ترميم كنيسة مهجورة منذ نصف قرن في البصرة تمهيدا لافتتاحها
ذات يوم من عام 1968 داهمت مفرزة أمنية عراقية كنيسة ذات طراز حديث تقع في قلب مدينة البصرة، وبعد تفتيشها ومصادرة بعض محتوياتها أغلقتها باعتبارها مسرح جريمة هزت الرأي العام، ومنذ ذلك الحين بقيت الكنيسة مهجورة، لكن مشروعاً لترميمها أوشك أن ينجز تمهيداً لافتتاحها.
شبكة تجسس
بعد دهم الكنيسة بأيام قليلة أعلنت الحكومة العراقية تفكيك شبكة للتجسس والتخريب تابعة للاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) تتألف من 14 شخصاً من اليهود والمسيحيين والمسلمين، أكثرهم كانوا طلاباً وموظفين في مؤسسات حكومية، وأبرزهم تاجر يهودي يدعى عزرا ناجي زلخا، وفي مطلع عام 1969 أعدموا جميعاً وعلقت جثثهم أمام الملأ في ساحة "التحرير" في بغداد وساحة "أم البروم" في البصرة.
وبحسب الرواية الرسمية فإن الخلية كانت تتواصل مع تل أبيب بواسطة جهاز لاسلكي كان مخبأ على سطح الكنيسة وهذا كان السبب المعلن لدهمها وإغلاقها، لكن الحادثة برمتها لم تخرج إلى الآن من دائرة الجدل، وفي ظل عدم ظهور وثائق معتبرة أو أدلة دامغة تثبت تورط المعدومين بالتجسس أو التخريب يعتقد كثيرون بأنهم راحوا ضحية الاضطرابات التي كان يموج بها العراق.
في بداية نشاطها الديني بالعراق واجهت السبتية تحديات ناجمة عن خلافات عقائدية مع طوائف مسيحية أخرى (اندبندنت عربية)
ترميم الكنيسة
على مدى نصف قرن بقيت الكنيسة مهجورة كأنها لا تنتمي إلى موقعها الحيوي في مركز مدينة البصرة، فكانت غارقة في الظلام ليلاً، مقفرة نهاراً، بوابتها الخارجية موصدة بأقفال صدئة وشبابيكها ذات الزجاج الملون مغلقة بالطابوق، وباستثناء الصليب الذي يعلو برجها لا شيء يوحي بأنها كنيسة، بينما كانت الحياة تتدفق بنشاط من حولها، خصوصاً أنها تبعد بضعة أمتار من شارع الكورنيش الذي يعد أهم شارع سياحي في البصرة.
هذه الحال تغيرت قبل أسابيع قليلة عندما بادرت منظمة محلية بترميم وتنظيف الكنيسة بتمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) تمهيداً لإعادة افتتاحها، وبحسب مسؤولة منظمة "درر العراق" هنادي سعد فإن "35 متطوعاً يشاركون في تنفيذ المبادرة التي تشمل إنارة الكنيسة بالمصابيح وطلاء سياجها الخارجي بالدهان وتصليح كراسي قاعة القداس، إضافة إلى أعمال التنظيف"، موضحة أن "المبادرة تهدف إلى الحفاظ على الكنيسة لرمزيتها الدينية ومكانتها التراثية".
الطائفة السبتية
لا يعني ترميم الكنيسة وافتتاحها أنها ستشهد قريباً إحياء طقوس أو احتفالات دينية، فالكنيسة تعود ملكيتها للطائفة السبتية (الأدفنتست) المتفرعة من البروتستانتية، والبصرة تخلو حالياً من مواطنين من أتباع هذه الطائفة التي ظهرت في الولايات المتحدة عام 1863 ويقدر عدد أتباعها في العالم بأكثر من 19 مليوناً، وأبرز ما يميزها عن الطوائف المسيحية الأخرى أنها تقدس يوم السبت عوضاً عن يوم الأحد وتعتقد بقرب المجيء الثاني للسيد المسيح.
على مستوى المنطقة العربية استهلت "السبتية" وجودها في مصر عام 1877، ثم في سوريا خلال عام 1898 وفي 1908 أسست الطائفة مركزاً لها في العاصمة اللبنانية بيروت ضم كنيسة ومستشفى ومرافق أخرى، أما في العراق، فلم تسجل "السبتية" حضوراً واضحاً إلا عام 1923 وكانت انطلاقتها من مدينة الموصل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجودها في العراق
في بداية نشاطها الديني بالعراق واجهت السبتية تحديات ناجمة عن خلافات عقائدية مع طوائف مسيحية أخرى، وعن أول مراسم تعميد علنية لها في العراق يروي الباحث حارث يوسف غنيمة في كتابه "البروتستانت والإنجيليون في العراق" الصادر عام 1998 أنه "لما كان من المقرر إجراء احتفال التعميد في الكنيسة السبتية (الـدفنتست) في الموصل تلقت الكنيسة تهديداً باستخدام العنف ضدها لمنعها، فاضطرت إلى نقل الاحتفال إلى بيت بشير حسو لإجراء التعميد خفية تجنباً للمشكلات، وبعض الذين تم تعميدهم تعرضوا من قبل ذويهم لصنوف من الاضطهاد، منها طردهم من بيوتهم ونبذهم".
وأشار مؤلف الكتاب إلى أن "خمسة من المعمدين كانوا من طلاب الدراسة الثانوية ورسبوا في صفوفهم لأنهم أصروا على الامتناع عن حضور الدروس يوم السبت ورفضوا المشاركة في الامتحانات المقرر إجراؤها في ذلك اليوم".
وعلى رغم حصول الطائفة في العراق على اعتراف رسمي منذ عام 1959 وامتلاكها كنائس في بغداد والموصل وكركوك والبصرة، إلا أنها لم تحقق انتشاراً محلياً واسعاً، وعام 1996 كان عدد المعمدين البالغين في العراق 172 شخصاً فقط.
مستقبل الكنيسة
خلال الأعوام الماضية، بدأت الطائفة السبتية تسعى إلى تفعيل نشاطها الديني في العراق واتخذت من كنيستها في أربيل التي افتتحتها بداية عام 2018 مقراً لإدارة شؤونها في المحافظات الأخرى، وقال رئيس الطائفة السبتية في العراق جورج شمعون يوسف لـ"اندبندنت عربية" أن "كنيستنا في أربيل وحدها الفاعلة حالياً، وكل يوم سبت يرتادها مقيمون في إقليم كردستان من البرازيل وغانا وجنسيات أخرى".
وحول الكنيسة السبتية في البصرة، أفاد يوسف بأن "الطائفة بصدد تكليف قس بالوجود فيها وإدارة شؤونها الدينية"، معتبراً أن "خلو المحافظة من مواطنين سبتيين لا يؤثر في قرار افتتاح الكنيسة، فهي كنيسة عالمية ينبغي أن تبقى أبوابها مفتوحة أمام جميع الناس من مختلف الجنسيات والقوميات".
جدير بالذكر أن البصرة تقطنها بضع مئات من العائلات المسيحية، أكثرها من طائفة الكلدان، والبقية من الأرمن والسريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس والبروتستانت، ولكل طائفة كنيسة ومقبرة خاصة بها، وجميعهم يمارسون طقوسهم الدينية بحرية، وللمسيحيين مقعد (كوتا) في مجلس المحافظة الذي يعد أعلى سلطة تشريعية ورقابية محلية، ومنهم وزيرة الهجرة والمهجرين في الحكومة العراقية الحالية إيفان يعقوب.