اللاجئون عند المصريين ضيوف "على الحلوة والمرة"
باتت مصر هي الوجهة الآمنة والمتاحة أمام السودانيين للفرار من ويلات الحرب الدائرة بين قوات الجيش برئاسة عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو، ربما لأن المصريين الأقرب إلى الشعب السوداني، أو لتقارب الأرض والعرق والثقافة التاريخ، إلا أن الترحاب المصري بالفارين من الحروب وسوء الأوضاع في بلدانهم راسخ عبر الحقب الزمنية المختلفة، بل ويعتبرونهم ضيوفاً.
تشير الوثائق المحفوظة والتقارير المدروسة إلى أن مصر شهدت أول تدفق حقيقي لـ"اللاجئين" في التاريخ المعاصر في أربعينيات القرن الماضي، حيث كانت البداية مع الفلسطينيين، وتحديداً نزوح نحو 15 ألف شخص أثناء وأعقاب حرب 1948، وأعدت وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية مخيمات عاجلة في منطقة العباسية بالقاهرة إضافة إلى بورسعيد والقنطرة شرق بالإسماعيلية.
بعدها بأعوام قليلة، أنهى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أسلوب حياة "اللاجئين" لهذه الآلاف وغيرها ممن تواتروا على مصر هرباً من تفاقم الأوضاع في فلسطين، فلم ينهها فقط، بل أوقف التعامل الرسمي معهم باعتبارهم "أجانب" وسمح لهم بالعمل، والتعليم المجاني شأنهم شأن المصريين، وباتوا يحصلون على شتى أنواع الخدمات الحكومية التي يحصل عليها المصريون، حتى في المعاملات الرسمية تم إلغاء كلمة "أجنبي" من أوراقهم.
وعلى رغم الاحتقانات السياسية التي جرت في السبعينيات، وإبرام مصر معاهدة السلام مع إسرائيل واغتيال الكاتب ووزير الثقافة يوسف السباعي على يد جماعة فلسطينية، وإجراء الرئيس الراحل محمد أنور السادات عدداً من التعديلات على القوانين التي كانت تنص على معاملة الفلسطينيين كالمصريين، وعودتهم إلى تصنيف "الأجانب" وما تبع ذلك من مصاعب، فإن المكون الفلسطيني في المجتمع المصري ظل كما هو.
مصر دولة ملاذ
الوثائق والتقارير والأحداث تؤكد أن كل مصيبة تدق باباً عربياً أو أفريقياً يكون لها أثر مباشر وآن في مصر حيث تدفقات المواطنين الباحثين عن ملجأ آمن تقول إن مصر دولة ملاذ، من الحرب الأهلية في لبنان إلى حروب العراق المتواترة، إلى غزوها للكويت، إلى تفجر الأحداث في سوريا وتحولها إلى حرب أهلية مريرة طويلة، ومنها إلى احتدام الأوضاع في ليبيا، وكذلك اليمن وأخيراً السودان، تضيف مصر مزيداً من الفصول في كتابها المعنون "عقود من اللجوء والنزوح إلى مصر".
المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أصدرت كتاباً العام الماضي تحت عنوان "المفوضية: سبعة عقود في مصر"، وهذا الكتاب ليس مجرد إصدار، بل توثيق للتاريخ والحاضر، حيث يشير إلى "تاريخ مصر الطويل في توفير ملاذ للاجئين والترحيب بالمهاجرين، لأنها فريدة من نوعها من حيث الموقع على مفترق طرق أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، وهو ما يمنحها مكانة متميزة وجعل منها وجهة لعديد من الجماعات النازحة من بلادها لأسباب مختلفة.
نزوح متنوع
هذا النزوح ليس وليد "النظام العالمي الجديد" الذي ألم بالمنطقة العربية في العقود القليلة الماضية، أو برياح الربيع التي هبت على عديد من دولها هبوباً شتوياً عاتياً، أو حتى يعود إلى بدء أعتى قصص الاحتلال والاستعمار في العالم القديم والمعاصر، احتلال فلسطين، بل يعود إلى أوائل القرن الماضي حين توافد الأرمن والروس واليونانيون والإيطاليون واليهود وآخرون من دول شمال أفريقيا، ويعود كذلك إلى الحرب العالمية الثانية ثم خمسينيات وستينيات القرن الماضي حين أصبحت مصر مأوى لعشرات الآلاف من النازحين من دول يوغوسلافيا واليونان وإيطاليا.
نادراً ما تذكر حكاية مصر مع اللاجئين والباحثين عن ملاذ آمن قبل عقود طويلة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، شهد عام 1914 ومع هزيمة الإمبراطورية العثمانية على الجبهة الروسية، نزح آلاف اليهود من فلسطين إلى مصر، وشهدت مصر وصول مجموعات ضخمة من اليهود من أرجاء شتى، وفي غضون ثلاث سنوات، قدرت أعدادهم بنحو 60 ألفاً أغلبهم في القاهرة والإسكندرية.
أغلب "يهود مصر" قدموا إليها من تركيا وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق واليمن وروسيا وإيطاليا، وفي سبتمبر (أيلول) عام 1915، قدر عدد اليهود الذين وصلوا إلى الإسكندرية بنحو 11 ألفاً، ولعبت مصر دوراً موثقاً في كتب التاريخ والسياسة في مساعدتهم للاستقرار بها. ويشير كتاب المفوضية عن تاريخ اللاجئين في مصر إلى أنه لم يجر توثيق قدوم هؤلاء المواطنين اليهود الهاربين من دول مختلفة لدى وصولهم مصر، ولذلك فإن المعلومات الخاصة بأعدادهم وأماكن إقامتهم ليست موثقة إلا من خلال حكايات سردوها هم أنفسهم وآخرون من المصريين الذين عاصروهم.
يوغوسلافيا في "الشط"
واستضافت مصر ما لا يقل عن 30 ألف مواطن يوغوسلافي فروا إلى مصر أثناء الحرب العالمية الثانية وأقاموا في سيناء، وتحديداً في معسكر "الشط" في صيف عام 1944 هرباً من الغزو الألماني لبلدهم، وتوثق الصور الفوتوغرافية لحياة هؤلاء في معسكر الشط، حيث الأطفال يلعبون على الأراجيح، وكبار السن يلعبون الطاولة، إضافة إلى صور حفلات زفاف بلغ عددها 300 حالة ونجم عنها 650 مولوداً.
وفي صحراء جنوب سيناء أيضاً لجأ يونانيون في الفترة نفسها، حيث أقاموا في معسكر "عيون موسى" الذي تحول إلى بيت موقت لآلاف اليونانيين لمدة ثلاث سنوات خلال تسعينيات القرن الماضي.
المفوضية تقول في كتابها، إن مصر وفرت "منزلاً" للاجئين الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم بلا مأوى لدى تفجر النزاع العربي الإسرائيلي، وكذلك بعد أزمة السويس عام 1956، وفي العقد الأول من القرن الـ21، كانت سجلات المفوضية في القاهرة تحوي أسماء أشخاص من 30 جنسية مختلفة، لكن الأغلبية العددية كانت لمواطنين قدموا إلى مصر من دول القرن الأفريقي، لكن أحداث العقدين الماضيين غيرت الموازين العددية، حيث فاقت الأعداد القادمة من الدولتين اللتين مزقتهما أتون الحرب – العراق ثم سوريا- أعداد مواطني القرن الأفريقي.
وشهدت مصر خلال الفترة نفسها تدفقاً كبيراً للأشخاص الهاربين من العنف في ليبيا المجاورة، كما استقبلت مصر أعداداً من اليمنيين، وحالياً أعداداً كبيرة من السودانيين، ومجموع الدول التي قدم منها اللاجئون والنازحون وصل إلى 60 دولة.
ليست مجرد وجهة
وترى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أن وضع مصر يبقى على ساحة اللاجئين الدولية أكبر بكثير من مجرد كونها وجهة للباحثين عن ملاذ، فمنذ تأسست منظمة الأمم المتحدة في عام 1945، وتبذل مصر جهوداً لا تنقطع من أجل الوصول إلى استجابات وطنية وإقليمية ودولية في ما يتعلق باللاجئين حول العالم، كما أن مصر كانت الدولة الأفريقية الوحيدة الممثلة في لجنة الصياغة الخاصة باللاجئين والأشخاص عديمي الجنسية في عام 1950.
عناية مصر باللاجئين والنازحين المقيمين فيها تغيرت بتغير الأوضاع والأرقام والأحوال، ففي سبعينيات القرن الماضي، تحول الاهتمام الرسمي المصري من توفير سبل الرعاية للمسنين الأرمن والأوروبيين في مصر، إلى توفير سبل التعليم للاجئين وطالبي اللجوء من الشباب والمراهقين الأفارقة الهربين من حروب دول القرن الأفريقي، كما شهد نفس العقد لجوء شخصيات عامة إلى مصر أبرزها شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي لجأ إليها مع قرينته بعد أن أطاحت به "الثورة الإسلامية" في إيران، إلى أن توفي في القاهرة ودفن فيها، إضافة إلى لجوء الرئيس الأسبق للسودان الراحل محمد جعفر النميري، وأقام فيها نحو 14 عاماً قبل أن يعود إلى السودان.
اللجوء من الجنوب
جنوباً، شكل السودان على مر التاريخ مصدراً رئيساً من مصادر المهاجرين إلى مصر، وذلك قبل تفجر أسباب اللجوء هرباً من الحروب والصراعات والعنف في خمسينيات وثمانينيات القرن الماضي، كما أن سفر السودانيين، لا سيما مناطق شمال السودان إلى الأراضي المصرية بغرض التعليم والعلاج والتجارة على مر العقود، ظل عرفاً وأشبه بظاهرة من ظواهر الحياة اليومية التي يعتادها المصريون والسودانيون، لذلك فإن وجود آلاف في مصر وتكتلهم في أحياء بعينها في مدن عديدة، واندماجهم مع المصريين وحالات الزواج المشترك جعلت منهم سمة عادية.
في 31 يناير (كانون الثاني) الماضي، بلغ عدد اللاجئين الذين تستضيفهم مصر 288 ألفاً و524 لاجئاً وطالباً من 60 دولة، أغلبهم يعيشون في مناطق حضرية في القاهرة الكبرى (محافظات القاهرة والجيزة والقليوبية) وكذلك مدن الحدود الشمالية، ونحو 37 في المئة منهم أطفال، وتقدر المفوضية عدد السوريين بنحو 146 ألفاً، يليهم السودانيون وقدرت أعدادهم بأكثر من 58 ألفاً (قبل تفجر الأحداث الحالية)، ثم جنوب السودان وإريتريا وإثيوبيا واليمن والصومال ثم بقية الجنسيات، كما أن هناك نحو 70 ألف "لاجئ" فلسطيني لا تضاف أعدادهم إلى المجموع الوارد ذكره، لأنهم مسجلون لدى "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى".
لجوء ورعاية
تؤكد الأوراق والتقارير الواردة من مكتب المفوضية في القاهرة أن مصر توفر للاجئين وطالبي اللجوء إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية العامة، وأن الطلاب السوريين والسودانيين وجنوب السودانيين واليمنيين مستمرون في الحصول على فرص التعليم في المدارس الحكومية، في حين يعتمد الطلاب من جنسيات أخرى على التعليم غير الحكومي، كما أن قوائم الدعم والمساعدة التي تقدمها المفوضية وعدد من الجمعيات والمنظمات الأهلية العاملة في مجال مساعدة ودعم اللاجئين والمهاجرين، بالتعاون مع جهات رسمية مصرية تتراوح بين خدمات تعليمية وصحية وسكنية وغذائية، إضافة إلى بعض الأنشطة الترفيهية والتدريبية والدعم النفسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اللاجئون وطالبي اللجوء والنازحين في مصر أكبر وأشمل من بضعة آلاف مسجلين لدى الهيئات الأممية والمصالح الرسمية، فهناك أعداد أخرى أكبر بكثير لم تطرق باب هيئة أممية أو رسمية، حيث ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" في تقرير لها أن وجود أعداد كبيرة من المهاجرين غير الموثقين يؤدي إلى حزمة من المشكلات الخاصة بالتعامل معهم وتقديم الخدمات اللازمة لهم، وذلك لسبب بسيط ألا وهو عدم معرفة أماكنهم أو حاجاتهم. ولفت التقرير إلى "الجالية السودانية" في مصر (قبل اندلاع الأحداث الحالية) على سبيل المثال، مشيراً إلى أن أعدادهم تتراوح بين 750 ألفاً وأربعة ملايين، وهو تراوح كبير يصعب من مهمة مقدمي الخدمات للاجئين والمهاجرين.
كلام مقاهٍ
وعلى رغم أهمية الأرقام والخدمات والتوثيق والتدقيق، فإن مشاهد واقع الحياة في الشوارع المصرية ومجرياتها اليومية تكتب سيناريو مختلفاً من حيث التفاصيل، ليس مناقضاً للأرقام أو منافياً للوثائق، لكنه مختلف من حيث التركيز على الإنسان وراء الرقم والقصة الوارد الإشارة لها في الوثيقة، فما تقوله مقاهي حدائق القبة وعابدين وعزبة الهجانة، وما تنضح به مطاعم السادس من أكتوبر والرحاب ومدينتي، وما تكشف عنه أنشطة ثقافية وفعاليات فنية ودورات رياضية تقام بصفة دورية لمجتمعات "اللاجئين" و"المهاجرين" من المقيمين في مصر مختلف.
هذا الاختلاف لا يعني أن حياة اللاجئ أو طالب اللجوء أو الهارب إلى مصر بحثاً عن ملاذ آمن من حرب فتكت ببلده أو صراع هدم بيته أو خطر يلوذ في أفق أسرته وأحبابه رغد ورفاهية وسعادة وهناء، فلا شيء يوازي حياة المرء في وطنه على أرضه بين ناسه ووسط أهله، والاختلاف يعني أن مكون "اللاجئين" في الشارع المصري لا ينم عن كونهم لاجئين، حتى من المشكلات التي يتعرض لها البعض أو سوء معاملة أو تعليقات فيها شبهة عنصرية أو عدم قبول أو تنمر، فإنها تبقى حوادث تعرض لها أفراد وليست أعمالاً منظمة تستهدفهم، حتى لفظ "لاجئ" أو "مهاجر" "نازح"، تبقى خارج الخدمة في الوسط الشعبي المصري.
الشارع المصري ربما يضج بكم هائل من المعضلات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية والاحتقانات الطبقية، لكنه لا يضج بكراهية المقيمين، ربما يشوبه أحياناً خوف من منافسة على فرص محدودة، لكن سرعان ما يثبت الواقع العكس، حيث تستعين مطاعم يمنية وعراقية وسورية بعمالة مصرية، وينساق البعض أحياناً لأقاويل حول تصرف سيئ اقترفه أحدهم أو عمل مشين قام به آخر، وكأن الاستثناء قاعدة، لكن الأكاذيب لا تدوم والتضليل غير مستمر.
استدامة التدفق
استدامة تدفق اللاجئين والنازحين إلى مصر على مدار العقود الماضية، واستمراره في ضوء مجريات المنطقة تشير إلى أنها تقدم نموذجاً مختلفاً من نماذج الدول المستقبلة، صحيح أنها ليست دولة من دول العالم الأول الذي يطمح النازحون الوصول إليها لأسباب معروفة، وصحيح أيضاً أن الأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة تجعل آفاق الإقامة فيها من حيث الفرص والاختيارات محدودة مقارنة بألمانيا أو بريطانيا أو الدنمارك أو السويد مثلاً، لكنها تبقى وجهة آمنة ومنزلاً اجتماعياً مناسباً لعديد من دول المنطقة، سواء العربية أو الأفريقية.
الأمم المتحدة تعرف دمج اللاجئين بأنه عملية تفاعلية تعتمد على كل من اللاجئين ومواطني الدولة المضيفة ومؤسساتها، إذ يندمجون مع المجتمع المضيف مشكلين مجتمعاً واحداً يحتضن اختلافاتهم، ويتطلب الدمج استعداداً من قبل اللاجئين للتأقلم مع أوضاع البلد المضيف من دون التخلي عن هويتهم الأصلية، كما يتطلب من البلد أن يكون قادراً على احتضانهم واحتواء اختلافهم، وأن تكون مؤسسات البلد قادرة على تلبية حاجاتهم.
الاندماج المحلي
المنظمات الأممية تطلق على اندماج اللاجئين مع المجتمع المضيف "الاندماج المحلي"، إلا أن مجموعات المواطنين في الشوارع المصرية تلقبه بـ"ضيوفنا على العين والراس" حيناً و"معنا على الحلوة والمرة" حيناً آخر، فمجموعة عمال اليومية المستظلين بشجرة قريبة من مركز تجاري ضخم في "مدينتي" (تجمع سكنى ضخم على مشارف القاهرة) تشير إلى تعددية جنسيات، ووليمة الفول والفلافل والباذنجان المرصوصة على الأرض والأيادي المتسارعة بلقيمات الخبز جامعة بين محتويات جميع الأطباق في مرة واحدة لا تترك مجالاً للحديث أو التفكير في اختلاف اللون أو العرق أو الجنسية.
"اندبندنت عربية" التقت ببعض العمال لاستطلاع آرائهم عن مشاعرهم تجاه اللاجئين، وبعض المتخصصين لمعرفة رؤيتهم حول الظاهرة الموجودة في المجتمع المصري.
يقول محمد (مصري من محافظة الشرقية) "كلنا هنا من أجل لقمة العيش، في البداية لم نكن نندمج معهم (غير المصريين) كثيراً، فبعضهم لا يتحدث العربية، لكن بمرور الوقت وصلنا إلى طريقة للتفاهم من دون شرط الكلام، نحن نتكلم مصري، وهم يتكلمون لغتهم والحكاية ماشية والفول والطعمية تجمعنا".
هذا الجمع يتكرر بصور مختلفة ورسالة متطابقة بين فئات شتى في مصر، عمارات سكنية تتجاور فيها أسر سودانية أو إريترية وأخرى مصرية، غرف أو شقق مستأجرة يعيش فيها مهاجرون أو لاجئون أو طالبو لجوء من دول عربية ويعملون –ولو بشكل غير رسمي- في مطاعم أو محلات مصرية، إضافة إلى عائلات عربية لاجئة أو نازحة تمتلك مطاعم أو تدير مصانع صغيرة يعمل فيها مصريون وآخرون من جنسيات أفريقية وعربية، والمجتمع المصري يمضي قدماً منذ عقود طويلة من دون أن يتوقف طويلاً لينظر في المكونات "غير المصرية" الآخذة في الزيادة بشكل وثيق الصلة بقلاقل المنطقة وحروبها وصراعاتها.
حضور لافت
المكونات تشي بحضور عراقي لافت بدأ قبل ثلاثة عقود مع بدء تدهور الأوضاع في العراق، وشهد العقدان الماضيان تزايد الأعداد، وتحديداً منذ عام 2003 حين استقبلت مصر بين 100 و150 ألف عراقي هاربين من جحيم الصراع والإرهاب، وهي أعداد يجادل البعض بأنها أكبر بكثير في ضوء غياب التسجيل الرسمي تحت بند "طالب لجوء"، كما تكشف عن مكون يمني لا تخطئه عين، وتبقى الأعداد في علم الغيب، ولا تعكس تراوحاتها الكبيرة إلا نقصاً حيوياً للمعلومات، فالبعض يقول مليوناً وآخرون يقولون، إن العدد لا يقل عن مليون ونصف المليون، لكن أغلب الظن أن عددهم نحو نصف مليون، لكن كل التقديرات تبقى "ظناً"، والنسبة الأكبر منهم تقطن مناطق وسط القاهرة والمهندسين والدقي والعجوزة، وبعضهم في شرق الإسكندرية، ومطاعم المندي اليمنية المنتشرة في مصر بعضها "أصلي" يملكها ويديرها يمنيون، والبعض الآخر "غير أصلي" يديرها مصريون اقتبسوا سر المندي، وهو أمر ظاهره اقتباس لكن باطنه يؤكد أن الوجود اليمني في مصر لا يزعج المصريين.
اقتباس الوصفة واللهجة
اقتباس مشابه يثير كثيراً من الضحك في شوارع القاهرة والجيزة. فئة من السوريين والسوريات احترفوا تصنيع الحلوى وتغليفها وبيعها في الشوارع الرئيسة، لأنها تحظى بسمعة طيبة لدى أهل مصر المحبين للسكريات والحلويات، فقد ذاع صيتهم ودائماً ما يجدون بدل المشتري 10، ودفع ذلك بعض المصريين إلى الاقتداء بالسوريين، ليس فقط من حيث الفكرة، ولكن ادعاء اللهجة السورية باعتبارها نقطة جذب.
تحول مصر إلى نقطة جذب للهاربين من جحيم الحروب والصراعات في دول المنطقة وتعاملها معهم باعتبارهم مقيمين يحظون بالخدمات والمنافع نفسها، ويتجرعون كذلك المشكلات ذاتها من آثار مرارة الاقتصاد ومصاعب المعيشة، جعلها نموذجاً يشاد به من قبل منظمات أممية وأخرى دولية، لكن هذا لا يعني أن الوضع "يوتوبيا".
الباحث في "المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية" محمود سلامة يشير في دراسة عنوانها "المهاجرون في مصر: سياسات داعمة" (2021) إلى وجود بعض المعوقات التي تقف أمام تحسين السياسات المصرية في التعامل مع المهاجرين، أبرزها نقص البيانات والمعلومات حول أعداد المهاجرين الوافدين وتصنيفهم، كذلك ضعف الإطار التشريعي الحاكم للتعامل مع المهاجرين واللاجئين.
ويقول سلامة، إنه على رغم أن الدستور المصري يكفل في مادته رقم 91 حماية اللاجئين وطالبي اللجوء، فإن القانون المصري الوحيد الذي يتناول ظاهرة الهجرة (القانون رقم 111 لسنة 1983) يختص بالمهاجرين المصريين في الخارج، ولا يتناول أوضاع المهاجرين الوافدين إلى مصر، الأمر الذي يتطلب العمل على إصدار تشريعات حاكمة للعلاقة بين السلطات المصرية والمهاجرين والمنظمات الدولية الداعمة لهذه الفئة على أرض مصر.
ويشير الباحث إلى معضلة استمرار الهجرة غير الشرعية على رغم كل الجهود المبذولة، وهو ما يتطلب نظاماً جديداً لحماية الحدود وتأمين المعابر والمنافذ الحدودية لضمان عدم عبور مهاجرين غير شرعيين من وإلى مصر.
عبور السودانيين
عبور السودانيين إلى مصر حالياً ليس جديداً أو غريباً أو مثيراً. هو فقط ينبه ويذكر ويؤكد أن "مصر عبر تاريخها دولة لجوء بامتياز" بحسب خبير دراسات السكان والهجرة وعضو المجلس القومي للسكان أيمن زهري، حيث يقول، إن من يقرأ التاريخ منذ العهد القديم يعرف عن قدوم سيدنا إبراهيم (عليه السلام) إلى مصر حين حدث الجفاف في أرض كنعان، ولجوء السيد المسيح (عليه السلام) والعائلة المقدسة إليها قبل ما يزيد على ألفي عام، وكذلك لجوء الأرمن إليها فهرباً من مذبحة الأرمن في تركيا في عام 1915، ولجوء الأوروبيين إليها وتكوين جاليات عديدة لا سيما في الإسكندرية أثناء الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى لجوء الشوام إلى مصر بسبب الاضطهاد التركي لهم، لا سيما أن مصر بعيدة عن مركز "الخلافة"، مع تمتع مصر باستقلال نسبي أثناء الاحتلال العثماني.
وعن العصر الحديث يقول زهري، إن مصر شهدت بداية موجات الهجرة الكثيفة مع اندلاع صراعات وحروب جنوب الصحراء، وهو مما أدى إلى تدفقات كبيرة لا سيما من شرق ووسط أفريقيا إلى مصر بلغت ذروتها في ثمانينيات القرن الماضي، وحتى قبلها، كانت مصر الملاذ الآمن لرواد حركات التحرر الوطني أثناء حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.
ويتابع زهري رصد موجات الهجرة والنزوح إلى مصر، حيث موجة الهجرة العراقية بسبب الغزو الأميركي في عام 2003، وهو مما أدى إلى حركة نزوح كبيرة من قبل العراقيين إلى دول عدة ومنها مصر، إلى جانب موجة الهجرة والنزوح الأحدث هي تلك التي تسبب فيها ما يسمى "الربيع العربي"، إذ شهدت مصر تدفقات هجرة من السوريين واليمنيين وجنسيات أخرى مثل الليبيين، واستمرار تدفقات السودانيين كذلك بشكل متواصل منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ويؤكد زهري أن مصر تتعامل مع ملف الهجرة والنزوح واللجوء من منطلق يختلف تماماً عن أغلب دول العالم "ربما حبا الله مصر بهذا الاستقرار النسبي وسط هذه اللجة (تردد أمواج البحر) لتقوم بهذا الدور تحديداً، نحمد الله أننا قادرون وراغبون ومحبون لاستقبال من يلجأون إلينا، وهم يعيشون كما نعيش، ينعمون باستقرار كالذي ينعم به المصريون، ويعانون أيضاً من متاعب المعيشة كما يعاني المصريون، الظروف الاقتصادية ضاغطة لكن من يرزق 104 ملايين (تعداد مصر) قادر على رزق بضعة ملايين تقيم معهم على أرض مصر".
9 ملايين ضيف
قبل أيام، قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، إن بلاده تستضيف تسعة ملايين "ضيف" يتم التعامل معهم كمواطنين، "ضيوف" يشاركون المصريين وليمة الفول والطعمية، ويقرضونهم أسرار المندي اليمني والحلوى السورية والمسكوف العراقي، أو يحفزونهم على مزيد من العمل والسعي حيث المنافسة على فرص العمل غير الرسمية، أو يسهمون في دفع الاقتصاد عن طريق مشروعات صغيرة أو متوسطة يدشنونها أو ينقلون إلى المصريين وينقلون عنهم ملكات وخبرات أو يندمجون في المجتمع مضيفين إليه مزيداً من ثراء التنوع وغنى الاختلاف. وحتى في حالات حدوث الخلاف، وهو أمر وارد وطبيعي في التجمعات البشرية، يظل اللاجئون وطالبو اللجوء والنازحون، في مصر "ضيوفاً" في العقل الجمعي المصري وليس على لسان الرئيس فقط.
تحالف عوامل النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية والأحداث السياسية المصحوبة بتنافس على السلطة وسوء استخدام للأيديولوجيا سلاح إضافي للترويع والتخويف هو تحالف أخذ في التمدد والاحتدام والاستشراء، وهذا يعني أن حركة اللجوء والنزوح مستمرة ولكن تحت بند "الضيافة".