ما هي عملية بولونيا الأوروبية وفوائدها لجامعاتنا العراقية؟
اثارت رغبة وزارة التعليم العالي في تطبيق بعض جوانب عملية بولونيا استنفار الجامعات وقلق تدريسييها لربما يعود ذلك لضعف المعرفة بجوانب العملية وبأهميتها وإمكانية تطبيقها في الجامعات العراقية. وقد يعود هذا القلق ايضا إلى المنطق المحافظ للمسؤولين والتدريسيين العراقيين الذين يتحلون بحذر شديد تجاه التغيير. لذلك سأحاول توضيح اهمية العملية واسسها لعل ذلك يساهم في دعم تطبيقها بما يخدم مسيرة الجامعات العراقية.
ما هي عملية بولونيا؟
أثبتت الجامعات الأوروبية من خلال عملية بولونيا وجودها، واستمرت في أن تصبح أكثر وأكثر جاذبية للطلاب من دول العالم الثالث والولايات المتحدة. ما الذي تغير ولماذا؟ هل ان تطبيق عملية بولونيا في العراق سيؤدي الى تطوير التعليم العالي، وان يصبح قادرا على الوقوف على قدميه ومنافسة دول العالم؟
يصادف هذا العام مرور اربع وعشرين عاما على اتفاقية بولونيا، التي أطلقت أحد أشهر مشاريع التعليم العالي في العالم. ففي عام 1999، اتفقت 29 دولة أوروبية على إنشاء منطقة أوروبية موحدة للتعليم العالي من أجل زيادة جاذبية وجودة التعليم العالي الأوروبي، وتشجيع انتشار القيم الأوروبية وتنقل الطلاب والتدريسيين.
يعتبر هذا المشروع اليوم فخر أوروبا ويسمى أحد أكثر المشاريع التعليمية العملاقة نجاحا في العالم. في عام 2012 ، نُشر في الولايات المتحدة كتاب "تحدي بولونيا" للكاتب بول غاستون، والذي يتناول الاجابة على التسائل الرئيسي التالي: "ما يجب أن يتعلمه التعليم العالي في الولايات المتحدة من أوروبا ولماذا من المهم أن نتعلم منها."
من الواضح أن المشروع نجح نجاحا باهرا. يمكننا اليوم تقييم جودة التعليم العالي الاوربي اليوم بشكل إيجابي بحيث يمكننا بثقة أن نضع الجامعات الاوربية ضمن افضل الجامعات العالمية، بالطبع، لا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به، ولكن إذا تم تصنيف جميع الجامعات العالمية، فستكون مؤسسات التعليم العالي الاوربية مقارنة بالجامعات الامريكية والبريطانية من بين أول 500 جامعة.
العالمية هي سر نجاح عملية بولونيا
سر نجاح عملية بولونيا وهدفها في نفس الوقت هو العالمية. إنها ظاهرة متعددة الأوجه تشمل كلاً من تنظيم التعليم العالي وجوانب محتوى الدراسات. "ما هو التدويل في التعليم العالي اليوم؟" تتجلى العالمية في عدة أبعاد، أحدها افتراضي. في احد مؤتمرات مجلس الاتحاد الأوروبي، شارك مدرس هولندي تجربته في استخدام فضاء الإنترنت، حيث كان قد نشر محاضرات فديوية في علم السياسة الدولية، درسها 15 ألف طالب من داخل وخارج اوربا في نصف عام. قد لا يكون من الممكن تدريس هذا العدد من الطلاب بالطريقة المعتادة، ولكن بفضل التكنولوجيا والتعليم الدولي، اصبح ذلك حقيقة واقعة.
وفقا لخبراء التعليم، فإن الطابع الدولي للتعليم العالي لا يؤثر فقط على عملية تطوير الطلاب والعلاقة بين التدريسي والطلاب، ولكنه أيضا يغير عقلية المجتمع بأكمله بشكل عام. هذا جانب علينا تعلمه فلا يزال الطلاب العراقيون معزولين عن العالم بدرجة رهيبة ومقلقة. فهل سنتعلم من عملية بولونيا هذا الجانب الايجابي في اساليب التعليم وتصبح محاضرات استاذ متميز في جامعة الموصل على سبيل المثال متوفرة لطلبة جامعة بغداد ومتضمنتها مناهج الجامعة.
على الرغم من دعوة الوزارة للطلبة الاجانب للدراسة في العراق وتوفير عدد من المنح الدراسية لهم، إلا أننا لازلنا لسنا دوليين. وحتى بالنسبة للطلبة العراقيين الموفودين للدول الاوربية والأمريكية والعائدين للعراق، فإنهم يصبحون منبوذين داخل الجامعة. لذا يجب ان يصبح الهدف من اعتماد عملية بولونيا هو تغيير العقلية الداخلية بالكامل لمؤسسة التعليم العالي. التبادل على المدى القصير مهم جدا لهذا الغرض. لابد أن يتم منح التمويل للدراسات في البلدان الاوربية، وان يقضي الموفدين فيها فترة كافية لتتاح لهم الفرصة لفهم كل العادات والثقافات وتعلم اللغات، ومن خلال ذلك ستضطر الدولة إلى التغيير والتحسين من أجل تحقيق التواصل الفعال - تحسين البنية التحتية، والخدمات وتكييفها مع العالم بأسره.
اثبتت التجربة الاوربية أن الطابع الدولي للطلاب هو ميزة قيّمة في سوق العمل أيضا. تعد تجربة الدراسة الدولية أكثر من معرفة أو مهارات عالية الجودة في مجال معين - إنها القدرة على التواصل مع بيئة متعددة الثقافات، والاستقلالية، وإدراك أنه في العديد من المواقف يوجد أكثر من حقيقة واحدة أو حل واحد، إنه تفكير شامل ومتسامح، ويحظى بتقدير خاص على المستوى الدولي وبدأ تقييمها بالفعل في سوق العمل.
تعد صناعة التعليم العالي فرعا مهما من فروع الاقتصاد الحديث. أستراليا هي واحدة من البلدان التي يعتبر فيها التعليم العالي بالفعل أحد المجالات الرئيسية الثلاثة للاقتصاد الوطني. وفقا للجزء الذي تم إنشاؤه من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه يتجاوز حتى العديد من مجالات الصناعة الثقيلة والتكنولوجيا العالية. التعليم العالي أيضا ذو قيمة في بريطانيا. يتم بالفعل تشكيل صناعة التعليم العالي بنجاح في ايران المجاورة لنا معتمدة على سوق الطلبة العراقيين. ومع ذلك، في العراق، لا يزال التعليم العالي يعامل تقليديا - كمجال من مجالات الإنفاق، وليس توفير الدخل. ويبقى تأثيره الشامل على النمو الاقتصادي للبلاد غير مرئي وغير مستغل. العراق هو الدولة الوحيدة في المنطقة التي تسعى الى جعل الشهادات العالية متوفرة لكل من يرغب بها او يطلبها سواء بصورة شرعية او بدونها.
واحدة من السمات الرئيسية لقطاع التعليم العالي العراقي، مقارنة بالدول الأخرى، لا تزال هجرة الكفاءات تسود وتنمو بين الاكاديميين. مع انه ينطبق على ثلثي دول العالم، خاصة في الدول النامية لكن شعبية التعليم العالي في السياق الدولي تعتمد بشكل مباشر على سمعة البلد.
من الطبيعي أن العراق، الذي يعاني من سوء التعليم ، لن يكون بين البلدان الاكثر شعبية للدراسات في المنطقة كمثل الاردن وتركيا وايران ومصر. من أجل جذب الطلاب من البلدان الأخرى، نحتاج إلى مؤسسات علمية معروفة دوليا تظهر نتائج بحثية عالية، وحرم جامعي جذاب، وبلد مستقر وامن فضلاً عن التواصل المستهدف لإنجازات التعليم العالي و إلا فان الدعوة لفتح الباب امام الطلبة الاجانب ستذهب سدى.
كما يفتقد التعليم العالي العراقي الى التغييرات الاستراتيجية على المستويين الوطني والمؤسسي. يتمثل أحد أوجه القصور الملحوظة في التعليم العالي في ازدواجية البرامج الدراسية وضعف التدريب الدولي وجمود المناهج وضعف البحث العلمي والتطوير والابتكار.
يجب على التعليم العالي العراقي ان لا يتخلف عن الركب وان يوقف التردي، ولكن من أجل تحقيق فوائد أكبر للدولة والمجتمع، ينبغي اتخاذ المزيد من القرارات الاستراتيجية، وبالطبع اتباعها. إن المجتمع المتسامح والسياسات المرنة تخلق ظروفا جذابة لإنشاء شراكات ذات مستوى عال خصوصا مع دول المجموعة الاوربية، لكي يتم تهيئة نفس الظروف لتطبيق خلاق لنظم التعليم العالي بدلا من تقليدها، وهو أساس الاقتصاد الناجح. الدول التي تجذب الطلاب، مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة، تحصل على المزيد من الآفاق والضمانات المستقبلية لكون تعليمها متفوقا وجذابا. لكي يصبح العراق أيضا جاذبا للطلبة الاجانب يجب عليه اولا من تطوير وتحسين مؤسساته العلمية ومن اعتماد النزاهة والحريات الاكاديمية هدفا للعملية التعليمية.
مسار الوحدات (ECTS) في عملية بولونيا
لربما من الافضل ان ننقل ما تشير له دوريات الاتحاد الاوربي ونقتبس منها بشأن ما اطلق عليه بنظام تحويل الوحدات المتراكمة (ECTS).
"نظام تحويل الوحدات المتراكمة الأوروبي (ECTS) هو مقياس لمنطقة التعليم العالي الأوروبية يهدف إلى ضمان قدر أكبر من الشفافية في الدراسات والمقررات. وفقا لهذا النظام، يتم ضمان تنقل الطلاب بين البلدان بسهولة أكبر ويتم الاعتراف بمؤهلاتهم الأكاديمية وفترات الدراسة في الخارج".
وفقا لـ ECTS، يُسمح بحساب الوحدات التي تم الحصول عليها في إحدى مؤسسات التعليم العالي (كمثال في جامعة المانية) في مؤسسة أخرى (كمثال في جامعة فرنسية)، حيث يدرس المرء من أجل الحصول على مؤهل. تعبر أرصدة ECTS عن التعلم بناءً على مخارج التعلم المحددة وعبء عمل الطالب student workload المرتبط بها. لاحظ ان عبء العمل هو الأساس في تحديد عدد الوحدات. لذلك لا يمكن وضع وحدات لأي مقرر إلا بعد معرفة عبء الطالب بالاستناد على مخارج التعلم learning outcomes. اؤكد على هذا الاسلوب لانتشار خطأ في مفهوم الوحدات بين الاكاديميين في العراق وهو تحديد وحدات المقرر على أساس عدد ساعات التدريس (وهو ما يسمى بعبء الاستاذ في النظام الامريكي).
"يتيح نظام ECTS زيادة مرونة برامج الدراسة للطلاب. كما أنها تستخدم في تخطيط وتنفيذ وتقييم برامج التعليم العالي. إنها أداة رئيسية في عملية بولونيا، والتي تهدف إلى جعل أنظمة التعليم الوطنية أسهل للمقارنة دوليا. كما يجعل نظام ECTS استخدام المستندات الأخرى في بلدان مختلفة أكثر وضوحا وسهولة" ، بالإضافة الى انه يسمح بتطبيق نظام المقررات the modular system بأسلوب سلس وبسيط.
من يحتاج ECTS؟
"يمكن أن تؤدي الاختلافات في أنظمة التعليم العالي الوطنية إلى مشاكل في الاعتراف بالمؤهلات وفترات التنقل المكتسبة في الخارج. تتم معالجة هذه المشكلة جزئيا من خلال تحسين فهم نتائج التعلم وعبء العمل في برامج الدراسة".
"يتيح نظام ECTS أيضًا الجمع بين أنواع مختلفة من التعلم، مثل التعلم الجامعي والتعلم في مكان العمل، في برنامج دراسة واحد أو برامج التعلم مدى الحياة".
فائدة هذا النظام بالنسبة للجامعات العراقية ومن دون المقارنة مع الجامعات العالمية محدودة وذلك لان مناهج وطرق التدريس والامتحانات متماثلة في الجامعات العراقية.
كيف يتم تطبيع نظام الوحدات؟
"60 نقطة دراسية حسب نظام ECTS تقابل سنة كاملة من الدراسة أو العمل. في العام الدراسي القياسي، يتم عادة تقسيم هذه الوحدات إلى عدة وحدات أصغر. بشكل عام، مطلوب 90-120 ECTS وحدة للحصول على مؤهل دراسة قصير. تتطلب درجة البكالوريوس عادة 180 أو 240 نقطة دراسية حسب نظام ECTS.
تتوافق درجة الدراسات العليا (أو الماجستير) مع 90 أو 120 نقطة دراسية حسب نظام ECTS. يمكن تطبيق نظام ECTS على دراسات المرحلة الثالثة (الدكتوراه) بطرق مختلفة.
(ECTS) يستخدم لدعم تنقل الطلاب بين مؤسسات التعليم العالي. تساعد توصيف البرامج والمقررات واتفاقيات التعلم والشهادات الأكاديمية في التعرف على الوحدات المكتسبة في الخارج وتحويلها أثناء تنقل الطلاب. يتم وصف النظام واستخداماته بمزيد من التفصيل في دليل يحدد فيه عبئ الطالب ومخارج التعلم في كل مقرر والذي على اساسها يتحدد عدد الوحدات".
واذ تم دمج نظام الوحدات الاوربي بنظام المقررات العالمي فانك ستحصل على نظام مثالي للتعلم والتعليم يمكن وصفه بأنه من ارقى الانظمة التعليمية في الجامعات وبتطبيقه ستخطو الجامعات العراقية خطوة جبارة نحو القرن الواحد والعشرين، بحيث ستمثل هذه الخطوة اصلاحا جذريا ونهجا مهما يضع الجامعات العراقية في مصاف الجامعات العالمية من ناحية نظام التدريس والتعليم والتعلم.
ضمان الجودة في عملية بولونيا للاتحاد الأوروبي
مع تغير أهداف التعليم العالي، يتغير مفهوم جودة الدراسة. ينتج هذا التغيير، أولاً وقبل كل شيء، عن البيئة الخارجية المتغيرة للتعليم العالي بسبب تنويع التعليم العالي، وتغيير مطالب أصحاب المصلحة لجودة الدراسات، وزيادة اهتمام الدولة، ومتطلبات المساءلة، وتغيير توقعات واحتياجات الطلاب من أجل التعليم. بالاضافة الى التغييرات في التمويل، وزيادة المنافسة المحلية والدولية، وتدويل التعليم العالي وعمليات العولمة والاهتمام العالمي بالجودة والمعايير فتتغير المحتويات والطرق. كل هذا يؤكد بشكل خاص على الحاجة إلى الجودة ويشجع مؤسسات التعليم العالي على البحث عن تدابير منهجية جديدة لتحسين جودة الدراسات. يُعترف بضمان جودة الدراسات وتحسينها في عملية بولونيا كمجال ذي أولوية للنشاط .
أصبح توافق هياكل التعليم الأوروبية أحد أهم الوسائل لتحقيق مساحة موحدة للتعليم العالي في أوروبا. في الوقت نفسه، أصبح ضمان جودة الدراسات مهمة ليس فقط ذات أهمية وطنية، ولكن أوروبية أيضا. تُلزم قوانين التعليم في كل دولة من دول الوحدة الاوربية كل مؤسسة للتعليم العالي بأن يكون لديها نظام داخلي لضمان جودة الدراسة بناءً على أحكام منطقة التعليم العالي الأوروبية. من أجل ضمان جودة التعليم المقدم، يُقترح توفير طرق ووسائل تطبيق اساليب مراقبة وضمان الجودة. تم تطوير نظام إدارة جودة الدراسة في كل جامعة مع مراعاة ثقافة الجامعة ورسالتها وأهدافها الاستراتيجية وقيم المجتمع والممارسات السائدة لضمان الجودة والتحسين. كما تم تطبيق المعايير والمبادئ التوجيهية التي صدرت عن منطقة التعليم العالي الاوربية (EHEA) كأساس لضمان الجودة في الجامعات الاوربية. یتمثل أحد الأھداف الرئیسیة للمعاییر والمبادئ التوجیھیة لضمان الجودة في المساھمة في الفھم المشترك لضمان الجودة للتعلم والتعلیم عبر الحدود وبین جمیع أصحاب المصلحة بحيث تشترك كل هيئات الجودة الاوربية باتباع الطرق التالية لفحص الجودة: 1) الاعتماد على مجموعة من التعليمات والمعايير، 2) مراجعة داخلية تعتمد على تقييم ذاتي من قبل المؤسسة، 3) مراجعة خارجية لبرنامج المؤسسة تبدأ بمراجعة التقرير الذاتي، ثم زيارة موقعية من قبل مجموعة المراجعة، 4) اخيرا نشر تقرير لضمان الجودة ووضع خطة للتحسين. وللحصول على تفاصيل اخرى حول طريقة فحص الجودة في الجامعات الاوربية في ضوء عملية بولونيا انصح بمراجعة كتابنا: (اطار ضمان الجودة وتحسين جودة البرامج في الجامعات العراقية) والذي اعتمدنا فيه على برنامجنا لضمان الجودة في الجامعات العراقية (2009-2015) وتم تنفيذه باشراف اليونسكو وعلى اساسه بني نظام الجودة الحالي في الجامعات العراقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر يمكن الحصول عليها من الكاتب: [email protected]
- عملية بولونيا
- نظام المقررات المبني على أساس الوحدات
- اطار ضمان الجودة وتحسين جودة البرامج في الجامعات العراقية
Professor Mohamed Al-Rubeai, PhD, DSc, FRSB