منخفض وادي الأردن: فرصة أم مأساة؟
منخفض وادي الأردن (Jordan Rift Valley)، أو ما يسميه بعض الأجانب (المنخفض السوري الأفريقي)، هو منخفض طويل ممتد عبر كل من فلسطين والأردن وإسرائيل (وادي الأردن أو الغور)، ولكنه يمتد من منطقة بحيرة الحوله التي جففها الإسرائيليون، وبحيرة طبريا على الحدود السورية، والتي حولها الإسرائيليون إلى مخزن للمياه، ويظل يسير حتى يصل إلى البحر الأحمر ماراً بأخفض منطقة على وجه الأرض، وحتى مضائق تيران، وله امتدادات تستمر حتى تصل عبر المملكة العربية السعودية إلى شرق أفريقيا على البحر الأحمر.
ويقدر عمر هذا الجرف القاري بملايين السنين حين انفصلت شبه الجزيرة العربية عن أفريقيا، وأغرقت المياه كل مناطقه. ولكن الجبال التي نشأت بعد ذلك، حالت دون استمرار إغراق هذه المنطقة بالمياه. ويتبين من هذا العرض السريع للملاحظ أن للمنطقة ميزات خاصة بها، وتتفرد بها عن كثير من مناطق العالم، مثل وادي الأردن الذي يتمتع بأعلى نسبة أوكسجين، وبأكثر مناطق العالم خصوبة، وبأدناها انخفاضاً عن سطح البحر (حوالي 396 متراً)، وبنهر الأردن المقدس لدى مسيحيي العالم، وبقربها من القدس أكثر المدن قدسية، وبيت لحم والناصرة. وفيها البحر الميت أغنى مناطق الدنيا بالبوتاس والبرومين والماغنيسيوم، وبمروره في قارتين.
ولكن نهر الأردن قد أصبح مساراً للحروب والصدامات العسكرية، وكل روافده نالها التغيير والشفط المستمر، وكان وسيبقى سبباً للحروب، وعدم الاستقرار، وبوجود كيان فيه مقام على أرض مغتصبة من الفلسطينيين، وباستمرار إسرائيل بالاعتداء على الوضع المائي والجغرافي هناك تبقى المنطقة بطبيعتها هشة قابلة للكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين. كل هذه الأبعاد المائية والطوبوغرافية والجيولوجية والزراعية والبيئية تهدد تلك المنطقة، لأنها العمود الفقري للمشرق العربي حسب ما يقول الأمير المثقف والمبدع الحسن بن طلال.
ومع أن المنطقة قريبة من مناشئ النفط إلا أنها فقيرة به. ومع أنها تتحدد بنهر الأردن ومساراته وروافده إلا أنها فقيرة بالمياه. ولا يزيد معدل نصيب الفرد فيها من المياه على 300 متر مكعب، ولكن الأردن مثلاً لا يتمتع بأكثر من 100 م٣ للفرد في العام. ولكنه في الوقت ذاته يوفر البدائل المتميزة في الطاقة المتجددة الشمسية والهوائية والجيوحرارية (geothermal).
وفي محاضرته قبل أسبوعين أمام أعضاء جمعية (إدامه) الأردنية والتي يتكون غالبية أعضائها من المهتمين والعاملين في مجال الطاقة المتجددة والنظيفة، قال الأمير الحسن بن طلال إن منخفض وادي الأردن معرض لخطر التدهور، وأن النظام الهش الذي يعاني منه بيئياً ومعيشياً يهدد حياة أكثر من 45 مليون نسمة يعيشون داخله، وأكثر من ذلك لو حسبنا المناطق المتاخمة له في شبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا.
وذكرني الأمير الحسن وهو يتحدث بعاطفة جياشة عن الموقع أن لديه رسالة هامة تذكرنا بالأنبياء الذين تتابعوا على المنطقة محذرين من أن اضطراب العلاقات الإنسانية بين سكان المنطقة، وانشغال كل منهم بالشأن الذي يعنيه، ربما يؤدي إلى كارثة خطيرة تهدد بقاء كل الناس هناك، وحتى المناطق المجاورة، ولربما الاقتصاد العالمي برمته.
وقد ركز الأمير الحسن على ضرورة بناء نظام إنساني يرقى فيه التعاون إلى درجة تمكن شعوب المنطقة من أن يتبعوا نظاماً إنسانياً يحافظ على كرامة البشر ويحترم حقوقهم وحاجاتهم من أجل أن تستدرك الفاجعة المحتملة قبل وقوعها. وقد أكد الأمير في معرض إجاباته عن الأسئلة بأن النذر الفيزيائية والشواهد الماثلة تؤكد احتمال وقوع كارثة تذكرنا بحجم التغير البركاني الهائل الذي حدث في هذه المنطقة أكثر من مرة عبر التاريخ. ولعل ما جرى لقوم لوط، وسبأ وإرم ذات العماد، وقوم نوح وغيرهم لا يجعل الأمر مجرد محاضرة دينية. وهناك دراسات كثيرة وضعت حول هذا الأمر، ويبدو أن الأردن وفلسطين وإسرائيل هي المناطق الأكثر هشاشة والتي تكون قلب المنطقة وجذعها الأساس.
والحل لهذه المشكلة يتطلب وضع حزمة من الإجراءات المترابطة وهي المياه والطاقة والغذاء والبيئة. وحتى تتضح الصورة أكثر، فإن نقص المياه وشحها لا يمكن تجاوزه بدون الاستخدام المكثف للطاقة لانتاج الماء، وتنقيته، وتوزيعه. والطاقة يجب أن تعتمد على المصادر النظيفة حتى لا تستخدم مصادرها الأحفورية ذات الخطر الكبير على البيئة، والتي تدل الشواهد على أن أثر البيوت الخضراء (green house effect) يأخذ حالياً أبعاداً خطيرة جعلت درجة الحرارة منذ نهاية شهر يونيو/ حزيران الماضي وحتى الآن تصعد بين 5 - 8 درجات فوق معدلاتها الطبيعية.
ونحن بحاجة للماء من أجل إنتاج الغذاء الذي تعتبر دول المنطقة من أكثر الدول استيراداً له، ما يعرضها لفقدان أمنها. إذن فلا بد من بناء استراتيجية جديدة تقوم على البعد الإنساني من أجل مواجهة الكوارث الطبيعية المهددة لكل ما هو حي يعيش في المنطقة.
ولتأكيد البعد الإنساني، فقد عاد الأمير الحسن لتكرار مقالته حول ضرورة النظر إلى سكان المشرق العربي (بلاد الشام والعراق والامتدادات مع مصر والسعودية) على أنها مكونة من أربع فئات هم العرب والترك والكرد والفرس. وأن حال الانقسامات بين هذه المكونات لا يسمح إن استمر على منواله بالتصدي للنتائج الكارثية التي يمكن أن تحصل مستقبلاً.
ولكن هناك إشكالية لم يتعرض لها الأمير في حديثه، وهي أنك لا يمكن أن تتحدث عن حلول شاملة لمشاكل المياه والبيئة والطاقة والغذاء في منخفض وادي الأردن دون أن تكون إسرائيل طرفاً في ذلك لأنها هي الطرف الأكثر تشويشاً وهدماً للنظام البيئي في هذه المنطقة. فما الحل إذن؟
إذا أدخلت إسرائيل على المنظومة، فقد يعطيها هذه الفرصة لإملاء أولوياتها، والسعي عبر ما لديها الآن من مصادر للطاقة (الغاز خاصة)، والتكنولوجيا (تحلية المياه)، وقدرات زراعية كبيرة تكنولوجياً (الغذاء) وتكريس المنطقة لخدمة مصالحها على حساب شعوب المنطقة.
وإذا لم تدخل إسرائيل ضمن المعادلة، فإن تفردها خارج المنظومة سوف يترك لها الحبل على الغارب لكي تتصرف كيفما تشاء معتمدة على الدعم المطلق الذي تلقاه من العالم الغربي خاصة، ونظراً لما تتمتع به الحركة الصهيونية (الدينية والعلمانية) من نفوذ كبير داخل دول أوروبا وأميركا، والذي عاد للظهور بشكل جلي بعد هجوم حكومة اليمين المتطرف الأهوج على مخيم جنين وعلى مدينة نابلس بحجة مكافحة الإرهاب والإسلاموفوبيا.
يجب أن نجد مقترباً من أجل الحد من السلوك الإسرائيلي المنفلت، وهذا لا يعني أن إسرائيل تستطيع أن تملي قرارها على العرب في المنطقة. ولكنها لا يمكن أن تفرض إرادتها عليهم إذا اجتمعت هذه الدول على منهجية واضحة من أجل التصدي لتحديات وجودها وكرامتها في المستقبل. ونحن لدينا الطاقة والأرض والقوى البشرية. والتكنولوجيا المتاحة عندنا وعند دول أخرى مستعدة إما لبيعها أو لتطبيقها، من أجل أن نضع إسرائيل في موقع المدافع، وليس في موقع المبادر.
هذا الخطر الخفي، يجب أن يحظى باهتماماتنا في المنطقة. إذا أردنا أن نعيش كرماء، وبناء المجد لا ينجز إلا غِلاباً وتضحية وإرادة حية.