هل أخطأت إيران أم تكاسل العرب؟
ليس جديداً الحديث عن التدخلات الإيرانية في العالم العربي، سواء كان الأمر مباشرة كما يحدث في العراق وسوريا، أو عبر جماعات ترتبط معها كما الحال في اليمن ولبنان والبحرين. وفي كل الظروف، فإن التمويل يتم في العراق عبر مبيعات النفط العراقية بأسعار تفضيلية وبالدخول في صفقات شراكة استثمارية، وفي غيرها تقوم طهران بتقديم العون المادي والإعلامي والتأهيل العسكري لجماعات محلية، مقابل نفوذ إقليمي تسبب في توتر العلاقات بينها وبين دول الإقليم، وعلى وجه الخصوص السعودية والبحرين.
ليس مجهولاً أن التدخلات الإيرانية سبقت زمنياً قيام النظام، وكان شاه إيران يتصرف مع المنطقة بمنظور فيه تعال كشرطي مكلف حفظ الأمن فيها، وكان يرى أن بلاده أكثر تفوقاً حضارياً وعلمياً، بالتالي فإن لها الحق في فرض شروط العلاقات البينية مع دول الإقليم، ولعل في احتلال الجزر الإماراتية الثلاث مثالاً صارخاً على عدم الاكتراث بحسن الجوار، مكتفياً بقدراته العسكرية في ظل ضعف دول الإقليم، وعدم رغبتها في الانجرار إلى ساحة قتال.
ومن المؤسف أن التدخلات الإيرانية سواء تلك التي جرت في عهد الشاه وبعده في عهد "الجمهورية"، لم تتم مواجهتها بالصلابة المطلوبة عسكرياً أو دبلوماسياً، ولم تفلح التجمعات الإقليمية في وضع حد لانخراط النظامين، مباشرة أو عبر تحالفاته المحلية في إرباك ودعم اضطرابات المنطقة.
إنني حين أعيد التذكير بالعجز الإقليمي، خصوصاً والعربي عموماً، تجاه التعامل مع الحكومة الإيرانية بمؤسساتها المختلفة، فلا بد لي من تأكيد أهمية علاقات الجوار، فالتاريخ هو نتاج طبيعي لخطوط الجغرافيا التي تفرض منطقها كما لا يمكن استبدالها أو الهروب منها إلى مساحات أكثر هدوءاً وراحة، وليس بمقدور المنطقة التخلي عن الجار الكبير المربك ولا الاعتقاد بأن من الممكن تعويضه بعلاقات مع كيان آخر، وهكذا يكون من الحيوي والعاجل استخدام كل القنوات التي ما زالت سالكة بين طهران وعدد من عواصم الإقليم، لتهيئة حديث جماعي مباشر وصريح مع الحكومة الإيرانية حول مجمل القضايا، ولعل البداية تكون في وقف الانزلاق بالحملات الإعلامية التي خلطت بين السياسة والمذهب، والاتفاق على هدنة جادة.
لقد خرجت الحملات المتبادلة عند كثيرين عن سياق السياسة، وتدحرجت بسرعة ومن دون كوابح إلى مسارات مذهبية كان واجباً على الجميع العمل على تجنبها، لأن الإقليم تعايش معها لعقود طويلة، ولم يكن أحد يضع تمييزاً بين المذاهب، وإذا كانت حكومات الإقليم قد نأت في الخطاب الرسمي عن الحديث المذهبي، فإن عدداً من أذرعها الإعلامية لم يتردد في استخدامه لبث الخلافات المرفوضة التي تسهم في تمزيق النسيج الاجتماعي داخل المجتمع، وتخلق حال شقاق بين المواطنين الذين سيبحثون عن خطوط دفاع خارج الحدود طالما أنهم لم يجدوها في أوطانهم.
من المهم الاعتراف بأن أخطاء كثيرة ارتكبها الجميع وتسببت فيها الشكوك والمخاوف التي أثارتها الثورة الإيرانية في بداياتها، حين صار خطابها الإعلامي كارثياً ومحرضاً ومصمماً على نقل النموذج الذي صاغه الإمام الخميني وسعى إلى استنساخه في دول الجوار، ثم دخلت المنطقة في حرب الخليج الأولى التي مهدت الطريق نحو غزو الكويت، ثم احتلال العراق، ثم انهيار سوريا واهتزازات لبنان وزلزال اليمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إننا حين ننظر إلى خريطة المآسي في العواصم العربية التي دمرتها الحروب وتعيش اليوم في واقع محزن من الفوضى والفقر، فلا بد أن إيران ستكون حاضرة في مقدمة أسبابها ومصدر تمويلها، ولكن هذا ما كان ليشكل واقعاً لولا العجز العربي وضعف المؤسسات الإقليمية، التي كان من المفروض أن تقود عملية سياسية موحدة تجاه كل الاعتداءات التي يتعرض لها أي قطر عربي، وأن تكون جهة تنسيق في مواجهة المخاطر الخارجية، ولكنها تحولت للأسف إلى جهات غير قادرة وغير مهيأة للقيام بما يجب عليها من التنسيق واستنباط الحلول مع عدم الاكتفاء بترتيب الاجتماعات، التي لم يعد المواطن العربي يثق في قدرتها على تحقيق مبتغاه من التنمية والاستقرار وإنهاء الاضطرابات التي تقرع طبولها في أكثر من عاصمة عربية.
القلق من الدور الإيراني مشروع وحقيقي، ولكن التعامل معه يحتاج إلى سياسات صارمة وواضحة ومبتعدة في الوقت ذاته عن التصعيد الذي لن يكون في مصلحة المنطقة برمتها، وكما ذكرت فإن عدداً من العواصم العربية قادر على الإسهام في فتح المسارات وإزالة ما يعرقل السير قدماً نحو التهدئة ثم الاستقرار، ويعي تماماً النظام في إيران أنه مطالب بتقديم ما هو أكثر من الكلمات الجميلة، والتوقف عن التهديدات ولغة الوعيد التي يطلقها قادته، وأن يبدأ بالعمل مع الرياض تحديداً للبحث في كل الأزمات التي خلقتها أجهزته، وأن يكف حلفاؤه ووكلاؤه في المنطقة عن التصعيد المضر بالجميع.
تحتاج إيران أكثر من غيرها إلى الالتفات إلى تدهور مؤشرات التنمية المستدامة، وأن تدرك أن القبضة الحديدية في الداخل قد تطيل من عمر النظام لسنوات قليلة، لكنها ستكون حافزاً لمزيد من الغضب والاحتقان، خصوصاً أن الأجيال التي ولدت بعد الثورة الإيرانية لن تقبل باستمرار هيمنة السلطة الدينية على كل مناحي الحياة، وستقاوم تواصل خنق المجتمع وقهر طموحات شعب عظيم.
وبغض النظر عن موقف إيران، فعلى حكومات الإقليم العمل الجاد على تقوية الجبهة الداخلية وعدم الانزلاق في منحدرات المذهبية والطائفية، لأنها المساحة المثلى للنظام الإيراني ومن خلالها سيبقى قادراً على إشعال نيران فتن طائفية ستحرق نيرانها الجميع.