم تمثيل فريق من الفرقاء السياسيين سيؤدي إلى اختلال في موازين "التوافق" الوطني. وكأن الانتخابات هي مجرد عمل شكلي بلا قيمة، أو أنها فولكلور ديموقراطي بينما نتائجها معروفة سلفاً مهما كان الفريق الرابح والفريق الخاسر.
في لبنان، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005 جرت الانتخابات النيابية في صراع واضح بين طالبي محاسبة القتلة في محكمة دولية وبين المقربين من النظام السوري الوصي على لبنان آنذاك، والمتهم المباشر باغتيال رفيق الحريري. وأنتجت هذه الانتخابات أكثرية نيابية لفريق 14 آذار الذي مثل اللبنانيين في انتفاضتهم على قتلة الرئيس الحريري وفي مواجهة الجيش السوري المرابض في لبنان وحلفائه.
لكن هذه الأكثرية لم تمنع من تشكيل حكومة في تلك اللحظة التاريخية من عمر لبنان تضم كل الفرقاء اللبنانيين حتى الذين لم يحصلوا على الأكثرية في الأصوات.
وحين قرر رئيس الحكومة آنذاك فؤاد السنيورة إقرار المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة رفيق الحريري ورفاقه عبر الحكومة بسبب امتناع المجلس النيابي عن الاجتماع، قام الفريق الخاسر في الانتخابات والمؤلف من "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" باحتلال وسط بيروت لمدة عام ونصف رفضاً لهذا القرار.
وحين رفض رئيس الحكومة التالية سعد الحريري فرط عقد الحكومة بعد استقالة النواب الشيعة منها، تم اعتبار الحكومة غير موجودة لأنها غير "ميثاقية" أي لا تضم جميع الأطراف اللبنانيين فيها، وكان سعد الحريري في زيارة إلى البيت الأبيض فدخل ليقابل الرئيس السابق باراك أوباما كرئيس حكومة، ومن ثم خرج من عنده رئيساً مستقيلاً لحكومة "غير ميثاقية" على ما يحب الفرقاء اللبنانيون تسمية عدم توافقهم.
لكن هذا الأمر لم يتوقف عند هذه النقطة في الديمقراطية التشاركية أو التوافقية اللبنانية، بل وبعيد انطلاق حراك اللبنانيين في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 كان هذا الحراك أو سائر الأطراف السياسية المعترضة على سيطرة حزب الله المطلقة على السيادة اللبنانية وسلطاتها، بانتظار الانتخابات النيابية القادمة المزمع إجراؤها في 15 مايو (أيار) 2022، لكي يستعيدوا تشكيل النظام على أساسها، إلى أن خرج نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم ليقول لسائر اللبنانيين الذين يعتقدون أن الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية الأخيرة للتغيير، بأن عليهم ألا ينتظروا نتائج الانتخابات منذ الآن، لأنه مهما كانت النتائج فإن ذلك لن يغير من الأمر الواقع الراهن ولو قيد أنملة، بل ويتهم قاسم هؤلاء بأنهم عملاء للسفارات ويتلقون التمويل منها من أجل رفع سيطرة حزب الله المطلقة عن مفاصل الدولة.
في العراق، الأمر شبيه تماماً بالوضع اللبناني، أولاً لأن الفريق الرافض لنتائج الانتخابات هو حليف حزب الله اللبناني، وهو الفريق الذي يتبجح علناً بتلقيه الدعم من إيران مالياً وسياسياً.
والانتخابات البرلمانية العراقية جرت بعد حراك شعبي كبير راح ضحيته مئات القتلى، وكان العراقيون فيه يعلنون عن رغبتهم العارمة في التغيير وبناء دولة عراقية عربية أو مقربة من العرب ولا تقف في النزاع العربي - الإيراني إلى جهة إيران، كما هو الحال في لبنان.
وحين عبر الشعب العراقي في الانتخابات عن هذه الرغبات الكثيرة واختار من يعلن مواقف تلبي تطلعات العراقيين، رفض الخاسرون النتائج فأعيد فرز الأصوات، وبقيت النتائج على حالها، لذا اتبع هذا الفريق الوسيلة الأخرى لفرض مشاركته السياسية وهي القبول بالنتائج، ولكنه طالب بالمشاركة في الحكومة على أساس أن الحكومة العراقية يجب أن تكون حكومة توافقية تضم كل الأطياف السياسية العراقية، كما هو الوضع في لبنان، وهذا ما يعني أن نتائج الانتخابات البرلمانية لا قيمة واقعية وعملية لها.
تونس والسودان وليبيا
في تونس الوضع مختلف تماماً، فقد قام الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب بتعليق عمل البرلمان المنتخب بدوره من الشعب، وما زالت الأمور عالقة عند هذا الحد بعدما أسهم في خلخلة الديمقراطية التونسية ومواقف الفرقاء السياسيين التونسيين.
فقد قسمت قرارات الرئيس التونسيين بين مؤيد ومعارض، وهناك المؤيدون سلفاً أي الذين يقفون ضد "حزب النهضة" وهناك المعارضون الذي يقفون مع "حزب النهضة"، ولكن هناك أيضاً الذين يقفون مع مطالب الرئيس قيس سعيد لكنهم قلقون على الديمقراطية التونسية، وهناك من يعارضون الرئيس سعيد على الرغم من أنهم لا يفضلون سلطة حزب النهضة. ومنذ قرارات قيس سعيد الطارئة لا يبدو أن هناك أفقاً ما تنتهي عنده هذه المسألة،
وهذا ما تتم استعادته في السودان الذي نجح فيه السودانيون في إسقاط نظام عمر البشير الديكتاتوري والعسكري والذي لم يتوقف عن دعم الحروب الأهلية الداخلية جنوب السودان قبل استقلاله وكذلك في دارفور.
لكن العسكر الحاكمين لمدة تفوق الـ 20 عاماً لم يتركوا الأمور لخيارات الشعب الثائر، بل أرادوا إدارة البلاد بعد الثورة وليس فقط المشاركة في الإدارة، وهذا ما أدى إلى ثورات صغيرة متجددة لرفض حكم المجلس العسكري، والأمور ما زالت حتى الآن في طي التعقيد والاستنقاع وكأن الشعب السوداني مكتوب عليه العيش تحت قيادة من يعتقدون أن الشعوب قاصرة وتحتاج إلى من يسيرها في الطريق الصحيح.
ولا حاجة لإثارة الوضع الليبي في هذه الحال، لأنه منذ إسقاط الرئيس السابق صاحب الصلاحيات المطلقة في ليبيا الراحل معمر القذافي، والشعب الليبي في مرمى انقسام عشائري ومناطقي وسياسي بين شرق ليبيا وغربها، ومازال النزاع معلقاً بين التقاسم الدولي لثروات ليبيا النفطية الكبيرة.
في المقابل، يبدو أن الشروط المبدئية والأولية لقيام الدولة كأرض وشعب وسلطة لا يمكنها التحقق في العالم العربي، سواء عبر الانتخابات أو من دونها، ويبدو الأمر كما لو أن الشعوب العربية يتم التعامل معها كأنها شعوب قاصرة عن بناء دول متقدمة ومزدهرة وتعمل من أجل اللحاق بركب العالم المتقدم الذي جعل شعوبه على رأس الأولويات والمصالح، مع استثناء دول الخليج العربي من هذا التعميم.
وكأن ما يسمى "التوافق" و"التشارك" في إدارة السلطات أمر واقع لا مفر منه، على الرغم من أنه يستعيد العشائرية والقبلية والنظم ما قبل الدول لإدارة الدول نفسها، وكبت تطلعات الشعوب.