أسعار العقارات في بغداد خارج قدرة الطبقة الوسطى
بعد سنوات من البحث المضني، وصل يوسف أحمد إلى حافة اليأس من إمكان أن يشتري له ولعائلته الصغيرة منزلاً أو شقة يسكنون فيها، فأسعار العقارات في بغداد بلغت مستويات مرتفعة، لأسباب عدة منها الفساد وضعف التخطيط.
من الضغط السكاني الذي دفع بزيادة الطلب على العقارات إلى تبييض الأموال، باتت أسعار العقارات في العاصمة خارج متناول يد الطبقة الوسطى.
في بلد يتراوح فيه متوسط الدخل بين 400 إلى 500 دولار في الشهر للفرد، بحسب مسح نشر عام 2022 لمنظمة العمل الدولية بالتعاون مع السلطات العراقية، تبلغ أسعار العقارات السكنية في بغداد التي عرفت في السنوات الأخيرة استقراراً نسبياً، بين 2000 دولار للمتر الواحد وثمانية آلاف أو أكثر.
وترافق الاستقرار مع استقطاب العاصمة عدداً كبيراً من السكان الذي تضخم ليصل إلى تسعة ملايين، ومع ارتفاع الطلب على العقارات.
مدينة تختنق بالازدحامات
في الأثناء، تملأ شوارع العاصمة الإعلانات الضخمة لمجمعات سكنية حديثة وأبراج بأسعار باهظة في مدينة تختنق بالازدحامات المرورية، وتطوف طرقها بالمياه بعد الأمطار وتكتظ بأسلاك المولدات الكهربائية في انعكاس لتهالك بنيتها التحتية إثر سنوات من الحروب والإهمال.
يعمل يوسف البالغ من العمر 29 سنة في شركة اتصالات خاصة ويتقاضى ألف دولار في الشهر، مع ذلك لا يستطيع تحمل تكلفة شراء شقة يقطن فيها مع زوجته وطفله ويستقل عن منزل أهله.
ويقول الشاب "حتى لو تطور الدخل بمرور الوقت، تتضاعف أسعار البيوت في المقابل بشكل كبير".
إزاء ذلك، لا تبدو البدائل مغرية، فالمجمعات السكنية الفارهة التي بدأت بالانتشار في السنوات الأخيرة باهظة.
في المقابل، "إذا فكرنا بالابتعاد من مركز بغداد"، حيث الأسعار أقل، "علينا أن نبتعد كثيراً وهذا صعب"، بسبب صعوبة التنقل ورداءة الخدمات.
أما القروض المتوافرة فغير مفيدة كثيراً، "حتى لو أخذت قرضاً بـ100 مليون دينار (حوالى 68 ألف دولار)، لن تشتري لك شيئاً، وفوائدها عالية".
ولطالما كان الاستثمار العراقي في سوق العقارات، لا سيما بعد الغزو الأميركي عام 2003 الذي أسقط نظام صدام حسين، وما تلاه من حرب أهلية وانتهاكات تنظيم "داعش"، يذهب إلى تركيا في المرتبة الأولى، أو إلى أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراقي، التي نجحت في أن تكون واجهة للحداثة مع بنية تحتية جيدة وطرق سريعة ومشاريع عقارية عملاقة.
لكن مع الاستقرار النسبي في العاصمة بغداد، انطلقت في السنوات الأخيرة حملة إعمار ضخمة، وارتفعت الأسعار.
في شارع الكرادة التجاري المكتظ في العاصمة، تصطف العشرات من المكاتب العقارية قرب بعضها بعضاً، فيما هياكل الأبنية المشيدة حديثاً تجاور البيوت البغدادية التقليدية التي توشك على الانهيار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"ارتفاع من دون توقف"
هنا، يعمل سامر الخفاجي في قطاع العقارات منذ ثماني سنوات، لاحظ خلالها تزايداً في الأسعار بشكل كبير، خصوصاً خلال العام الأخير.
ويقول الخفاجي "السوق بدأت بالارتفاع من دون توقف"، ويشرح أن أسعار الأراضي والبيوت في المنطقة التي يعمل فيها "كانت بين 1200 إلى 1500 و1700 دولار للمتر، اليوم تبلغ نحو ثلاثة آلاف دولار للمتر"، وصولاً إلى خمسة آلاف في بعض المناطق.
في منطقة الجادرية التي تعد من المناطق الفارهة في العاصمة، قد يصل سعر المتر إلى أربعة آلاف دولار وحتى ثمانية آلاف للعقارات التجارية، كما يقول حسين الصفار، صاحب مكتب عقاري.
ويتحدث الشاب عن "صعود خيالي في الأسعار"، ويضيف "بغداد حالياً مزدحمة كمركز للعراق، أعداد السكان تتزايد ولذلك هناك طلب على العقارات".
في بلد يحتل المرتبة 157 (من 180) في مؤشر منظمة الشفافية الدولية عن "مدركات الفساد"، "قضية ارتفاع أسعار العقارات في بغداد مرتبطة بغسل الأموال"، بحسب مسؤولين.
"التخطيط الخاطئ"
ويشرح المحلل الاقتصادي العراقي على الراوي بأن "المشكلة في السوق العقارية هي أن التعامل يكون نقداً"، بالتالي يسهل "إخفاء الأموال بأراض وبنايات"، ويرفع ذلك من "السيولة في السوق... بالتالي الأسعار ترتفع".
وعند بيع هذه العقارات، يتم الأمر "بعقود رسمية وبيان وعقد بيع وشراء، الموضوع يكون رسمياً"، بالتالي "تبييض الأموال" عبر ذلك يكون "سهلاً جداً"، كما يقول.
وخلال حديثه عن "سرقة القرن"، كشف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن جزءاً كبيراً من أموال الضرائب التي سرقت استخدمت في "شراء عقارات مهمة في مناطق مهمة في بغداد".
وفي تقرير في مركز "ذي سنتشوري فاوندشن" للأبحاث، يشير الباحث العراقي سجاد جياد إلى أن "أكثر من مليار دولار" من أموال الضرائب المسروقة البالغة 2.5 مليار، "استثمرت في 55 عقاراً في بغداد، وملياراً آخر وزع بين ممتلكات وأراض وأصول أخرى".
ويلقي مدير العلاقات العامة في أمانة بغداد محمد الربيعي باللوم في هذه الأزمة على "التخطيط الخاطئ" من الحكومات المتعاقبة "في ملف الاستثمار بالإسكان"، وسياسة عامة في هذا الملف "لم تفد الموظف والفقير".
ويضيف "يوجد ارتفاع مخيف في الأسعار، صعب حتى على الأغنياء أن يمتلكوا ولو 100 متر في بغداد".
ويرى أن "زيادة أسعار العقارات غير مرتبطة بالسوق، بل مرتبطة بالمافيا وبغسل الأموال".
وفي مدينة يقطن مليون شخص فيها في العشوائيات، وفق الربيعي، تنوي الحكومة الجديدة إنجاز مشاريع سكنية غير مكلفة ومدعومة بقروض، على غرار مشروع "بسمايا"، الذي أعلنت هيئة الاستثمار الحكومية في يناير (كانون الثاني) عن استئناف العمل فيه قريباً.
في ضواحي العاصمة، اختفت الأراضي الزراعية وغابات النخيل التي تعد رمزاً عراقياً، تحت كتل الإسمنت، مع بروز مشاريع سكنية توفر ربحيةً أكثر من الزراعة.