اخبار العراق الان

عاجل

الطبيعة بوصفها سرديَّةَ الأرض

الطبيعة بوصفها سرديَّةَ الأرض
الطبيعة بوصفها سرديَّةَ الأرض

2022-07-24 00:00:00 - المصدر: وكالة الانباء العراقية


صالح رحيم
 
يعيش السرد بشكل لا مرئي في حياتنا، إنه مثل الزمن، ولكل واحد منا سرده الخاص به، يلازمه حتى مماته، أعرف صديقاً عاشَ سرداً قاسياً خلال السنوات الماضية، ولدَ أيام الحصار وعاش بصعوبة حتى سقوط النظام، وبعد السقوط بدأ معه سرد حياة جديدة، أكثر قساوة من تلك، ترك المدرسة وعمل حمالاً في السوق، وهنا صار في كل يوم يتعرف على سرد جديد تدوّنه عذابات على ظهره.
*
أن أدسَّ في التربة بذرة، وأمدّها الماء، ثم انتظر البذرة تدوّن نفسها على وجه العالم، هذا ما أعرفه عن السرد، لا أعرف شيئاً آخر أكثر دقة مما أعرف، أحبه وأحب كتابته، أتذكر بطل الجريمة والعقاب راسكولنيكوف كيف كان يلازمني في كل مكان، يتحدث معي في الشارع والمرحاض، في البيت وفي غرفتي، عن المرأتين اللتين قتلهما بالفأس، عن حياته التي عاشها خائفاً، وفيما هو مستغرق في حديثه؛ أمدُّ يدي نحو الصخرة التي خبَّأ تحتها مال العجوز، إلا أنها ترتد خالية الوفاض، لا أريد أن أسهب في وساوسي، فذلك ما أعرفه عن السرد وهو طريقة، أو هو حياة يعيشها كل واحد منا، فتراني أراقب الناس واقرأ وجوههم إلى درجة أكاد معها أعيش نيابة عنهم. 
*
انهض من فراشك الآن - أيها القارئ- وافتح باب "الحوش" وراقب، ستجد أن العالم يضج بالسرد، شارعكم، الفارغ، يفوح سرداً، الحجارة المركونة الى باب جاركم، الباب نفسه، الشارع، رائحة المجاري -إذا كنت تقطن في حي- ورائحة التراب اذا كنت تقطن في قرية- كل هذه الأشياء لها سردها الخاص، حيث السرد وجود لعدم موجود. 
*
قد تلاحظني عزيزي القارئ مفتوناً بالسرد، ولكن هذا لا يعني أنّني غير مفتون بالشعر، أنا أقدس الاثنين، ولكنّي أميل الى الشعر أكثر مما أميل إلى الآخر، إنّني أشعر برهبة كونيّة هائلة أمام جملة لا تعني لكثيرين، وأتلاشى أمام كلمة، تخيل كلمة تقصيني من الوجود، الكلمة التي تحمل بين طياتها شعراً تعجز هي نفسها عن التعبير عنه، الشعر طريقة حياة هو الآخر "هو الملابس الداخلية للروح والتوسعة المستمرة للعالم والدليل الوحيد على وجود الإنسان".
*
الشعر حصتي من العافية، به يستعيد القلب رهبة الاستمرار في الغطس والتزلج على جليد حياتي، لا يمكنني أبداً أن أضحي او استغني عنه،  أتذكر حين رأيت الشعر للمرة الأولى في حياتي، من نافذة، لمحتُ حشداً من الغربان يقترب من قمحٍ منثورٍ في الشارع، حيث أكلت الغربان كلها 
إلا غرابٌ واحدٌ- كان صغيرَ الحجمِ، وبدا خائفا-
عندما اقتربَ من حبة قمحٍ في منتصف الشارع 
سحقته سيارة مسرعة، ومات خلال ثانية واحدة، 
فأدركت حينها أن حبة القمح:  أداة قاتلة، في تلك اللحظة رأيت ذلك المشهد تمظهراً يحمل وجهين، وجه للشعر وآخر للسرد.
*
الشاعر مريض يعالج نفسه بالخيال، الشعر حالة نفسية يعيشها الشاعر طوال حياته، الشعر هو المرض، والشاعر يكافح كي يزدهر مرضه، كي يتسرّب الى أكبر قدر ممكن من عروقه، كي يرى الأشياء من دون تدخل الضوء، يراها من الداخل، وكأنَّ الأشياء كانت موجودة في قلب الشاعر قبل أن يولد، وقبل أن تصير أشياء. 
*
مرة عاد السرد من المدرسة، حاملا حقيبته على ظهره، واعد أصدقاءه بالخروج عصراً إلى اللعب، سلك طريقاً مختصراً إلى البيت، فصادفه كلب في طريقه، كلبٌ بعينين صفراوتين وبرأس كبير وبأنياب تلمع في الظلام، كل ما يريده الكلب هو أن ينقش بمخالبه رسوماً على جسد الضحية، رمى السرد حقيبته جانبا، وهاجم الكلب، تفارسا واحدهما يعانق الآخر، خلال لحظة بسيطة غرز الكلب أحد مخالبه في فخذ السرد الأيمن، فاستشاط السرد غضباً، فوضع يديه في عنق الكلب وأخذت الحياة تتلاشى في عيني الكلب الشقي، حتى جاء مالك الكلب، فرقهما، واعتذر للسرد كثيراً، حمل السرد حقيبته وراح يمشي مشية المنتصر، وصل إلى البيت، وبينما هو يأكل الطعام، سال دم من تحت سرواله، رفع السروال فإذا بعلامة نصر منحوتة في اللحم تنز دماً، الكلب هو الشعر، الذي يترك أثراً بارزاً على جميع الفنون، وهو الذي يضع أصابعه في عين
العالم.