اخبار العراق الان

المترجم العسكري الأميركي يبحث عن جلجامش في العراق

المترجم العسكري الأميركي يبحث عن جلجامش في العراق
المترجم العسكري الأميركي يبحث عن جلجامش في العراق

2023-02-09 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية


تشكل #ملحمة_جلجامش أرضاً خصبة لا تنضب مطلقاً للشاعر والكاتب و#المتأمل على سواء، فقد خاض جلجامش رحلة ذات أوجه متعددة: ترحال، تطور أفكار، تشكيل رؤى، ثم قبول فكرة #الفناء. والرحلة هي التي أنضجت جلجامش، فانتقل من البطش إلى العدل، ومن تحدي انكيدو إلى الحزن على فقده، ومن الرغبة في منافسة الآلهة إلى قبول الواقع الإنساني.

يقدم مسار الرحلة ثراء كبيراً للتخييل، فعلى سبيل المثال، يعلن محمود درويش في استلهامه لجوهر جلجامش في "جداريته": "خضراء، أرض قصيدتي خضراء"، لكنه أيضاً احتاج أن يدون "الجدارية" على مهل، في محاكاة لرحلة جلجامش، ليدرك أن "كل شيء على البسيطة زائل" بعد أن كان يطلب من الموت التمهل. وفي رواية "الأميركي الذي قرأ جلجامش" للكاتب السعودي أحمد الشويخات (مركز الأدب العربي، 2022) احتاج ديفيد بوكاشيو- الأميركي من أصل إيطالي- أن يصل إلى الـ60، ليفهم مغزى الرحلة الذي حاول رجب سمعان أن يشرحه له على مدار حياة كاملة.

لكن رواية أحمد الشويخات لا تستلهم جلجامش كما يفعل الشعراء، القدماء والمحدثون، بل هي رواية تسعى إلى ترجمة جلجامش. ومن دون أي مراوغة يعلن النص من العنوان أن ديفيد الأميركي- المترجم- قرأ ويقرأ جلجامش، يهيم بها، يتأمل مقاطعها، يحفظ أجزاء منها، حتى إنه يحلم بجلجامش. يبدأ النص من قلب الصحراء حيث معسكر الجيش الأميركي في العراق، ولكي نفهم سبب وجود ديفيد في هذا المكان، كان لا بد من الذاكرة الاسترجاعية التي تسرد عالم ديفيد في سان فرانسيسكو. بهذا يحاكي النص البناء الملحمي، حيث دائماً ما تبدأ الأحداث من المنتصف. في مرحلة مبكرة من النص يتساءل ديفيد عن جدوى مجيئه إلى العراق: "لم أستطع فعل شيء، كنت أعيش وهماً آخر من الأوهام التي ملأت حياتي عاماً بعد عام. كنت أسير عبر حقول الوهم والموت، ومع ذلك نجوت حتى اللحظة. أو هل بالفعل نجوت؟". سؤال محوري لم يتمكن ديفيد من الحصول على إجابة مقنعة له، لأنه ببساطة كان يستنكر ما يردده رجب سمعان: "سيكون ما سيكون، لا تحرص أكثر من اللازم على حدوث أو عدم حدوث أي شيء مطلقاً، وما جاء به الزمان مضى به الزمان".

التناقض اللافت

الرواية الجديدة (مركز الأدب العربي)

 

إلا أن الشويخات في عمده إلى البدء بوجود ديفيد في قلب الصحراء حيث يعمل مترجماً للجيش الأميركي في العراق، نجح في رسم تناقض لافت بين ديفيد المغرم باللغة العربية و"ألف ليلة وليلة" و"ملحمة جلجامش"، والمتبحر في الثقافة العربية، وواقع كابوسي لا يتوقف بقيادة جيش مسلح لا يفقه شيئاً في الثقافة العربية، وربما لا يرغب في أن يتعلم. في هذا التناقض المتنافر بين محتل غاشم وصاحب أرض أصيل، يقع ديفيد في منطقة بينية فتحوم حوله شكوك قائد الكتيبة، وفي لحظة أخرى يتم اختطافه. يعمل السياق المكاني أيضاً على مضاعفة دلالات جلجامش، فهو أحياناً فراس إبراهيم الذي دوخ الجيش الأميركي، وأحياناً ديفيد ذاته الذي يبحث عن غاية غير معلومة له، حتى إنه يشعر أن هناك أبياتاً كتبت له: "جلجامش أين تهيم على وجهك/ إن الحياة التي تنشدها لن تجدها". وهو أحياناً رجب سمعان- النجدي صديق ديفيد- الذي مات غرقاً (هكذا نعتقد) في البحرين، وهو أحياناً الصوت المعلق على الأحداث- بصوت ديفيد- ومشاهد الخراب في العراق: "في مدينتي،/ يموت الإنسان مثقل القلب بالهموم./ ها أنا ذا أنظر من فوق الأسوار/ فأرى الجثث تطفو على النهر".

تبدو مضاعفة دلالات جلجامش بمثابة فعل ترجمة. ففي محاولته للإمساك بالمعنى، يعمل ديفيد (والكاتب أيضاً) من دون وعي، على ترجمة ولعه بجلجامش في واقع الحياة اليومية، لكنه يدرك أن الفجوة بين تصورات العقل وترجمتها الملموسة في الواقع كبيرة، هو الفرق بين النظرية والواقع: "كما يعيش المرء الفروق بين الترجمة نظرياً أو الحديث عنها والترجمة في الميدان بالفعل". جمع بين ديفيد ورجب حب الترجمة والأدب والسفر، وللوهلة الأولى تبدو هذه الحبكة وكأنها المعادل للصداقة التي جمعت بين جلجامش وانكيدو، لكن الأمر أعقد من ذلك، فالتخييل في "الأميركي الذي قرأ جلجامش" ليس إلا محاولة لترجمة الحكمة التي وصل إليها جلجامش، عبر تساؤلات ديفيد المستمرة واسترجاعه للماضي، وعبر تجربته السيئة في المعسكر حيث كان متعاطفاً مع العراقيين، بالتالي متهماً بشكل ضمني، وعبر إدراكه أن ما كان يبحث عنه ظل ماثلاً أمامه لكنه لم يره. وهو ما يتجلى في النص عبر طائر الشقراق الذي وقف على إفريز النافذة أمام ديفيد، مرات عدة ونقر الزجاج بمنقاره في محاولة لجذب انتباهه بلا جدوى. كان ديفيد دائماً مستغرقاً في الكتابة، كان غارقاً في الفجوة بين النظرية والواقع. وأخيراً، قرب النهاية، انتبه ديفيد إلى الطائر- أثناء التحقيق معه- ونجح في ترجمة حكمة جلجامش حيث "لا واقع بلا خيال، ولا خيال بلا واقع".    

شخصيات وأمكنة

الروائي السعودي أحمد الشويخات (صفحة الكاتب- فيسبوك)

 

تتقاطع الشخصيات والأمكنة وتتشابه التساؤلات وتتحول آراؤه إلى دليل يقود الشويخات إلى بناء العمل (لا واقع بلا خيال)، ومن كل نهاية تتوالد بداية جديدة. وإذا كان رجب سمعان قد مات غرقاً، فإن أقواله وأفكاره تبقى حية في وجدان ديفيد، فتتوالد بدايات من نهايات بفعل سحر السرد، أي إن جلجامش فكرة حية لا تموت. تعلم رجب سمعان مبكراً "أن ليس هناك بعد واحد محصور لأي حكاية، وأن ما يصنع السرد هو السياق والغرض والأسلوب". وهو ما يتشابه مع الرأي القاطع الذي أعلنته صوفيا، والدة ديفيد، من قبل: "لا تصدقوا أحياناً ما يروى وما يقوله ويكتبه المؤرخون". تشكل هذه الرؤى أساساً فكرياً يستدعي تاريخ عائلة بوكاشيو تفصيلاً عبر بناء عالم ديفيد من خلال ذاكرته وذاكرة الأم. ويستدعي أيضاً تاريخ المنطقة الشرقية في السعودية عبر الصداقة التي نشأت بين ديفيد ورجب في مقر شركة "أرامكو"، وواقع الوجود العسكري الأميركي الكارثي في العراق. تتعثر قليلاً ترجمة جوهر جلجامش عندما يحال ديفيد إلى التحقيق، ثم يعرض على طبيبة نفسانية. في أعلى لحظة يأس يستدعي وعي ديفيد رجب سمعان مرة أخرى.  

لعل استدعاء ديفيد لرجب ليس إلا استدعاء لفكرة جلجامش مرة أخرى. ولأن الحياة فعل ترجمة طبقاً لرجب سمعان، ينتهي النص بظهوره على عتبة باب منزل ديفيد، ليسلم إلى لورا طرداً في داخله تمثال جلجامش الذي خاض ديفيد ورجب مغامرة قبل 30 عاماً، لشرائه ثم سرق منهما. يقول رجب سمعان للورا: "قولي له إن التمثال الذي اشتراه قبل 30 سنة قد عاد... لقد دفع ثمنه، وها هو يعود إليه". هل كان هذا الشخص هو رجب سمعان أم لا، هل كان ديفيد قد نجا من الموت ثم الاختطاف في العراق، هل كان ما حدث ينتمي إلى الواقع أم الخيال؟ كلها تساؤلات تتجلى بسبب مناطق الصمت في النص، والفراغات الكائنة بين منطق النص وخياله. تماماً مثل فراس إبراهيم الذي لم يتمكن الأميركان من الإمساك به، وتماماً مثل الشبح الذي كان يراه ديفيد في المعسكر، وتماماً مثل طائر الشقراق، ومثل رجب سمعان الذي خاض في البحر بوعيه، ومثل الإهداء الذي صدر به الكاتب روايته "إلى رجب سمعان". في مساحات الصمت تتجلى الترجمة التي يقوم بها القارئ والكاتب معاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم يبالغ الشويخات في رسم مساحات الصمت، فقد دفع نساء عائلة ديفيد إلى الحكي وإعادة الحكي من أجل الحفاظ على الذاكرة، إضافة إلى ما قام ديفيد بتدوينه عن مسار حياته. في تبادل الأدوار بين الحكي والصمت يتحول مسار ديفيد بوكاشيو ورجب سمعان- وهما وجهان لشخص واحد- إلى مسار يشبه رحلة العثور على ألواح ملحمة جلجامش. مسار طويل وموغل في القدم، فقدت فيه أجزاء وتم العثور على أجزاء. وهذه الأخيرة مرت برحلة ترجمة معقدة حتى وصلت إلى ديفيد الذي بدأ قراءتها في سن مبكرة في قبو المنزل.

عبر استدعاء ملحمة جلجامش وتحويلها- أي النص ذاته- إلى صوت رئيس في رواية "الأميركي الذي قرأ جلجامش" جمع أحمد الشويخات ما يبدو متنافراً ومتناقضاً: الأميركي والنجدي، الشرق والغرب، البحر والصحراء، الحرب والسلم، الفناء والخلود، الاستقرار والترحال، الاندفاع والتريث، الواقع والخيال. بهذه المصالحة يثبت الشويخات أن الشاعر الإنجليزي رديارد كيبلنغ لم يكن على صواب عندما قال "الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب، ولن يلتقي التوأمان أبداً". بالطبع سيكون كيبلنغ على صواب، إذا ظل الغرور والتكبر والسطحية ومنطق قوة السلاح، هي العوامل التي تحكم الرؤية والمسار. إلا أن هذه العوامل لا تقع في اهتمام الشويخات. فهو يردد مع ديفيد بوكاشيو الذي سأله الجنود عن هوية جلجامش: "كان طاغياً متكبراً، لكن الحياة علمته بعد أن فقد صديقه انكيدو، وبدأ يتفكر في الحياة والأقدار والموت. كان على جلجامش أن يمضي في الترحال ويبحث. في النهاية كان عليه أن يسير على الأرض بشيء من التواضع والحكمة، وربما سار ذات يوم في هذه البقعة التي نمر فيها الآن، يا أصدقائي".

المترجم العسكري الأميركي يبحث عن جلجامش في العراق
المترجم العسكري الأميركي يبحث عن جلجامش في العراق