متى ينتج العراق سلعه ويتخلص من "المرض الهولندي"؟
يبدو أن الظروف التي عاشها العراق بعد 2003 انعكست على واقع المنتجات، إذ تصدرت البلاد قائمة أكثر الدول المستوردة للسلع من الخارج، نتيجة الانتقال إلى اقتصاد السوق المفتوح غير المنظم وانفتاح الحدود الدولية أمام التبادل التجاري وخلق نمط استهلاكي خطر لا يتطلع إلى الإنتاج، بل ينكفئ على الاستيرادات.
أشار باحثون في الاقتصاد إلى أن البلاد تحولت إلى دولة استهلاكية بامتياز بسبب تركيز الاقتصاد على صادرات النفط كمصدر رئيس للإيرادات، وأضافوا في حديثهم لـ"اندبندنت عربية"، بأن المنتج المحلي مكلف من ناحية الطاقة والأيدي العاملة والتسويق ولا يستطيع منافسة المنتجات الرخيصة المستوردة من الخارج، مشددين على أن الفساد يمثل أحد أكبر العوامل المؤثرة في الاقتصاد العراقي.
وكشف وزير الصناعة خالد بتال النجم، خلال مؤتمر صحافي مطلع الشهر الجاري، عن أن هناك 104 مصانع متوقفة، معظمها لا يمكن العمل فيها كونها متقادمة وخارج العمر الافتراضي، إذ تعود إلى حقبة الستينيات والخمسينيات، مبيناً أن "بعض المصانع بدأ العمل فيها في الخمسينيات، لكنها ما زالت تعمل، ومنها معمل أسمنت بابل ومعمل أسمنت الرافدين".
وأوضح النجم أن "العراق لديه استيراد كبير من تركيا وإيران، وليس تبادلاً تجارياً"، مشيراً إلى أن "جزءاً من هذا الاستيراد متعلق بصناعات يمكن أن ننشئها في العراق، لكن هناك مشكلات في القطاع الصناعي لعدم توفر المواد الأولية والطاقة الكهربائية، مما يزيد من كلفة الإنتاج، إضافة إلى ما يتعلق بقوة الدينار العراقي، إذ يبحث التاجر عن عملة قوية، بينما يتطلع الصانع إلى دينار ضعيف، فكلما قويت العملة زادت التجارة على حساب الصناعة، بالتالي تزداد التجارة الخارجية".
اقتصاد السوق المفتوحة غير المنظمة
من جهته يشير الباحث الاقتصادي بسام رعد إلى أن ظاهرة الإغراق السلعي في العراق تفاقمت بعد عام 2003 نتيجة الانتقال إلى اقتصاد السوق المفتوحة غير المنظمة وانفتاح الحدود الدولية أمام التبادل التجاري وخلق نمط استهلاكي خطر لا يتطلع إلى الإنتاج، بل ينكفئ على الاستيرادات.
يقول رعد "ارتفعت الواردات من السلع الغذائية والزراعية بشكل كبير، وكان لهذه الزيادة في الواردات آثار سلبية على عديد من الأنشطة الاقتصادية، إضافة إلى زيادة معدلات البطالة وتراجع القطاع الصناعي والزراعي بسبب عدم قدرتهما على المنافسة وتصريف الإنتاج وعدم توفر الحماية والدعم للمنتجات المحلية أمام المستوردة التي تباع بأسعار أقل من كلفة إنتاجها في بلدانها الأصلية"، مبيناً أن سياسات الإغراق السلعي أسهمت في إغلاق عديد من المصانع المحلية وانخفاض طاقتها الإنتاجية وتسرب العملة الصعبة إلى الخارج.
ودعا الباحث الاقتصادي إلى اتخاذ إجراءات لحماية المنتجات المحلية من ظاهرة الإغراق السلعي من خلال تفعيل الدور الرقابي على المنافذ الحدودية وتنظيم عملية الاستيراد ومنع دخول السلع غير المطابقة للمواصفات وتفعيل القوانين الخاصة بحماية المنتج الوطني والمستهلك وإقرار قانون منع الإغراق السلعي.
وتغزو المنتجات المستوردة السوق العراقية منذ سنوات، حيث يجد المواطن العراقي كل شيء بصناعة أجنبية، سواء إيرانية أو تركية أو صينية. يقول التاجر محمد قاسم "أصبحت السلع والمواد الغذائية المستوردة من الخارج حاضرة في كل بيت عراقي منذ أكثر من 20 سنة"، مشيراً إلى أن الصناعة العراقية باتت مقتصرة على أشياء لا تذكر بسبب توقف غالبية المصانع، وأيضاً رخص المستورد أمام المحلي الذي تزيد كلفته نتيجة ضعف الدعم الحكومي المقدم له.
وأكد التاجر العراقي الذي يستورد بضاعته من بعض الدول الإقليمية والأجنبية أن البضائع المستوردة من الخارج أصبح لها جمهور واسع في العراق.
المرض الهولندي
يقول الأستاذ الجامعي عمار الربيعي إن الاقتصاد العراقي أحد أكبر اقتصادات العالم الريعية، إذ يزيد قطاع النفط على 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لمعظم السنوات بعد عام 2003، وهذا الأمر ناجم عما يسمى "لعنة الموارد"، موضحاً أنها حالة تكون فيها الدول التي تمتلك موارد طبيعية ثمينة بوفرة كالنفط والغاز وبعض المعادن، تحقق معدلات نمو اقتصادي أقل من الدول التي لا تمتلك تلك الموارد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الربيعي أن الاقتصاد العراقي يعاني أيضاً مما يسمى "المرض الهولندي"، وهو تنمية قطاع معين (الموارد الطبيعية) مع تخلف القطاعات الأخرى (الصناعة والزراعة)، حيث يزداد سعر صرف العملة المحلية بسبب تدفق العملة الأجنبية، مما يزيد سعر الصادرات ويخفض سعر الاستيرادات، ومن ثم تخلف القطاعات الأخرى، حيث يشكل قطاعا الصناعة والزراعة نحو ثلاثة في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، مبيناً أن هذا الأمر يخلق تحدياً كبيراً بوجه خلق منتجات جديدة في السوق العراقية، فبعد أن كانت الزراعة والصناعة الناشئة مدعومة لعقود أصبحت منذ عام 2003 تواجه سياسة الإغراق من الدول المجاورة، فضلاً عن الدول الصناعية الكبرى.
ولفت الربيعي إلى أن تردي الخدمات العامة كالماء والكهرباء والطرق الناجم عن الحروب المدمرة التي تعرض لها العراق منذ عام 1980 وحتى عام 2017، وتخللها حصار اقتصادي خانق واقتتال داخلي عنيف، أسهم بشكل كبير في ارتفاع كلفة الإنتاج.
زيادة الأسعار بسبب الفساد
ونوه الأستاذ الجامعي إلى الفساد وكونه يمثل أحد أكبر العوامل المؤثرة في الاقتصاد العراقي بشكل عام، والاستثمار بشكل خاص، مشيراً إلى أن مدفوعات الفساد الكبيرة والمتزايدة تمثل ضريبة ضارة على المشاريع الاستثمارية، نتيجة لما تدفعه الشركات من رشى وعمولات ووقت ضائع في المفاوضات للحصول على التراخيص وتجنب حدوث عقبات أمام نشاطها، بالتالي زيادة الكلفة الإجمالية للمنتجات.
وبحسب الربيعي، ومع زيادة الأسعار الناجمة عن الفساد وتهالك البنى التحتية وضعف الخدمات العامة وعدم الاستقرار الأمني والسياسي، تصبح منافسة السلع العراقية غير متكافئة مع نظيرتها الأجنبية، سواء كانت في السوق العراقية، أو حتى العالمية.
يقول أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي إنه وكما هو معلوم للجميع "يعتمد العراق بشكل كبير على الاستيراد، وبخاصة من إيران والصين وتركيا في عديد من المجالات، بما في ذلك الأغذية والملابس والأدوية والمواد الخام والمعدات والآلات والسيارات والإلكترونيات، وغيرها".
واعتبر السعدي العراق دولة استهلاكية بامتياز، وذلك يعود بشكل رئيس إلى تركيز الاقتصاد العراقي على صادرات النفط كمصدر رئيس للإيرادات، مما يجعل الاستيراد ضرورياً لتلبية حاجات السوق المحلية.
ويعتقد السعدي أن خطوات دعم الصناعات المحلية وتحسين البنية التحتية وتوفير البيئة الاستثمارية المناسبة لجذب الاستثمارات وتحقيق التنمية المستدامة في البلد هي خجولة جداً، ولا ترتقي إلى التخطيط السليم.
غياب الصناعة والحماية
في المقابل، يكشف الباحث الاقتصادي صالح لفتة أن المنتج المحلي مكلف من ناحية الطاقة والأيدي العاملة والتسويق ولا يستطيع منافسة المنتجات الرخيصة الصينية والإيرانية التي يفضلها المستهلك بسبب رخص أسعارها. وأشار لفتة إلى أن منتجات الألبان فقط هي التي تنافس المنتجات الإيرانية، لكونها سريعة التلف وتحتاج إلى فترة طويلة حتى تصل إلى يد المستهلك. ورأى أن تطوير الصناعة العراقية وخلق منافسة مع المنتجات الأجنبية تحتاج أولاً إلى تفعيل قوانين حماية المستهلك التي تحظر استيراد منتجات رديئة من أي بلد وفرض ضرائب على المنتجات التي توجد لها بدائل محلية مع إعطاء حوافز للمستثمرين لإنشاء مصانع في العراق.