الديمقراطية وتنمية الانسان
تنهمك الدول النامية وغالبية دول العالم الثالث بوضع خطط للتنمية في بلدانها سواءً أكانت غنية أو فقيرة في مواردها، ورغم أن بعضها حقق نجاحات عمودية في مجالات التصنيع أو الزراعة إلا أن غالبيتها أغفلت جوانباً غاية في الأهمية تلك التي تتعلق بنوعية الإنسان وأدائه الإنتاجي والاجتماعي والسياسي ودوره في عملية التطور النوعي للبلاد في مختلف القطاعات. وباستثناء مراكز المدن المهمة التي تتكثف فيها الأنشطة الثقافية والسياسية والجامعية، فإن غالبية ما حولها من بلدات وقرى وتجمعات بشرية تعاني من إشكاليات معقدة في نظامها ووضعها الاجتماعي والوطني وما تمتلكه من ثقافة وتعليم، ناهيك عن ارتفاع مخيف في نسبة الأمية الأبجدية والحضارية رغم التقدم الهائل في وسائل التواصل والإنترنت، إذ ما يزال إهمال الدولة والإرث الاجتماعي الثقيل متكلساً في السلوك والعادات والتقاليد المرتبطة منها بالأديان والمذاهب أو بالأعراف الاجتماعية، ناهيك عما تفعله الأميّة والبطالة والفقر المدقع في تشويه وإلغاء مفهوم جامع للمواطنة والانتماء الموحد للوطن، حيث يُذيب الفقر وتدني المستويات المعيشية وانعدام العدالة كل هذه المفاهيم في المواطنة والانتماء والولاء بل يلغيها لصالح مفاهيم وتركيبات أخرى لا علاقة لها بالوطن والأمة.
إن عملية التحول للنظام الديمقراطي ليست قراراً تتخذه هيئة عليا في البلاد أو يتضمنه دستور دائم، بقدر ما هي نهج تربوي وسلوك اجتماعي، وليست ممارسات سطحية لا علاقة لها البتة بالفكر والنظام الديمقراطي، بل إن ما نشهده اليوم في بلداننا لا يتجاوز كونه ديمقراطيات فوقية تحاول اختزال هذا الفكر والنظام بعملية تبادل مواقع السلطة عن طريق الانتخابات التي تخضع لذات الأدوات التي استخدمتها النظم الشمولية في الشرق الأوسط والعالم الثالث في مجتمعات تعاني من ضعف في التعليم وأميّة بأشكالها المتنوعة تسود قطاعات واسعة من الأهالي في المدن وبشكل أوسع في الأرياف، وهي التي تنتج حينما تجتمع جميعها أمية وطنية.
ولا شك بأن هناك عاملين مهمين يعملان على إضعاف واضمحلال الثقافة الوطنية التي هي القاعدة الأساسية للنظام الديمقراطي؛ هذين العاملين يستخدمان كأدوات وسلالم لتسلق السلطة، وهما الشحن الديني أو المذهبي أو التكثيف العشائري، وفي الحالتين يتم مسخ النظام الديمقراطي وإضاعة فرصة لبلورة مفهوم جامع للمواطنة خاصة في البلدان متعددة المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية، حيث تتلاشى فكرة المواطنة أمام الجهالة والضبابية في مفهومها الذي يُقزم البلاد ويختزلها في عرق أو قومية أو دين أو مذهب أو قبيلة أو فرد، وهي برأيي واحدة من امتدادات البداوة وتراكم التخلف والتجهيل المتعمد من قبل معظم الأنظمة التي تسلّطت على البلاد، وذلك من خلال عمليات غسل الأدمغة وتسطيح العقول الذي تعرض له المواطن طيلة عشرات السنين خاصةً في العراق منذ قيام مملكته مطلع القرن الماضي وحتى تقزّيمها في حزب أو عرق أو دين أو مذهب؟
إن ما يواجه العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان ومن ماثلهم في التكوين السياسي والاجتماعي اليوم ليس إرهاباً منظماً وتدخلات مخابراتية وسياسية أجنبية بقدر ما هو هذه الحاضنات الأمية والعقلية المسطحة التي أصبحت بيئة صالحة لانتشار الفساد والعصابات والميليشيات وأفواج من الإرهابيين والقتلة وتجار السياسة والمخدرات، تحت خيمة الولاء الديني والمذهبي والعنصري خارج أي مفهوم للانتماء الوطني الجامع خاصة في بلدان تعج فيها المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية.
بلداننا اليوم بأمس الحاجة إلى تنمية الإنسان وتأهيله وطنياً أكثر من حاجتها الى تنمية في مجالات أخرى، لأن تنميته وتأهيله هي القاعدة الأساسية التي ترتكز عليها كل تنمويات البلد، وبدونها لا يكتمل إعمار ولا تصنيع ولا إنتاج، إنها حقاً عملية إعادة تأهيل مجتمعاتنا بدءاً من رياض الأطفال وصعوداً حتى البرلمان!