القانون الذي طال انتظاره في الجزائر
أخيراً، وبعد طول انتظار في الجزائر، وخَلَفاً لقانون النقد والقرض الذي عفا عليه الزمن، صدر القانون النقدي والمصرفي، يوم 27 يونيو/حزيران في العدد 43 من الجريدة الرسمية، الذي يحمل في طياته الكثير من التدابير التي من المُفترض أن تسرِّع عصرنة المنظومة البنكية الجزائرية المنغلقة على نفسها وتعزِّز مهامها التنظيمية والرقابية وتمكِّنها من مواكبة التطورات العالمية.
لعلّ أهمّ ما جاء في القانون النقدي والمصرفي 23-09 هو الأحكام التي تهدف بالدرجة الأولى إلى تعزيز حوكمة بنك الجزائر من خلال إدخال عدّة تغييرات على عملية تسيير البنك المركزي ورقابته، حيث تمَّ اعتماد نظام العهدة لمدّة خمس سنوات والقابلة للتجديد مرّة واحدة فقط لممارسة وظيفة محافظ بنك الجزائر ونوابه الثلاثة، الأمر الذي سيُضفي نوعاً من الاستقرار على منصب محافظ البنك المركزي الحسّاس الذي يُعتبر مرآة عاكسة لمدى التحكُّم في زمام الأمور النقدية.
فمنذ رحيل محمد لكصاسي في 2016 بعد قضائه نحو عقد ونصف على رأس هذه الهيئة المالية المستقلّة، لم يُعمِّر المتداولون على كرسي محافظ بنك الجزائر المركزي طويلاً، ومنهم محمد لوكال (2019-2016) الذي صدر بحقِّه حكم بالسجن سبع سنوات في قضية فساد تتعلَّق بمشروع بناء مقرّ جديد للبنك المركزي، أيمن بن عبد الرحمن (2020-2019)، رستم فاضلي (2020-2022)، وصلاح الدين طالب الذي يشغل المنصب منذ مايو/أيار 2022.
كما وضع القانون النقدي والمصرفي نصب عينيه عصرنة وسائل الدفع من خلال تأسيس لجنة وطنية للدفع مهمتها وضع مشروع الاستراتيجية الوطنية لتطوير وسائل الدفع الهادف بالدرجة الأولى إلى تعزيز المعاملات المصرفية وتقوية الشمول المالي، حيث ستتولَّى هذه اللجنة أيضاً عملية متابعة الابتكار في مجال وسائل الدفع، إلى جانب مراقبة استخدام وسائل الدفع الدولية في البلاد، حيث تحوم الكثير من علامات الاستفهام حول ما ستتمخَّض عنه تلك المراقبة التي ينبغي أن تركِّز حصراً على مكافحة ظاهرة تبييض الأموال ومحاربة الجرائم المالية.
وسيزداد الطين بلّة إذا تعلَّق الأمر بتضييق الخناق على الكثير من عمليات الدفع الإلكتروني التي تتمّ حالياً بالاستعانة بحسابات بنكية في بنوك أجنبية، والتي تشكِّل الملاذ الأخير والخيار الوحيد لكل من انقطعت به السبل وبلغ به اليأس مبلغه في النظام المصرفي الجزائري الذي تهيمن عليه البيروقراطية القاتلة ويطبعه التخلُّف في كل ما له علاقة بالتحويلات المالية من وإلى الخارج.
وقصد ضمان الاستقرار المالي على الصعيد الكلي وتعزيز صمود النظام المالي في وجه الصدمات المحتملة، تضمَّن القانون النقدي والمصرفي استحداث لجنة الاستقرار المالي التي يرأسها محافظ بنك الجزائر أو ممثِّله من بين نوابه والمُكلَّفة بالمراقبة الاحترازية الكلية، تسيير الأزمات، تحديد وتقييم المخاطر التي يُحتمل أن تضرّ باستقرار النظام المالي، الحرص على تعزيز شفافية النظام المالي، وضع الإجراءات اللازمة لمعالجة نقاط الضعف التي يتمّ تحديدها، وضع استراتيجية للخروج من الأزمات في حال حدوثها، واتِّخاذ وتنسيق الإجراءات التي تسمح باستعادة الاستقرار المالي، ويبقى التساؤل مطروحاً حول مدى فعالية دور هذه اللجنة.
كما نالت الصيرفة الإسلامية نصيباً معتبراً في القانون النقدي والمصرفي الذي نصَّ بشكل صريح وواضح على تعزيز ممارسة الأعمال المصرفية الإسلامية وتسويق المنتجات المصرفية المتعلِّقة بهذا النوع من الصيرفة، شرط الحصول مُسبقاً على شهادة المطابقة لمبادئ الشريعة الإسلامية الصادرة عن الهيئة الشرعية للإفتاء في مجال المالية الإسلامية وكذا موافقة بنك الجزائر.
الاهتمام الحديث للحكومة الجزائرية بالصيرفة الإسلامية جاء لدواعي امتصاص المبالغ المالية الضخمة التي تسرَّبت إلى السوق الموازية وتُبقيها في حالة نشاط دائم، التخفيف من مشاكل شحّ السيولة، وكذا إيجاد مصادر تمويل بنكية جديدة لتعزيز موارد الخزينة العمومية.
ووفقاً لتصريحات نقلتها الإذاعة الجزائرية، وصلت قيمة ودائع الصيرفة الإسلامية لدى البنوك والمؤسسات المالية العمومية والخاصة إلى 500 مليار دينار جزائري، أي ما يقارب 3.7 مليارات دولار، خلال الفترة الممتدة من أبريل/نيسان 2020 إلى نهاية أغسطس/آب 2022.
ومن أهمّ مظاهر الطموح اللافتة للانتباه في القانون النقدي والمصرفي الجديد نجد عبارة "الدينار الرقمي الجزائري" المختصرة التي وردت في المادة الثانية من هذا القانون، في إشارة لإمكانية إطلاق عملة رقمية يُصدرها ويُسيِّرها ويُراقبها بنك الجزائر، لكن لم ترد أيّة تفاصيل أو أحكام تتعلَّق بكيفية تسيير ومراقبة هذا الدينار الرقمي، وهذا إن دلَّ على شيء، فإنّه يدلّ على أنّ الدينار الرقمي هو مجرَّد فكرة لا يزال تطبيق فحواها على أرض الواقع بعيد المنال في الجزائر.
جاء القانون النقدي والمصرفي ليُلغي قانون النقد والقرض الذي صدر لأوّل مرة في 14 أبريل/نيسان 1990، وعرف عدّة تعديلات محدودة في 2001 و2003 و2010 وآخرها في عام 2017.
وواجه على إثر ذلك وابلاً من الانتقادات، لا سيَّما بعد أن باءت معظم تلك التعديلات بالفشل وبقي النظام البنكي الجزائري رهين عقلية التسيير في القطاع العمومي، وبعيداً كل البعد عن المقاييس المعتمدة في المعاملات المصرفية الحديثة، فلم تتردَّد المؤسسات الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في توجيه سهام النقد اللاذعة للمنظومة المصرفية الجزائرية، لا سيَّما من ناحية تأخُّر وثقل الإجراءات البنكية، السير وفقاً للإملاءات السياسية، تفشِّي البيروقراطية، والصعوبات الجمّة التي تواجه الشركات الأجنبية أثناء تحويل الأرباح للخارج.
خلاصة القول إن كثيراً من الجزائريين يُعوَّلون على القانون النقدي والمصرفي في تسهيل حركة تحويل رؤوس الأموال، ووضع حدٍّ لعزوف المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في البيئة الجزائرية ذات المنظومة المصرفية المُشخَّصة بالابتعاد عن الحداثة والموبوءة بالبيروقراطية، خصوصاً في ظلّ تزامن هذا القانون مع التعليمات الرئاسية بضرورة فتح رأس مال البنوك العمومية، وفتح فروع لها خارج البلاد في إطار تعزيز الخصخصة.
لقد كان صدور القانون النقدي والمصرفي في الجريدة الرسمية خطوة مُتوقَّعة بعد الإفراج عن قانون الاستثمار الجديد الذي يُنتَظر منه أيضاً فتح شهية المستثمرين الأجانب، وإحداث قطيعة مع العراقيل التي تعترض طريق الاستثمار الخاص والأجنبي؛ والأهمّ من كل ذلك ألا تبقى تلك القوانين مجرَّد حبر على ورق.