مسيحيو العراق ينطلقون في هجرتهم الخامسة... تتلاشى هوية الأرض
خوف المسيحيين العراقيين يدفعهم للهجرة الثالثة في تاريخهم، بعد أن تأثروا بشكل كبير بالتغيرات القسرية التي شهدتها البلاد في عام 2003. تراجعت أعدادهم إلى 250 ألف شخص بعدما كانوا يتجاوزون المليون شخص، ويتوزعون على 14 طائفة مسيحية متنوعة. تشكل الكلدان الغالبية بنسبة تقارب 80 في المئة منهم، ويعيشون في مناطق متعددة في العراق، بما في ذلك سهل نينوى وبغداد وأربيل، ومن الموصل حتى البصرة.
لقد استمروا في التكامل في المجتمع العراقي وممارسة طقوسهم الاجتماعية والدينية بحرية، وشغل العديد منهم مناصب مهمة في الحكومة. واندمج آخرون في الأحزاب العراقية العلمانية والقومية. مثل غيرهم من المواطنين، يهتم المسيحيون بمختلف جوانب الحياة، ويجمعهم حبهم للوطن الواحد. ويُعتبرون بمثابة ملح الأرض العراقية وأقدم سكانها المستقرون.
منذ أقدم الأزمنة، استمرت كنائس المسيحيين وأديرتهم في النجف وكربلاء وتكريت ونينوى وأربيل والبصرة في الوجود، كشاهد على أنهم ملح الأرض. يعود تاريخ العديد من هذه الكنائس إلى ألفي عام، عندما كانت "الحيرة" تعتبر العاصمة المسيحية القريبة من الكوفة والبصرة.
ألغام معاصرة
بقي وضع المسيحيين ميسراً في العراق، لم يتأثر في العهدين الملكي والجمهوري الأول (1921-2003)، بل حافظوا على مكانتهم كمكون وطائفة شريكة وأساسية في البلاد، ولعل استمرار حياتهم بهدوء وانسيابية منحهم حق التصرف بممتلكات الكنسية باستقلالية تامة، مع امتياز ارتباطهم دينياً بالفاتيكان كمرجعية عقائدية، كونهم يوالونها روحياً وينتمون إلى مرجعيتها دينياً.
بعد الغزو الأميركي للعراق، حظوا أيضاً بحماية دستورية في عام 2005 بثلاث مواد دستورية تؤكد وجودهم ككيان مكون للمجتمع، ونصت المادة (14) من الدستور على "العراقيون متساوون أمام القانون من دون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي".
كما نصت المادة (41) على "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، بحسب ديانتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون". في حين أكدت المادة (43) من الدستور أن "أتباع كل دين أو مذهب أحرار في "أ" ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية و"ب" إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها وينظم ذلك بقانون".
لكن هذه المواد الدستورية لا تخلو من ألغام استغلت للنفاذ إلى أزمة ووجود المكون المسيحي، ودفع الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد بسحب المرسوم الجمهوري برقم (147) لسنة 2013، القاضي بتولية الكاردينال مار لويس ساكو كرئيس للطائفة المسيحية في العراق، الذي أصدره الرئيس الأسبق جلال طالباني، إلى إثارة حفيظة واستغراب الغالبية المسيحية التي تجد في بطريرك الكلدان الممثل الشرعي للطائفة في البلاد والعالم، وهو واحد من أكبر المراجع في العالم يذكر بين 15 مرجعاً منتخباً في مجمع الإكليروس ومصادق عليه من الفاتيكان، وقد فسر ذلك "بسحب صلاحياته التي منحها له القانون والموقع من رئيس الجمهورية الأسبق الذي كان يشغل الرئيس الحالي موقع كبير المستشارين لديه آنذاك".
المرجع المسيحي الأعلى
إجراء الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد أثار وقتها جدلاً واسعاً، بدأ ولم ينته بعد، لأسباب عدة من بينها توقيت هذا الإجراء الذي فسر استهداف رئيس أكبر الطوائف غير المسلمة من دون غيره من رؤساء الطوائف الأخرى الذين وردت أسماؤهم بنفس مرسوم (147) كالصابئة والإيزيديين، الموقع من الرئيس طالباني، مما دفع أبناء الطائفة لتبين (الأكمة وما وراءها)، للوقوف على الدوافع وراء القرار الصادر من رئيس الجمهورية باعتباره حامي الدستور.
وتزايد التساؤل الواسع عن دور الرئيس العراقي في الدفع لاستصدار هذا الإقرار، علاوة على الحديث عن الدور الذي لعبه تشكيل بابليون المسيحي المسلح التابع للحشد الشعبي، الذي تأسس بعد "فتوى الجهاد" إبان اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي المدن العراقية، واضطرار كثيرين لحمل السلاح في نينوى وسواها من المناطق، ومن بينهم بابليون.
صاعق التفجير
الناشط المدافع عن حق المكون المسيحي في العراق وممثل الطائفة في الأردن، غازي إبراهيم رحو، اعتبر أن "تجريد المرجع الديني الأكبر لمسيحيي العراق من صلاحياته، التي منحها له القانون الكنسي والبابوي واختياره من قبل السينودس –وهم المطارنة جميعاً في الدولة المعنية- يعد مثيراً للجدل وغير دستوري، إذ تم رفع اسمه وقتها إلى قداسة بابا الفاتيكان الذي أصدر مرسوماً بدوره بجعل البطريرك ساكو رئيساً قائماً على أملاك الكنيسة وعقاراتها وهو المنتخب بطريقة قانونية ونظامية على الوقف المسيحي والمخول بإدارتها".
وأضاف "لكن المؤسف ما حدث بقرار رئيس الجمهورية الحالي هو إخراج غبطة البطريرك ساكو من صلاحياته القانونية والكنسية، خدمة لقوى ميليشياوية مدعومة من جهات تسيطر على حياة العراقيين، وهو خروج على العرف والقانون، ويذكرنا بما اقترفه الرئيس المصري الراحل أنور السادات بإعفاء البطريرك شنودة –وقتها- من صلاحياته، وحينها قامت الدنيا وقتها حتى تراجع عن قراره".
وتابع "قرار الرئيس العراقي بحق البطريرك يأتي ضربة قاسمة للمكون المسيحي، الذي عانى ولا يزال يعاني من التهميش والقتل والتشريد، وسيكون للقرار عواقب وتداعيات كبيرة لعل أخطرها البدء بهجرة جماعية سيكون محصلتها إفراغ العراق من هذا المكون لصالح حفنة من الميليشيات التي دمرت البلاد، ويفتح الباب على مصراعيه لمن يكلف بسرقة أموال وعقارات الوقف المسيحي".
لعل قرار سحب التولية عن المرجع الأعلى للمسيحيين العراقيين، أضحى صاعق تفجير يعيد للذاكرة ما عاناه هذا المكون الأصيل في المجتمع من صراعات سياسية بين الأحزاب ومحاولات الكتل الكبيرة الاستحواذ على حقوق ومكانة ومواقع المسيحيين، سواء في إدارة الدولة أو في الحقوق والممتلكات المهدورة والمنهوبة، التي تم الاستحواذ عليها.
واليوم تزداد خشية المسيحيين العراقيين وشعورهم بالخطر، بعد صدور المرسوم بحق مرجعيتهم الكنسية؛ إذ يقول غازي إبراهيم رحو "ما صدر عن رئيس الجمهورية من إلغاء لمرسوم الرئيس الراحل جلال الطالباني عام 2013، هو دق المسمار الأخير بنعش مسيحيي العراق، على رغم من أن التولية معمول بها عرفاً منذ العباسيين والعثمانيين والملوك والرؤساء العراقيين، لكن المفاجأة إلغاؤه بعد 10 سنوات من صدوره يثير تساؤلات عديدة (لماذا هذا الاستهداف الشخصي لغبطة البطريرك ساكو من دون غيره؟)، ولماذا التوقيت الآن، وما الهدف منه غير دفع المسيحيين للهجرة بهدف الاستحواذ على ممتلكاتهم إضافة لأملاك الكنيسة القائمة منذ ألفي عام في هذه الأرض كونه شعباً عراقياً أصيلاً لكنهم اليوم يعانون محاولات محوهم وسلب ممتلكاتهم؟"
بابليون يطمحون إلى الوقف المسيحي
لكن أعضاء كتلة بابليون لهم رأي آخر مؤيد لإجراء رئيس الجمهورية القاضي بسحب المرسوم الخاص بتولية الكاردينال ساكو، مما جعلهم يعجلون في إصدار بيان أكدوا فيه مساعيهم إلى إعادة التولية. وورد في البيان "نحن نواب كتلة بابليون مع رؤساء الكنائس المسيحية نعمل على تشريع قانون الأحوال الشخصية الذي سيضمن حقوقنا المشروعة دستورياً بعد تضمنيها في المنهاج الوزاري، وسنعمل على تشريع قانون إدارة الأوقاف والمؤسسات الدينية المسيحية بما يكفل كرامة رؤساء الطوائف المسيحية كونهم المتولين شرعاً إدارة الأوقاف".
ويؤشر البيان الذي أصدرته الكتلة، وهي تملك جناحاً مسلحاً تابع للحشد الشعبي ولها ستة نواب في البرلمان ووزير في حكومة المحاصصة، بما لايقبل الشك دخول المكون المسيحي في صراع جديد من داخل المكون هذه المرة، وانقسام بين 14 طائفة مسيحية، وغضب كثير من الكلدان في الداخل والخارج على ما وصفوه بالتدخل في المرجعية المسيحية العليا التي يعدونها مقدسة ووريثة المجد الكنسي في العراق والعالم، وهو تحد جديد للطائفة وانشطارها، وإعلان كثير من أبنائها بيان هجرة جديد يهدد بقاء الـ 250 ألف مسيحي في العراق الذين كانوا يعولون على مكابدة البقاء تحت الشرعية البابوية التي يمثلها بطريرك الكلدان في العراق والعالم الكاردينال المنتخب لويس روفائيل ساكو.
هجرة جديدة
يذهب "رحو" بعيداً من توصيف حال المسيحيين اليوم بقوله إن "الهجرة القسرية لمسيحيي العراق يمكن أن نختصرها بوجود أسباب سواء في بلادنا أو في شرقنا العربي لكن يظل التصدي لها واجباً وطنياً وإنسانياً، فهي تحكي مظلومية شعب أصيل في أرض العراق، فالمسيحيون عاشوا في أرض بلاد الرافدين منذ أكثر من ألفي عام، واليوم يعانون التهجير وفرض الهجرة القسرية المدفوعة من قبل قوى وأياد ظلامية خططت لذلك وبدأت تنفذ مخططاتها".
ومضى في حديثه "بدأت الهجرة الأولى لمسيحيي العراق في عام 2003 بعد التهديدات والقتل والترويع التي طالتهم في بغداد والبصرة والموصل والناصرية والحلة، وبعد أن بدأت التهديدات للكنائس والتفجيرات لعدد منها وامتدت إلى عامي 2005 و2006، ثم بدأت الهجرة الثانية في زمن الحرب الطائفية، وتحديداً عام 2008، حين قتل أكثر من رجل دين مسيحي وعشرات بل مئات من الأطباء والمهندسين والتجار المسيحيين، وأخذت العصابات الإجرامية تنفذ عمليات خطف لهم والمساومة مع ذويهم بهدف الحصول على أموالهم وضعف القانون وعدم وجود حماية للمكون المسيحي".
أما الهجرة الثالثة، فترتبط باختطاف وقتل المطران فرج رحو في الموصل، وسقوط عدد من الشمامسة والرهبان غارقين في دمائهم، ما دفع مسيحيي الموصل إلى الاتجاه نحو الهجرة الثالثة"، وبدا نزيف الهجرة يكبر ويتسع لمسيحي العراق بشكل عام، إلى أن جاء عام 2014 عام النكبة الكبرى التي دخل بها تنظيم "داعش" الإرهابي إلى الموصل وقرى سهل نينوى، وقتل واستملك وهدم الكنائس وصادر أملاك المسيحيين، حينها خيروهم بين الإسلام أو الجزية أو ترك بيوتهم وأملاكهم والخروج من مناطقهم. وعلى الأرض حدثت جرائم تقشعر لها الأبدان، فبدأت أكبر هجرة عرفها العراق لهذا المكون، وهي الهجرة الرابعة التي قضت بشكل شبه نهائي على الوجود المسيحي في الموصل مدينة الكنائس والأديرة وتبعها هجرة المسيحيين من بغداد والبصرة، وأصبحت كنائس العراق تخلو من مؤمنيها، وهذه الهجرات الأربع شكلت ضربة قوية للمسيحيين.
وأخيراً جاء الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد اليوم لينعش الهجرة الخامسة بقراره غير الدستوري، بعد سحب صلاحيات المرجع الديني المسيحي الأكبر في العراق، الذي جعل المتبقي من المسيحيين العراقيين يبدأون بالتفكير في بدء هجرة خامسة لحين ما يبقى العراق بلون واحد، لكن لأعضاء "كتلة بابليون" رأي آخر في هذا الإجراء وتوعدوا بتشريع قانون الأحوال الشخصية بالتعاون مع رؤساء الكنائس المسيحية داعمين قرار الرئيس، فماذا تحمل الأيام لملح الأرض؟