"بوليفارد بغداد" لمحمود فهمي: لوحات تسكن زمناً مضى
يمكن تمييز أعمال الفنان العراقي محمود فهمي (1962) من النظرة الأولى، فهو منذ دراسته الأكاديميّة للفنون الجميلة في أوكرانيا، وما تلاها من معارض شخصية ومشتركة، عُرف بتأثّره بالأسلوب الواقعي الروسي الذي دَرسه، ومَزجه بالواقعيّة العراقيّة التي عاشها، ليقدّم أعمالاً ذات أسلوبٍ تصويريٍّ خاصٍ عُرف من خلاله في العقود الأخيرة.
"بوليفارد بغداد" هو المعرض الشخصي الرابع دوليّاً والأول لفهمي في العراق، والذي انطلق في العاشر من آذار/ مارس الجاري، في فضاء "ذا غاليري" ببغداد، ويستمرّ حتى الثامن عشر من نيسان/ أبريل المُقبل؛ حيث يُعرض فيه ما يقارب 25 لوحة، بينها 19عملاً زيتياً، إلى جانب تخطيطات فحم على ورقٍ أسمر، وقد استغرق إنجاز هذه الأعمال ما يقرب من تسعة أعوام.
يُقدِّم فهمي، في مجمل أعماله، المجتمع والعمارة والمدينة البغداديّة الحالمة، إذ تشير أمكنته وشخوصه وألوانه إلى فترة لا تغيب عن ذاكرة العراقيين، بما فيها من أُلفةٍ واستقرارٍ نسبيٍّ، هي فترة الستينيات وما تلاها. ومع هيمنة هذا الأسلوب، يوحي الفنان بأنَّ المدينة التي يستعيدها في لوحاته، لم تكن جزءاً من ماضٍ يحنُّ إليه ويستذكره فقط، بل إنَّه لم ينقطع، أساساً، عن تلك الفترة، وبهذا تصير أعمالُه امتداداً لها.
يُركّز فهمي في أعماله المعروضة على الجسد الأنثوي الذي يُميِّزه بالبضاضةِ حيناً، وبالنحافةِ أحياناً أُخرى، مُتَّخذاً منه مركزاً يشدّ نظر المتلقي؛ لمساحته الكبيرة في اللوحة ولوجوده المُغاير فيها. ففي لوحة "وفيقة خاتون"، تظهر المرأة بجسدها المكتنز وعباءتها العراقيّة التي تغطي شيئاً من رأسها وجسدها بحجمٍ يشذُّ عن مقاسات معالم اللوحة كلّها، وهذهِ ثيمةٌ اتَّخذها فهمي في العديد من أعماله.
في حين تظهر في لوحةٍ أُخرى امرأةٌ بدينةٌ بحجمٍ عملاقٍ تسند ظهرها إلى بنايةٍ وتغطّس قدميها في النهر، فيما تُحيط بها علائم المدينة التي لا توازي حجمها ولا حجم سكانها. هذا الاختلاف بالأحجام والملامح يمثّل الاختلاف الحقيقي لطبيعة الجسد وتكوينه في المجتمع الذي يصوّره ويسلِّط قدرته عليه، مع التشابه الكبير بتفاصيل الملابس والأبنية والهدوء المكاني الذي يسود تلك الفترة الزمنية.
لا يريد الفنان بغدادَ لا يتوسطها حضور النساء
ونفهم من هذا التركيز على حضور المرأة أن الفنان لا يريد بغداد من دون نساء؛ على العكس، فهو لا يزال يرسم ملامحها مُحافظاً على أجساد نسائها، اللاتي لا يخضعنَ فيها إلى تجميلٍ ولا تقليصٍ ولا تشذيب، بل يحضرن بأجسادهنّ الطبيعية الخاضعة لعوامل الحياة اليومية البسيطة.
لفهمي ذاكرة لا تغادر صغيرةً ولا كبيرةً، فكل ما يصوّره في لوحته لا يجيء بصدفةٍ أو برغبةٍ عابرة، كلّ شيء مقصود وله حضوره ودلالته. ففي "إشراقة ربيع" (اللوحة)، حيث تستند الفتاة البغداديّة على بابٍ خشبيٍّ بطرازٍ كانت تشتهر به أغلب البيوت آنذاك، يعتني الفنان بتفاصيل المكان من أثاثه وخشبه، وحتّى تقطيعات أرضيَّته، فيظهر الكرسي الأحمر المُطرَّز وإلى جانبه الخزانة الخشبيَّةِ التي تعلوها علبة معدنيَّة مستديرة الشكل، وأسفلها مجموعة سجلات، فيما يعلو كلَّ ذلك، على رفٍ خشبيٍّ، الهاتف الأرضيِّ وتحته رزمة أوراق، في إشارةٍ إلى الدفتر الذي تُسجَّلُ فيه أرقام الهواتف. كما لم تغب عن ذاكرته أشكال أزرار الكهرباء أو مقبس المروحة، وهي أشياء تذكّرنا بها لوحاته.
يبرع فهمي في الموازنة بين الضوء وسقوطه وتسلّله وبين الظلِّ وما يخفيه؛ نلحظ ذلك على وجه الفتاة التي تبتسمُ بهدوءٍ فيما تضيء الشمس جانباً من وجهها، ويخفت هذا الإشعاع في الجانب الآخر، حيث يأخذ الظلُّ مكانه. ويبدو الضوء مثل المطر الهاطل من خلال النافذة وأمام الباب، وهذه الحركة ليست عادية، إنما هذا ما يفرضه وجود مظلَّةِ زرعٍ وأشجارٍ حول الحوش الذي يبدو جزءٌ منه في الصورة وحتى الباب.
ولمّا كانت اللوحات تدور في فلك الرومانسيّة والفترة البغداديّة الحالمة، فهذا يعني أنَّه لا بدَّ من أن تصاحب تلك الأجواءَ الأصواتُ الغنائيّة التي ما زالت تُستعاد إلى الآن ولا تُنسى، كما في اللوحة التي تصوّر ناظم الغزالي (1921 - 1963)، والذي يرسمه في حفلٍ غنائيٍّ وخلفه فرقته العازفة، في حين خصَّص لوحةً أُخرى للمطربة مائدة نزهت (1937 - 2018)، والتي أظهرها مستغرقة في لحظتها الغنائيّة بحركةٍ عفويَّةٍ لليدين.
أمام المدينة التي نشهد فوضاها وعبثيَّة عمرانها، وتغيُّر حالها وتبدّل أجساد سكّانها وأمزجتهم، يبقى فهمي مُنشغلاً بجمالٍ شهدَه وعاشه ولا يريد أن يغادره. وبالمقارنة السريعة بين عوالم اللوحات والواقع الحالي، لا يحضر أيُّ شبهٍ يُذكَر، حيث تبدو اللوحات غارقةً في الرومانسية، وخاضعة لأحلام صاحبها وخياله العالق في الماضي.