اخبار العراق الان

عاجل

ناجي صبري الحديثي لـ"العربي الجديد": قرار الغزو اتخذ في 1991

ناجي صبري الحديثي لـ
ناجي صبري الحديثي لـ"العربي الجديد": قرار الغزو اتخذ في 1991

2023-04-10 00:00:00 - المصدر: العربي الجديد


الحديثي: ظهرت الأصوات المناهضة للحرب بأميركا منذ 2004 (حسين بيضون)

شتاء عام 2002، كان العراق قد استقبل فعلياً ما لا يقل عن 200 زيارة تفتيشية لمواقع عسكرية وأمنية وأخرى مدنية، من بينها جامعات ومعاهد بمختلف مدن البلاد، من دون أن تعثر على أي أدلة أو حتى مؤشرات تثبت مزاعم امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وهي الذريعة التي تذرعت بها الولايات المتحدة وبريطانيا في غزوهما العراق واحتلاله قبل 20 سنة، وما زال العراقيون يدفعون ثمنها لغاية الآن.

وزير خارجية العراق في فترة الغزو الأميركي عام 2003 ناجي صبري الحديثي، يسرد لـ"العربي الجديد"، جوانب عديدة سبقت الاحتلال الأميركي، أبرزها عمل لجان التفتيش التابعة للأمم المتحدة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية. كما يتطرق إلى الجهود الدبلوماسية التي أدارها قبيل الغزو الأميركي، وأسهمت في إفشال مساعي الإدارة الأميركية بانتزاع قرار أممي بتنفيذ عملية الاحتلال. وفيما يصف ذكرى الغزو بأنها "اليوم الأشد سواداً في تاريخ العراق"، يعتبر أن الغزو الأميركي والبريطاني لبلاده في إطار تنفيذ مشروع إسرائيل.

* 20 سنة على ذكرى غزو واحتلال العراق... ماذا تقولون؟
هذه ذكرى اليوم الأشد سواداً في تاريخ العراق، ذكرى جريمة هذا القرن، وهي من أبشع الجرائم ضد الإنسانية في كل القرون والعصور، حينما حشّدت دول كبرى وغيرها جيوشها لتفتك بدولة محاصرة أصغر في مساحتها وأقل في عدد سكانها، وفي قوة جيشها واقتصادها، لكنها كانت وتبقى أكبر من كل تلك الدول في تاريخها المجيد وتراثها الحضاري ودورها الرائد في تأسيس الحضارة البشرية منذ أكثر من سبعة آلاف عام، وفي إغنائها لعشرات القرون.
حقق المستعمرون حلماً لطالما راود عتاة الصهاينة وأسلافهم ممن عششت في نفوسهم عبر القرون كل معاني الكراهية للعراق. وقد رسمت إسرائيل الخطوط العامة لتحقيق هذا الحلم منذ العام 1990، من خلال عناصرها في إدارتي [الرئيسين الأميركيين الأسبقين جورج] بوش الأب والابن وإدارة [بيل] كلينتون، ونفذت حكومتا بوش و(البريطاني توني) بلير الحلقة الأخيرة منه في غزو العراق واحتلاله من أجل هدم دولته الحديثة.

* قبل بدء عملية الاحتلال كنتم تتحركون في مجلس الأمن والأمم المتحدة، هل توصلتم لقناعات بأن قرار الحرب على العراق اتخذ فعلاً؟
كانت جولتي تلك في الدول العربية والأجنبية لإطلاع حكوماتها على موقف العراق من تطورات الأزمة التي كانت تعصف بالمنطقة، جراء حملة أميركا وبريطانيا لتنفيذ المشروع الإسرائيلي لتدمير العراق من خلال إنهاكه بثلاث حروب متزامنة. وهي حرب اقتصادية شاملة، بدأت بحصار خانق منذ 6 أغسطس/آب 1990 ومنها حملة نفذتها فرق التفتيش منذ أواسط العام 1991 لتدمير المنشآت الصناعية والعملية الكبرى، وحرب تدميرية شاملة عام 1991، وحرب استنزاف بدأت حال توقف الأولى من بداية مارس/آذار 1991، وتمثلت بقصف جوي يومي لمواقع العراق العسكرية والاقتصادية، واشتملت على 6 هجمات حربية كبيرة، واستمرت هي والحرب الاقتصادية حتى الغزو عام 2003. 

وكنت في تلك الزيارات أحمل رسائل من الرئيس صدام حسين (رحمه الله) إلى قادة الدول بشأن موقف العراق من تطورات الأزمة، خصوصاً الموقف من تنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن العراق التي مررتها أميركا وبريطانيا منذ بداية الأزمة في أغسطس 1990، وصممت لإلحاق أشد الأضرار بدولة العراق.
أما بشأن اتخاذ قرار الغزو، فإن المسار المؤدي إليه قد بدأته أميركا وبريطانيا فعلياً منذ اليوم الأول بعد توقف حرب 1991، وتمثل بهجماتهما العسكرية اليومية، وبتمريرهما في مجلس الأمن قرارات جائرة، وأخطرها القرار 687 في 3 إبريل 1991. كما تجسد بالسلوك التخريبي والتجسسي للجان التفتيش عن الأسلحة، التابعة للجنة الأمم المتحدة للرقابة والتحقق والتفتيش (انموفيك) "UNMOVIC" وللوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي هيمنت أميركا وبريطانيا عليهما، وعينت مديريهما من الموالين لهما وبثت فيهما عناصر مخابراتهما.

* ماذا فعلتم دبلوماسياً للتعامل مع نوايا الحرب على العراق آنذاك؟
في مارس 2002 انعقد مؤتمر القمة العربي في بيروت، وبذلت الدبلوماسية العراقية جهداً كبيراً لخلق أجواء إيجابية بين العراق وكل من الكويت والسعودية، وأفلح ذلك بالتوصل إلى قرار مصالحة بين العراق والكويت أدرج في قرارات القمة، لكن واشنطن منعت تنفيذه ما أدى إلى إفشاله وتضييع فرصة ثمينة لتجنيب المنطقة مخاطر الحروب والصراعات، وكان هذا الموقف مؤشراً إضافياً على أنها قد حسمت أمرها بالتوجه إلى قرار الحرب.
ومنذ سبتمبر/أيلول 2002 تهيأت أميركا وبريطانيا لشن الحرب على العراق، بعد تمرير قرار من بوابة الأمم المتحدة لكي يتلفع (يتغطى) بستار الشرعية الدولية. وقبل سفري إلى نيويورك لترؤس وفد العراق في الدورة السنوية 57 للجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الشهر، التقيت الرئيس الراحل (صدام) وسألته عن موقفنا من مسألة إعادة مفتشي الأسلحة الأمميين فأجاب بالانتظار، ما يعني أن القيادة العراقية كانت ما تزال غير موافقة على عودة المفتشين الذين سبق أن أمر ريتشارد باتلر، رئيس اللجنة الخاصة للتفتيش عن أسلحة العراق (أونسكوم) بسحبهم، وتواطأ مع إدارة كلينتون وحرّضه على توجيه هجمات صاروخية لمدة ثلاثة أيام على بغداد بعد خروج المفتشين. وقد أثار انحراف فرق التفتيش عن مهامها، وتواطؤها في هذا العدوان، ضجة كبيرة في الأمم المتحدة، وباتت أوساط دولية تكرر اتهامات العراق لها بالتجسس ضد أمنه وسلامته. لذلك قرر العراق عدم السماح للمفتشين بالعودة، ما لم تتم إعادة النظر في مهامهم، ويُستجاب لمطلب العراق المشروع برفع الحصار بعد أن لبى كل متطلبات رفعه.
خلال حضوري في مقر الأمم المتحدة يوم 12 سبتمبر 2002 علمت أن وزير الخارجية الأميركي [وقتها] كولن باول كان يشرف على صياغة مشروع قرار يجيز شن الحرب على العراق باسم الأمم المتحدة، بذريعة عدم الموافقة على عودة المفتشين. ويفرض القرار على العراق شروطاً مستحيلة، ويفوض الدول بشن الحرب عليه باسم الأمم المتحدة بدون الرجوع إليها بعد أن يعجز عن تلبيتها. فأبرقت إلى الرئيس صدام مقترحاً الموافقة العاجلة على إعادة المفتشين لقطع الطريق على المشروع المعادي. ووصلتني موافقته خلال ساعتين، وأبلغتها للأمين العام للأمم المتحدة مساء 16 سبتمبر 2002، فأفشلتُ مشروع قرار أميركا وأحبطت محاولتها غزو العراق باسم الأمم المتحدة.

لكن الحكومتين الأميركية والبريطانية، اللتين كانتا تطالبان العراق بإعادة المفتشين، رفضتا قراره بإعادتهم واعتبرته خداعاً! وقد نشطت الدبلوماسية العراقية في التواصل مع الدول الثلاث دائمة العضوية في مجلس الأمن، فرنسا وروسيا والصين، والتعامل المهني مع كل وكالات الأمم المتحدة، ومع مسؤولي لجان التفتيش لبيان الموقف الجديد واستعداد العراق لتيسير مهامها، مع التأكيد على السلوك المهني في فرق التفتيش والابتعاد عن تسييس عملها لصالح الأجندات المعادية للعراق.
في نوفمبر/تشرين الثاني كررت أميركا محاولة شن الحرب باسم الأمم المتحدة، وسعت لحشر بند يضمن ذلك في قرار جديد سيئ بذريعة تحصين فرق التفتيش. ونتيجة تحرك العراق الإيجابي بشأن المفتشين، ونشاط الدبلوماسية العراقية على الصعيد الدولي، وتأمين تأييد المنظومة العربية للعراق ضد العدوان، فشلت واشنطن في تمرير البند السيئ في القرار 1441.
ثم قامت أميركا بمحاولة مماثلة في فبراير/شباط 2003، حينما دعت مجلس الأمن للاجتماع في 5 فبراير، فأرسلتُ رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 30 يناير/كانون الثاني 2003 نبهته فيها إلى أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول سيأتي إلى اجتماع المجلس بعرض مسرحي ومزاعم عن أسلحة العراق. ودعوت فيها مجلس الأمن لإحالة أي أدلة يقدمها باول إلى فرق التفتيش الموجودة في العراق آنذاك للتحقق منها، وأكدت له استعدادنا الكامل لتيسير وصولها إلى أي مكان تقصده لهذا الغرض، وهذا ما حصل بالفعل. وهكذا أحبطنا المحاولة الثالثة، وعبر باول بعد سنوات عن خجله لذلك الدور.
واصلت الحكومتان الأميركية والبريطانية، محاولاتهما طيلة الفترة التالية قبل الغزو لتمرير قرار من مجلس الأمن يجيز قيامهما بغزو العراق باسم الأمم المتحدة، لكنهما فشلتا، فأقدمتا على تنفيذ مشروع الغزو المنتهك للشرعية الدولية.

ناجي صبري الحديثي: غزت أميركا وبريطانيا العراق في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة (حسين بيضون)

* هل كان بالإمكان فعل شيء لتجنب هذه الحرب، أم أن القرار كان فعلاً مُتخذاً مسبقاً؟
القرار بغزو العراق اتخذته أميركا وبريطانيا وفق المشروع الإسرائيلي منذ اليوم الأول لوقف حرب عام 1991 حينما رفض بوش (الأب) إصدار قرار بوقف إطلاق النار. وأصر على أن يتضمن قرار مجلس الأمن 686 تعليقاً مؤقتاً للعمليات القتالية، ريثما تصوغ حكومته القرار الأطول والأخطر في تاريخ الأمم المتحدة وهو القرار 687 في 3 إبريل 1991، الذي فرض على العراق شروط إذعان مخالفة لميثاق الأمم المتحدة، ورسم آلية كاملة لإنهاكه اقتصادياً وعسكرياً بالحصار وتدمير كل بناه الصناعية والعلمية، وتعريض أمنه للانكشاف لأعدائه. وباشرت أميركا وبريطانيا منذ 1 مارس 1991 حرب استنزاف استمرت 12 سنة، وبذلك وضعتا، منذ توقف الحرب الأولى، الأساس لتنفيذ مشروع الغزو بعد إنهاك الدولة خلال 12 سنة.
بذل العراق جهوداً كبيرة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن الجائرة المنتهكة لميثاق الأمم المتحدة، وتحملت حكومته وأبناؤه مصاعب جمة، وقدموا تضحيات غالية حين قبلوا على مضض بتدمير مصانعهم ومؤسساتهم العلمية، وفتح مراكزهم العسكرية والأمنية ومواقعهم السيادية لفرق التفتيش وجواسيسها، وكل ذلك من أجل إنقاذ شعب العراق من الحصار وتجنب هجمات العدو الجوية اليومية وكل شرور الحرب، ولاستعادة وضعه الطبيعي. وقد نشطت الدبلوماسية العراقية على كل الأصعدة، ورغم شحة الإمكانيات المادية وضيق مساحة التحرك المتاحة لها وتناقص عدد بعثاتها إلى 37 فقط بفعل إجراءات الحصار، إلا أنها حققت نجاحاً باهراً في إفشال الحملة الدبلوماسية الأميركية البريطانية الضخمة، ومنع أميركا وبريطانيا من تمرير مشروع الغزو من الأمم المتحدة بقرار من مجلس الأمن، وهو ما حصل في سبتمبر ونوفمبر/ تشرين الثاني 2002 وفبراير ومارس 2003.
ورغم رفض المجتمع الدولي، مضت أميركا وبريطانيا في مشروعهما وغزتا العراق، في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي وإرادة المجتمع الدولي وعشرات الملايين من شعبيهما الذين تظاهروا احتجاجاً على قرار الغزو. وقد عبر عن ذلك بكل وضوح لويس رويدا، رئيس مجموعة عمليات العراق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية، حسب ما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية أخيراً عنه، بقوله: كنا سنغزو العراق، حتى لو كان ما يمتلكه صدام حسين شريطا مطاطيا ومشبك ورق فقط: كنا سنقول إنه سيستخدم هذه الأشياء لفقء عينك.

* نفى محمد البرادعي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية آنذاك، أي مسؤولية يتحملها هو أو الوكالة جراء هذه الحرب، ما رأيك؟
عندما تولى البرادعي إدارة الوكالة أواخر العام 1997 ظن البعض به خيراً، كونه قانونيا عربيا مسلما من مصر، وأنه سيتصرف بحياد ومهنية ويسمح بإظهار الحقائق التي طمسها سلفه هانز بليكس، فهو يعرف جيداً أن العراق خالٍ من أي أنشطة أو معدات نووية محظورة منذ العام 1992 بشهادة كبير مفتشي الوكالة الخبير الإيطالي، زفريرو، في سبتمبر 1992، بقوله إن برنامج العراق النووي يقف الآن عند نقطة الصفر.
لكنه (البرادعي) رفض إغلاق ملف العراق النووي وبقي حتى الغزو عام 2003 يتذرع بوجود (مسائل معلقة ووثائق ناقصة ومصادر محتملة للقلق في الملف)، وبأن وكالته واللجنة الخاصة (انموفيك بعد 1999) مثل حصانين يقودان عربة واحدة ويجب أن يصلا سوية إلى الهدف. وما دامت اللجنة الخاصة لم تتم عملها فهو ملتزم بانتظارها، وكان إذا اضطر للاعتراف بحقيقة عدم العثور على شيء محظور يختم الاعتراف بعبارة (حتى الآن)، لكي يبقي ملف البرنامج النووي العراقي مفتوحاً من أجل خدمة سياسة واشنطن التي عينته في منصبه بدلاً من مرشح مصر الدكتور محمد شاكر، والتي كانت تستخدم عدم غلق ملفات التفتيش ذريعة لإدامة الحصار.
وواصل ذات السياسة في الأسابيع الأخيرة قبل الغزو فزعم يوم 9 يناير 2003 أن الملف الضخم الذي قدمه العراق لمجلس الأمن عن جميع القضايا المشمولة بقراراته لم يجب عن تساؤلات واهتمامات الوكالة المعلقة منذ 1998، فتلقف ذلك كولن باول واستخدمه في كلمته ضد العراق بمجلس الأمن يوم 5 فبراير 2003. وفي تصريح له في طهران في 22 فبراير 2003 قال إن العراق لا يتعاون معنا تعاوناً تاماً! وكرر ذات الشكوك في كلمته يوم 14 من الشهر ذاته، وحتى في كلمة أرسلها إلى مجلس الأمن قبيل ساعات من بدء الغزو كرر البرادعي الحديث عن "عدم التيقن والقلق" في ملف العراق النووي.
ومؤخراً نشر البرادعي تغريدة حاول فيها التنصل من تبعات مشاركته في توفير الذرائع للغزو، وذلك تحت ضغط الضجة المتصاعدة في الولايات المتحدة، قال فيها إنه في (مثل هذا اليوم منذ 20 عاماً أكدت في بياني إلى مجلس الأمن، اليوم وبعد ثلاثة أشهر من التفتيش المكثف لم نجد أي دلائل أو مؤشرات مقبولة على إعادة إحياء العراق لبرنامج السلاح النووي. بعدها بعشرة أيام تم غزو العراق بالمخالفة للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة).
لكن الفقرة التي أشار إليها البرادعي في تغريدته موثقة في سجلات الأمم المتحدة بالرمز في وثيقة مجلس الأمن – S/PV 2714) ونصها، أنه بعد ثلاثة أشهر من عمليات التفتيش الاقتحامية لم نجد، لحدّ الآن، ما يدل أو يشير بشكل معقول إلى إحياء برنامج الأسلحة النووية في العراق ونعتزم مواصلة أنشطتنا التفتيشية). ويمكن ملاحظة التزوير بوضوح، فقد حذف البرادعي من التغريدة العبارتين المؤشرتين أعلاه اللتين وردتا في بيانه واللتان تؤكدان احتمال وجود أنشطة ومواد نووية محظورة أخفاها العراق، وذلك لخدمة توجه أميركا وبريطانيا لإصدار قرار من مجلس الأمن يجيز تنفيذ مشروعهما لغزو العراق، الذي يتظاهر الآن بمعارضته.
وفي كتابه المعنون "زمن الخداع" يقول البرادعي (قلت لوزير الخارجية ناجي الحديثي، في دعوة عشاء أقامها لي، ساعدني حتى أساعدك)، والحقيقة إنني لم أسمع منه هذا الكلام قط، ولم أقم له لا دعوة عشاء ولا غداء! ولم ألتق به إلا لقاءات رسمية في مكتبي بوزارة الخارجية بحضور المسؤولين العراقيين المختصين... إنه بالفعل زمن الخداع!

* ماذا عن رئيس لجنة التفتيش الثانية عن الأسلحة هانز بليكس، فهو الآخر قد دان الغزو أخيراً؟
بليكس سبق البرادعي في إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ بداية التسعينيات حتى عام 1997، قبل أن تعينه الأمم المتحدة بتأثير أميركي عام 1999 مديراً تنفيذياً للجنة انموفيك، كما سبقه في خدمة سياسة الولايات المتحدة وبريطانيا إزاء المسألة العراقية في ميدان تنفيذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بما يسمى أسلحة الدمار الشامل العراقية والمتمثلة برفض غلق ملفات التفتيش ومواصلة عمليات التفتيش العبثية، رغم أن العراق قد لبى كل متطلبات قرارات مجلس الأمن بخصوصها. وحتى بعد وقوع الغزو أرسل رسالة إلى مجلس الأمن يوم 22 إبريل 2003 قال فيها إنه ما يزال يعتقد أن لدى العراق أسلحة محظورة، وإنه يأمل أن تجدها قوات الاحتلال.
لكن بليكس حاول في تصريحات نشرت عشية ذكرى الغزو التنصل من التبعات الكبيرة المترتبة على مشاركته في توفير المسوغات للغزو، حتى إنه، في تصريح أدلى به لقناة "أم أس أن بي سي" في 17 مارس 2023، طالب بمحاكمة بوش وبلير لارتكابهما جرائم حرب.
وفي الحقيقة، من المخزي أن توجه المحكمة الجنائية الدولية للرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) تهمة ارتكاب جريمة حرب تتصل بترحيل أطفال من أوكرانيا، ولم تفعل شيئاً بحق بوش وبلير بعد مرور 20 سنة على ارتكابهما أبشع جرائم الحرب بحق العراقيين والإنسانية بقرارهما غزو العراق، وتسببهما بموت وتهجير وتشريد أكثر من عشرة ملايين عراقي، بينهم ما لا يقل عن مليوني طفل.

ناجي صبري الحديثي: من المخزي أن المحكمة الجنائية الدولية لم تفعل شيئاً بحق بوش وبلير (حسين بيضون)

*تصاعدت مواقف لسياسيين ومسؤولين غربيين بشأن خطيئة احتلال العراق وزيف ذرائع تبرير الغزو؟
الأصوات المناهضة للحرب والمشككة بمشروعيتها والواثقة بحتمية خسارتها أخذت تظهر في أميركا منذ العام 2004، ومنها مثلاً رسالة اعتذار للشعب العراقي من مجموعة مثقفين أميركيين في مايو/أيار 2004، وندوة نقاشية في جريدة "ذي نيشن" الأميركية في ذات الشهر كانت بعنوان (كيف نخرج من العراق)، قالت في مقدمتها إن الوضع في العراق يسير من سيئ إلى أسوأ. كما نشر فرانسيس بويل، أستاذ القانون في جامعة ألينوي عام 2005، دراسة وصف فيها الغزو بالحرب الإجرامية، وقال إن أميركا لا تملك أي سيادة في العراق لكي تمنحها لحكومة دمية نصبتها.
أيضاً في سنة 2005 قال (وزير الخارجية الأميركي الأسبق) هنري كيسنجر، في مقال بعنوان كيف نخرج من العراق، إنه إذا خرجنا من العراق وتركنا دولة فاشلة وفوضى فإن العواقب ستكون كارثية على المنطقة وعلى مكانة أميركا في العالم. وفي بريطانيا نشرت صحيفة "إندبندنت" عام 2004 مقالاً للكاتب روبرت فيسك بعنوان "أشباح فيتنام – مستنقع الموت والأكاذيب والفظائع". وعام 2005 قال النائب الديمقراطي في الكونغرس جون ميرثا، إن وجود الجيش الأميركي في العراق احتلال، وأفراده يعانون والمخاطر تحيق بمستقبل الولايات المتحدة.
كان ثمة إحساس متزايد بأن أميركا وبريطانيا غزتا العراق دون أي سبب مشروع، وبدون أن يقترف العراق أي جريمة ضد مصالحهما الوطنية، ودون أي دليل على صحة الاتهامات الموجهة له، فضلاً عن معرفة قادتهما بعدم صحة الاتهامات.
لكن العامل الحاسم في هذا الوعي المتصاعد هو تصاعد المقاومة الوطنية العراقية وتكبيدها قوات الاحتلال خسائر كبيرة، وقد سعت الأجهزة الأميركية لحجب الحجم الحقيقي للخسائر عن الأميركيين، لكن الصحيفة الإلكترونية الأميركية "House Information Clearing" نقلت في 13 ديسمبر 2007 عن الموقع الرسمي لدائرة قدامى المحاربين التابعة للبنتاغون إحصائية رسمية نشرها في ذات الشهر لخسائر الجيش الأميركي في العراق فيما أسمته حرب الخليج منذ أغسطس 1990 حتى نهاية مايو 2007. وتقول الإحصائية الرسمية إن عدد القتلى بلغ 73846 وعدد المصابين الذين قدموا طلبات تعويض إعاقة هو 1620906 أفراد.
معروف أن حرب 1991 على العراق بقيادة أميركا جرت بالقصف الجوي، باستثناء اشتباك بري محدود بين القوات العراقية والأميركية في جنوب العراق، لكن واشنطن سارعت لوقف الحرب، وأعلنت القوات الأميركية فيما بعد أن عدد قتلاها في تلك الحرب بلغ 153 جندياً. وحسب هذه الإحصائية فإن العدد الأكبر من العسكريين القتلى، والبالغ 73650، وأولئك الذين قدموا طلبات تعويض الإعاقة، وبلغ أكثر من مليون و600 ألف، قد أجهزت عليهم المقاومة العراقية الباسلة في الفترة من 20 مارس 2003 إلى مايو 2007، وهي فترة 49 شهراً من فترة الاحتلال الكلية البالغة 104 أشهر و10 أيام، وقد سارعت وزارة الدفاع لحجب الصفحة.
وعندما تكون الخسائر، حسب إحصائية دائرة قدامى المحاربين في نصف فترة الاحتلال، أكثر من 73 ألفا من القتلى وأكثر من مليون ونصف المليون من المصابين، لنا أن نتصور الحجم الكلي للخسائر في كل فترة الاحتلال. يقول محررو هذه الصحف إن العدد يزيد على خسائر الجيش الأميركي في فيتنام البالغة 58 ألف قتيل، بل قد يبلغ ضعفها. وهذا ما يفسر هروب الجيش الأميركي من العراق في جنح الظلام في نهاية العام 2011.
كما أن الخسائر المادية كانت باهظة، ويقول عالم الاقتصاد الأميركي جوزيف ستغلتز، الحائز جائزة "نوبل" للاقتصاد، في كتابه حرب الثلاثة تريليونات دولار، إن الغزو الأميركي للعراق سيكلف الولايات المتحدة على المدى البعيد ثلاثة تريليونات و500 مليار دولار. ولا يُستبعد أن تكون الانهيارات المالية منذ عام 2008 من تبعات ذلك.
وثمة كلفة أخرى لا تقل حجماً، وهي الضرر الجسيم الذي لحق بمكانة أميركا في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي كل العالم نتيجة هذه الحرب الاستعمارية غير المبررة وغير المشروعة. وهذا ما توقعه هنري كيسنجر.
استعرض الأكاديمي الأميركي ميلفين ليفلر، في كتاب (التصدي لصدام حسين: جورج بوش وغزو العراق)، تبعات عملية الغزو على أميركا، وكيف أنها أحدثت عبئاً إنسانياً ومالياً واقتصادياً ونفسياً في أميركا لم يكن يتصوره أحد، وحجّمت القوة الأميركية وفرقت الشعب الأميركي ومزقت ثقته بحكومته، وزادت من العداء لأميركا في الخارج، وعززت قوة إيران في الخليج، وزرعت الخلافات بين حلفاء أميركا الأوروبيين ومنحت الصين فرصة إضافية للنهوض، وحفزت الانتقام الروسي، ويرى أن عواقبها المأساوية شكلت حقبة جديدة في تاريخ أميركا ستبقى آثارها السياسية والاقتصادية والنفسية قائمة، مضيفاً أن القوة الأميركية أهينت، وجرى تحديها، وانحسرت هيمنة أميركا الاقتصادية واهتز تماسكها الداخلي. وقال عن أسباب قرار الغزو، إن نية إسقاط النظام العراقي كانت مبيتة قبل أحداث 11 سبتمبر [2001]، ومن بين أسباب كره المحافظين الجدد لصدام ورغبتهم في التخلص منه أنه "يعادي الصهيونية ويريد حذف إسرائيل من خارطة الشرق الأوسط، ويسعى للوحدة العربية، وقام بتأميم النفط واستخدم الموارد الهائلة الناتجة عن التأميم لتحديث العراق".

*غادرتم العراق بعد الغزو. كيف خرجتم وأين توجهتم؟
توجهت وأسرتي بعد يوم من إعلان الاحتلال يوم 10/4/2003 في رحلة محفوفة بالمخاطر إلى الحدود السورية، ودخلنا أراضي سورية الشقيقة، وأقمنا في دمشق بضعة أشهر. ثم جاءتنا دعوة كريمة من سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني حفظه الله بالخير والعافية، وجئنا في النصف الثاني من العام 2003 إلى دولة قطر الشقيقة الكريمة، وهكذا اضطررنا لمغادرة وطننا وترك أهلنا وديرتنا، فوجدنا في قطر وطننا الثاني، وفي قادتها وأهلها الميامين، وفي مقدمتهم سمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني رعاه الله، وسمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أعزه الله، نعم الأهل والإخوان.

ناجي صبري الحديثي لـ