مقاومة المضادات الحيوية في العراق.. تهديد صحي يتفاقم
تعتبر مقاومة الأدوية المضادة للإلتهابات والتي تعرف بالمضادات الحيوية ظاهرة خطيرة تنتشر في جميع أنحاء العالم بما في ذلك العراق والتي برزت بشكلٍ متنامٍ في العقود الأخيرة، وقد أعلنتها منظمة الصحة العالمية كواحدة من أكبر عشرة مشاكل عالمية تواجه صحة البشرية، وعدتها تهديدا خطيرا للصحة والتنمية العالمية. ومن الدوافع الرئيسية في تطور مسببات الأمراض المقاومة للأدوية إساءة إستخدام المضادات الحيوية والإفراط في استخدامها، إضافة الى نقص المياه النظيفة وسوء أنظمة الصرف الصحي وعدم كفاية الوقاية من العدوى والسيطرة عليها، مما يعزز إنتشار الجراثيم المقاومة للأدوية.
وتعني مقاومة المضادات الحيوية أن الأدوية التي كانت تستخدم سابقا لعلاج جرثومة معينة تصبح غير فعالة، وهذا الأمر من الممكن أن يؤدي إلى حدوث مضاعفات خطيرة قد تصل الى الإعاقة وزيادة معدل الوفيات من الإلتهابات التي يمكن علاجها بسهولة بالمضادات الحيوية، وكذلك إنتشار الأمراض المعدية التي من الممكن أن تنتقل من شخص لآخر مما يزيد من خطر الإصابة بتلك الأمراض، إضافة الى زيادة تكاليف الرعاية الصحية بسبب الحاجة إلى استخدام علاجات أكثر تعقيدا وتكلفة لمكافحة الإلتهابات مما يشكل عبئا ماليا كبيرا على الإقتصاد، حيث إنها تؤدي إلى مكوث المرضى الراقدين في المستشفى لفترات أطول وما يمثله ذلك من الحاجة إلى المزيد من أدوية وبكلف أكثر وتحديات مالية إضافية للمرضى وللمؤسسات الصحية.
وفي أيلول 2017 قامت وزارة الصحة العراقية بتقييم وتحليل واقع مقاومة المضادات الحيوية في البلاد (وبالتعاون مع بعض المنظمات العالمية) وكانت هناك مؤشرات على إساءة إستخدام تلك المضادات من قبل مقدمي الرعاية الصحية ووجود ضعف آنذاك في البرامج ذات الصلة مما أدى إلى الإنتشار السريع للجراثيم المقاومة، وخلصت خطة العمل التي وضعت للحد من تلك المقاومة الدوائية الى وجود حاجة لنهج مشترك وجهود متكاملة ومنسقة بشكل جيد على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي لتنفيذ تلك الخطة بعيدة المدى، ومنذ عام 2019 يساهم العراق في نظام مراقبة مقاومة المضادات الحيوية (والذي أسسته منظمة الصحة العالمية في عام 2015).
ومن المعلوم أن الوصول إلى أغلب المضادات الحيوية (والتي من المفترض ألّا تُصرف بدون وصفة طبية) أصبح عندنا وخاصة في العقدين الأخيرين أسهل مما مضى، حيث بات يستخدمها المواطنون وبصورة متزايدة كلما شعروا بوجود أي مرض لديهم، إضافة الى بيعها لهم من قبل الصيدليات وخاصة الاهلية وفي جميع المحافظات بدون وصفة طبية وبكل يسر.
وتظهر الكثير من الدراسات العلمية أن توفر هذه الأدوية وجعلها تحت متناول اليد يرتبط إرتباطا مباشرا بأنماط المقاومة التي نراها اليوم، وهذا يفسر سبب معاناة الكثير من المرضى من مقاومة المضادات الحيوية. ووضحت إحدى الدراسات أن أكثر من ثلث المرضى في إحدى محافظات البلاد التي أجريت فيها تلك الدراسة كان لديهم مقاومة للمضادات الحيوية، وبينت كذلك نتائج إحدى الدراسات العلمية التي أجريت في العراق أن معدل مقاومة بعض المضادات الحيوية (مثل سيفوتاكسيم وسفترياكزون) وصلت لأكثر من 70%، في حين أشارت دراسة عراقية أخرى إلى أن حوالي ثلاثة أرباع المشاركين الذين إستخدموا المضادات الحيوية في آخر شهرين قاموا بشرائها مباشرة من الصيدليات بدون وصفة طبية.
ونستطيع بصورة مقتضبة إجمال العوامل التي تساهم في مقاومة مضادات الجراثيم، وأهمها الإستخدام غير السليم للمضادات الحيوية بدون وصفة طبية في حالات لا تتطلبها (مثل البرد والإنفلونزا التي تسببها الفيروسات) حيث يؤدي ذلك إلى قتل البكتيريا النافعة في الجسم مما يسمح للبكتيريا الضارة بالنمو والتكاثر، أو تناول تلك المضادات لفترة أطول من اللازم أو تناولها بشكل غير صحيح أو قبل انتهاء الجرعات المحددة لفترة أقصر من الموصى بها مما يؤدي الى عدم قتل جميع البكتيريا؛ الأمر الذي يسرع بتكاثر البكتيريا المقاومة. وأيضا الإفراط في استخدام المضادات الحيوية في الحيوانات مما يؤدي إلى انتشار البكتيريا المقاومة في الحيوانات وفي البيئة بشكل عام. ومن العوامل الأخرى ضعف الرقابة وضعف التنظيم الإداري لاستخدام تلك المضادات. إضافة الى انتشار البكتيريا المقاومة من شخص لآخر عن طريق الاتصال المباشر أو غير المباشر من خلال ملامسة الجلد أو الاغشية المخاطية أو الأسطح الملوثة أو من خلال الطعام والماء الملوثين. ولا ننسى أن تطور البكتيريا المقاومة للأدوية قد يتم بشكل طبيعي عن طريق الطفرات التي من الممكن أن تؤدي إلى تغييرات جينية فيها تجعل تلك الأدوية غير فعالة في محاربتها.
وهنالك العديد من التدابير والإجراءات التي يمكن إتخاذها للحد من مقاومة مضادات الجراثيم، منها الإستخدام الرشيد لتلك المضادات فقط عند الضرورة وحسب التوجيهات الطبية، وتناولها بالجرعات الصحيحة والمدة الصحيحة وإكمال الدورة الكاملة لها وعدم مشاركتها مع الآخرين، وتجنب إستخدام تلك المضادات في الحيوانات أيضا إلا عند الضرورة القصوى، وتحسين ممارسات الوقاية من العدوى ومكافحتها في المؤسسات الصحية والأماكن العامة، وتجنب الإتصال المباشر بالأشخاص المصابين بالعدوى وغسل اليدين بشكل متكرر وتطهير الأسطح الملوثة بشكل صحيح. ومن المهم تحسين الرقابة والتنظيم الإداري لاستخدام المضادات الحيوية في المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة والإشراف على الصيدليات لغرض عدم صرفها بدون وصفة طبية وتعزيز البرامج الرقابية على تلك المضادات وجمع وتحليل البيانات ذات الصلة بدقة وشفافية، وتعميق التعاون بين مختلف القطاعات ومؤسسات الدولة الحكومية والأهلية ومنظمات المجتمع المدني من أجل رفع الوعي الصحي والثقافة المجتمعية لغرض الحد من هذه المشكلة.
بقلم / الدكتور زياد حازم إبراهيم
طبيب إختصاص صحة عامة