من "لبننة" العراق إلى "عرقنة" لبنان
ليس الانسداد السياسي الذي صار أداة في اللعبة الديمقراطية في العراق ولبنان، سوى مظهر لأزمة عميقة لا يحلها حتى الخروج من الانسداد. والوجه الآخر للأزمة هو العمل المتوازي على "لبننة" العراق و"عرقنة" لبنان، إذ تتم معالجة الديمقراطية المريضة بمزيد من المرض. ففي العراق ديمقراطية مدارة إيرانياً بنظام شمولي ثيوقراطي بحسب دستور "أميركي"، بعد أن كانت مدارة أميركياً في أعقاب الغزو الذي أسقط الدولة ونظام الرئيس صدام حسين. وفي لبنان ديمقراطية مدارة إيرانياً بعد أن كانت مدارة سورياً من نظام شمولي بحسب دستور "فرنسي". العراقيون تمكنوا أخيراً، بعد عام على الانتخابات النيابية، من انتخاب عبداللطيف رشيد رئيساً للجمهورية وتعيين محمد شياع السوداني رئيساً للوزراء. أما اللبنانيون الذين أجروا انتخابات نيابية في مايو (أيار) الماضي، فقد فشلوا في انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف حكومة، ويصرون على الذهاب بعيون مفتوحة إلى فخ الشغور الرئاسي والشلل الحكومي في نهاية الشهر الحالي.
والوسيلة في الحالتين هي تعطيل الجلسات الانتخابية، وسط الإصرار على أن تكون أكثرية الثلثين من أعضاء البرلمان هي النصاب الدستوري في كل الجلسات. وما اكتمل في لبنان يكاد يكتمل في العراق. فالنظام اللبناني طائفي معلن، حيث طربوش السلطة رئيس ماروني ورئيس برلمان شيعي ورئيس حكومة سني، في انسجام مع تحديد الحصص طائفياً ومذهبياً في النيابة والحكومة والإدارة وكل جسد السلطة. وطربوش السلطة في العراق مذهبي وإثني، حيث رئيس كردي ورئيس حكومة شيعي ورئيس برلمان سني، وجسدها تتحكم به الأكثرية الشيعية من دون أي تحديد للحصص في الدستور.
سياسات التركيبة الحاكمة
لكن ما قاد لبنان إلى أزمة سياسية ومالية واقتصادية واجتماعية عميقة، ليس الشغور الرئاسي والشلل الحكومي، بل سياسات التركيبة الحاكمة والمتحكمة بالبلد. ولن يحلها، وإن خفف منها، انتخاب رئيس إصلاحي وتأليف حكومة كفايات وبدء التنقيب عن الغاز في البحر. وما قاد العراق إلى أزمة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية ليس نقص الكفايات والمشاريع، بل "عسكرة" السياسة عبر "تشريع" الميليشيات المسلحة التابعة لإيران. ومحاربة مشروع الدولة الوطنية، واختصار المواطنين بثلاثة بيوت: بيت شيعي وبيت سني وبيت كردي، ثم الصراعات داخل البيت الشيعي والبيت السني والبيت الكردي، وفلتان الفساد وأمور أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حين فاز "التيار الصدري" بـ73 نائباً وتحالف مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السني، وتقرر التوجه نحو حكومة "أغلبية وطنية"، فإن الميليشيات الإيرانية التي خسرت أصرت، لا فقط على الاحتفاظ بحصص في السلطة، بل أيضاً على الإمساك بكل السلطة. وهي استفادت من إقدام زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على دفع نوابه إلى الاستقالة، بحيث حل محلهم المرشحون الخاسرون من الميليشيات. الصدر لعب ورقة الشارع فلعبتها الميليشيات بالسلاح. وحاول التعاون مع "منتفضي تشرين" فلم يقبلوا، لكن الصدر اعتبر أن الحكومة هي "حكومة ميليشيات" وفساد، ورفض دخول أي شخص من تياره فيها. والمؤكد أنه سيربك خصومه.
قيود بغداد
وقمة الخطورة في الوضع العراقي، وسط كل المخاطر المحلية، هي تجرؤ إيران وتركيا على العراق عسكرياً وأمنياً. إيران تقصف إقليم كردستان بالصواريخ، كما أن الميليشيات التابعة لها تطلق الصواريخ والمسيرات في الداخل على أهداف عدة، بينها منزل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بقصد اغتياله، رداً على سعيه لتركيز أسس الدولة الوطنية وممارسة سياسة تحافظ على مصالح العراق وأمنه القومي. وتركيا مستمرة من زمان في الغارات على مناطق في إقليم كردستان، كما لها قواعد عسكرية ثابتة على أرض العراق. والظاهر أن العراق عاجز عن الدفاع عن نفسه، مع أن عديد جيشه وقواه الأمنية يقترب من مليونين. والسبب هو القيود المحلية والإقليمية والدولية على بغداد.
وتلك هي التراجيديا، حيث "خصخصة" الدفاع عن لبنان والسيطرة على السلطة و"خصخصة" الأمن في العراق ضد "داعش" والتحكم بالمجتمع والسلطة.