مسيرة مقتدى الصدر من مطلوب أمام القانون إلى الرقم الصعب في العراق
تحول رجل الدين الشيعي العراقي، مقتدى الصدر، من رجل خارج على القانون، مطلوب حياً أو ميتاً خلال فترة الوجود العسكري الأميركي في بلاد الرافدين، إلى صاحب نفوذ في المعترك السياسي قبل أن يتحول إلى أقوى شخصية في البلاد. لكن حتى مع نفوذه الهائل، لم يتمكن الصدر من إنهاء جمود طال أمده بشأن تشكيل الحكومة، ومن ثم استقال نواب كتلته الصدرية في البرلمان يوم الأحد الماضي 12 يونيو (حزيران)، بعد أن طلب منهم تقديم استقالاتهم.
وقال الصدر، وهو زعيم شعبوي يبدي معارضة قوية لنفوذ كل من إيران والولايات المتحدة، إنه أقدم على هذه الخطوة "تضحية مني للبلاد والشعب لتخليصهم من المصير المجهول".
وعلى الرغم من الانسحاب، لا يزال الصدر يتمتع بنفوذ هائل في ظل وجود مئات الآلاف من أنصاره الذين يمكنهم تنظيم احتجاجات. ومن شأن تحركه أن يزيد بشدة من مخاطر الصراع على السلطة داخل الأغلبية الشيعية في العراق.
رصيده العائلي
ولم يكن الصدر معروفاً فعلياً خارج العراق قبل الحرب التي قادتها الولايات المتحدة في عام 2003، لكن سرعان ما أصبح "رمزاً لمقاومة الاحتلال"، مستمداً كثيراً من نفوذه من عائلته.
والصدر هو نجل آية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل عام 1999 بعد انتقاده الصريح لصدام حسين رئيس العراق آنذاك. كما اغتيل أيضاً ابن عم والده محمد باقر عام 1980.
قالت راندا سليم الباحثة في معهد الشرق الأوسط "إرث عائلته الذي من دونه لا أعتقد أنه كان يمكن أن يكون حيث هو اليوم".
وعلى الرغم من المخاطر، لم يفر الصدر قط من العراق على عكس شخصيات بارزة أخرى في حكومات ما بعد سقوط صدام، كانت قد عادت من إيران ومن الغرب بعد الغزو.
إعدام صدام وترداد اسم الصدر
أظهرت لقطات مسربة أن شهوداً حضروا إعدام صدام في عام 2006 بعد إدانته بقتل 148 شخصاً في بلدة تقطنها أغلبية شيعية قبل 25 سنة، سخروا منه بترديد اسم مقتدى الصدر لدى اقتياده إلى حبل المشنقة.
وكان الصدر أول من شكل فصيلاً شيعياً لقتال القوات الأميركية. وقاد انتفاضتين على الولايات المتحدة مما دفع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى اعتبار جيشه، "جيش المهدي"، أكبر تهديد لأمن العراق.
وفي عام 2004، أصدرت سلطة الاحتلال الأميركية مذكرة توقيف بحق الصدر وقالت، إنه مطلوب حياً أو ميتاً في ما يتعلق بقتل الزعيم الشيعي عبد المجيد الخوئي في عام ،2003 الذي عاد إلى العراق إبان الحرب الأميركية، وأقام في مدينة النجف المقدسة لدى الشيعة.
ونفى الصدر أي دور له في مقتل الخوئي ولم توجَه له تهمة قط.
"جيش المهدي"
وصمد الصدر خلال 19 سنة من الاضطرابات منذ أن هاجم "جيش المهدي" القوات الأميركية بالبنادق والقذائف الصاروخية في أزقة وشوارع بغداد والمدن الجنوبية.
كما حارب أتباعه الجيش العراقي ومقاتلي تنظيم "داعش" والفصائل الشيعية المتناحرة.
وخلال الحرب الأهلية الطائفية في العراق بين عامي 2006 و2008، اتُهم "جيش المهدي" بتشكيل فرق اغتيال لخطف وقتل شخصيات سُنية، بينما نفى الصدر استخدام العنف مع أبناء وطنه.
وفي عام 2008، أمر رئيس الوزراء آنذاك، نوري المالكي، وهو شيعي منافس للصدر، بشن هجوم كبير سحق "جيش المهدي" في مدينة البصرة الجنوبية.
في وقت لاحق من ذلك العام، أمر الصدر بوقف العمليات المسلحة، وأعلن أن "جيش المهدي" سيتحول إلى منظمة ثقافية واجتماعية أطلق عليها اسم "سرايا السلام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصدر يعيد تقديم نفسه
قرر الصدر لاحقاً التنافس في السياسة شديدة التعقيد في العراق، وبمرور الوقت اكتسب مزيداً من الشعبية بعدما تعهد بالقضاء على الفساد المستشري في الدولة.
وبعمامته المميزة، بات بمقدور الصدر الذي أعلن نفسه نصيراً للفقراء والمحرومين أن يحشد مئات الآلاف من الأنصار في الشوارع متى شاء.
وفي عام 2016، اقتحم أنصار الصدر البرلمان داخل المنطقة الخضراء الحصينة في بغداد، بعدما ندد بالفشل في إصلاح نظام المحاصصة السياسية الذي يُلقي باللوم عليه في الفساد المستشري نظراً إلى استغلال القادة السياسيين له من أجل تعيين أنصارهم في وظائف رئيسة.
وأنذر الصدر بأنه إذا استمر المسؤولون الفاسدون واستمر نظام المحاصصة، فسيتم إسقاط الحكومة بأكملها ولن يُستثنى أحد.
وأمر أنصاره بإنهاء اعتصامهم عند بوابات المنطقة الخضراء بعد أن قدم رئيس الوزراء حينها، حيدر العبادي تشكيلة وزارية جديدة تهدف إلى محاربة الفساد.
الحليفة السابقة
أعاد الصدر تقديم نفسه قبل الانتخابات البرلمانية في عام 2018، وشكل تحالفاً مع الشيوعيين والعلمانيين.
وبعد تهميشه لسنوات من قبل منافسين شيعة مدعومين من إيران، خرج منتصراً في عودة قوية سيطر خلالها على وزارات ووظائف حكومية.
كان الصدر قد استغل استياء الرأي العام من حليفته السابقة إيران والنخبة السياسية التي يقول العراقيون إنها تحظى بدعم طهران.
وكان الصدر هو الزعيم الشيعي الوحيد الذي تحدى كلاً من طهران وواشنطن، وهي معادلة بدا أنها جعلته يتمتع بشعبية لدى الملايين الذين شعروا أنهم لم يستفيدوا من علاقات حكومتهم الوثيقة بإيران أو الولايات المتحدة.
ودعا الصدر إلى رحيل القوات الأميركية المتبقية البالغ قوامها 2500 عنصر، وأبلغ طهران أنه لن يترك العراق في قبضتها.
وكان العراق ساحة معركة بالوكالة على النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران منذ الحرب التي أطاحت بصدام ومهدت الطريق إلى السلطة أمام الأغلبية الشيعية التي تقودها شخصيات تتودد إليها طهران منذ عقود.
ولا تزال معظم المؤسسات السياسية الشيعية في العراق متشككة أو حتى معادية للصدر. ومع ذلك، هيمن تنظيم الصدر السياسي، وهو "التيار الصدري"، على أجهزة الدولة العراقية منذ انتخابات 2018، إذ شغل مناصب عليا في وزارات الداخلية والدفاع والاتصالات.
واكتسحت الحركة المسلحة السابقة الانتخابات البرلمانية في عام 2021، وحلت في المركز الأول وزاد عدد المقاعد التي يهيمن عليها الصدر في البرلمان المؤلف من 329 مقعداً، إلى 73 مقعداً، بعدما كانت كتلته تتألف من 54 نائباً.
ووجه هذا الانتصار ضربةً قاصمة للجماعات الشيعية الموالية لإيران التي انهار تمثيلها البرلماني.
وأعلن الصدر النتيجة قائلاً، إنها "انتصار الشعب على الميليشيات". وعمت البهجة بين أنصاره.
وقال قائد واحد على الأقل من قادة الفصائل الموالية لإيران، إن الجماعات المسلحة مستعدة لاستخدام العنف إذا لزم الأمر لضمان عدم فقدان نفوذها بعد انتخابات يرونها مزورة.
وقال السياسي حسين العقابي، إن سياسة الصدر المتمثلة في عدم الاعتماد على الولايات المتحدة أو إيران آتت ثمارها، على عكس الأحزاب المعتمدة على القوى الإقليمية،و التي "انتهى بها الأمر في الظل تقريباً".