دفاتر فارس يواكيم: سلوى القطريب نجمة شعشعـت وخَبَت في غمضة عين
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" كلّ يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم.
سألوني: "ما أفضل أغاني سلوى القطريب بحسب مزاجك"؟ قلت: "خدني معك، وقالوا لي العيد بعيوني، وعدوني بحبّن، وحوّل يا خيّال الليل، واسمك بقلبي، وبدّي غنّي، ويا مِيْة هلا، وطال السهر (دويتو مع طوني حنا). وهذه الأغاني كلّها من كلمات وألحان روميو لحود، فضلاً عن أدائها الجميل لأغنية خفيف الروح بيتعاجب"، وهي من كلمات بديع خيري وألحان سيد درويش، وقد غناها لأول مرة زكي مراد والد المطربة ليلى والملحن منير". حصرت الأغاني بهذه فقط من بين أغانيها المائة والعشرين.
جمعت سلوى القطريب جمال الصوت والأداء والحضور. وهي نشأت في بيت موسيقي، تتردد الأنغام في أرجائه طيلة اليوم. كان والدها صليبا القطريب مغنّياً ومن أبرز عازفي العود في زمانه. وكان أبوه مخايل القطريب عازف إيقاع. أنشد صليبا أغنيات من بينها "يا فؤادي ليه" و"أنا في سُكْرَيْن" وموشح "يا شادي الألحان". وفي مطلع الثلاثينيات، كان يعزف على عوده في ملهى "كوكب الشرق". سمعه محمد عبد الوهاب، وأُعجب بعزفه وباستخدامه "الريشة المقلوبة" (طريقة مبتكرة في العزف)، فاستضافه في القاهرة، وحلّ في فرقته مكان العوّاد رياض السنباطي الذي قرر آنذاك أن يصبح ملحّناً. عزف صليبا مرافقاً عبد الوهاب لدى تسجيل أغاني فيلمي "الوردة البيضاء" (1933) و"دموع الحب" (1935)، ورافق بعوده المطربة فتحية أحمد. عشق لون الغناء المصري رغم إقامته في بغداد أواخر الثلاثينيات، وكان عازف العود مرافقاً المطربة العراقية الشهيرة سليمة مراد. أما فؤاد، شقيق سلوى، فكان عازفاً على الكمان. وعن والدها تعلّمت سلوى أصول الأداء والطرب.
ولدت في طرابلس في 17 سبتمبر/ أيلول 1953، في عائلة تنحدر من بلدة بترومين في قضاء الكورة. لكنها ترعرعت في بيروت، ودرست في مدرسة "زهرة الإحسان" في الأشرفية. كانت رياضية انضمت إلى منتخب لبنان في كرة المضرب. وعلى الرغم من حبها للغناء ومن الإنشاد في الحفلات العائلية، فإنها لم تسْعَ إلى احتراف الغناء، ثم حدث أن روميو لحود، وكان خطيب شقيقتها ألكسندرا، عرفها وسمع صوتها فأعجبه، وكان يبحث عن صوت جديد. ووافقت سلوى على رغبته، وشكلت معه ثنائياً فنيّاً، وتألقت نجمة مسرحياته الغنائية.
كانت البداية عام 1974، حين أطلت على الجمهور لأول مرة في مسرح الإليزيه، بطلة للمسرحية الغنائية "سِنْقُفْ سنقف" مع طوني حنا وجورجينا رزق المُنتَخَبَة قبل عام ملكة جمال الكون. خرجتُ من العرض موقناً بمولد نجمة غنائية جديدة تمتلك موهبة ملحوظة في التمثيل. وحين نقلت إليها عبارات الثناء في الكواليس، عرفتُ امرأة خجولة متواضعة. قالت: "كنت متهيّبة للغاية، لكن روميو شجّعني، وحسن استقبال الجمهور بدّد الهيبة".
عرفتها عن كثب لاحقاً سنة 1979، بعدما تزوجت الصديق ناهي لحود، شقيق روميو الأصغر، وكان مهندس الصوت والمنتج. وكان روميو قد تزوج أختها ألكسندرا، فلم يقتصر التعاون على ثنائي فني: روميو/سلوى، إذ أصبح الثنائي عائلياً أيضاً: لحود/القطريب.
كانت المسرحية التالية "بنت الجبل". اقتبسها روميو لحود من "بيغماليون" لبرنارد شو التي كانت قد تحوّلت إلى فيلم سينمائي أخرجه جورج كيوكر تحت عنوان "سيدتي الجميلة"، وفيه لعبت أودري هيبورن دور بائعة الورد ليزا دوليتل، وركس هاريسون دور البروفسور في علم الأصوات هنري هيغنز. لبننها روميو لحود ببراعة، وكتب أغانيها ولحّنها وأخرجها. حافظ على اسمي البطلين: ليزا وهنري. أدت سلوى القطريب دور ليزا، وأنطوان كرباج دور هنري، وفيليب عقيقي دور والد ليزا، وشارك في المسرحية المغني عبده ياغي. وعلى الرغم من وجود القطريب إلى جوار ممثلَيْن قديرين (كرباج وعقيقي)، فإنها وقفت على الخشبة وقفة بطلة محترفة في الأداء التمثيلي. بائعة الأزهار ليزا تنتمي إلى الطبقة الشعبية الدنيا، وتتكلم اللكنة ذاتها السائدة في الأزقة. "شلّوفة" كما يقال بالعامية اللبنانية، إذا داس على طرفها أحد "تردح" كما يقال بالعامية المصرية.
وقد وصف الناقد لويس عوض كلام ليزا دوليتل في مقالته عن "بيغماليون" قائلاً: "بعبارات بلدية شائقة، وبلهجة بلدية شائقة من أعماق أحياء الفقراء بلندن، تخرج الألفاظ من فمها منكرة النبرة، ممطوطة السواكن، مأكولة المتحركات، مجوّفة النطق". ببراعة، أدّت سلوى القطريب هذا الدور بنبرة شعبية، ثم بنبرة مرهفة أنيقة عندما أصبحت سيدة مجتمع، وكأنها ولدت في قصر عائلة أرستقراطية. أُعجبتُ بأدائها المتميّز بنبرتين، واستمتعت بأغانيها وتحديداً "مش كل السنِة بتتلج الدني"، وكنت سابقاً استمعت إلى هذه الأغنية يؤديها الكورس في مسرحية "مهرجان" التي قدّمها روميو لحود في مهرجانات بعلبك سنة 1968.
وفي "بنت الجبل"، اكتشفت أيضاً الملحن فؤاد القطريب، شقيق سلوى، وكانت له في هذه المسرحية مساهمتان: شاركت سلوى المجموعة في غناء لحنِه "خلصت الصيفية" وغنّى عبده ياغي لحنَه "فوق جبال المضوية".
عام 1977 أيضاً، أدّت سلوى القطريب دور البطولة في مسرحية "اسمك بقلبي" وشاركها عبده ياغي. بعد ذلك تتالت المسرحيات الغنائية مع روميو لحود: "الأميرة زمرد" وفيها، مع سلوى، المطرب والملحن ملحم بركات الذي لحّن لها أغنية "لا أكتر من غيري" من كلمات روميو لحود.
وفي مسرحية "أوكسجين"، شاركها إيلي شويري البطولة، وأنشدت أغنيتين من نظمه وتلحينه: "خلّينا عاشقين" و"بلدك بلدي". ومسرحية "ياسمين" مع عبده ياغي، و"حكاية أمل" سنة 1982 بمشاركة غسان صليبا، ثم "الحلم الثالث" سنة 1985 وألحانها من تأليف روميو لحود وزكي ناصيف (أغنية ميجانا) وعبد الغني طليس (أغنية شجر الحور). عاند الحظ المسرحية، وعرضت نحو عشرين يوماً فقط بسبب تدهور الحالة الأمنية إبّان الحرب الأهلية في لبنان. ولم يتسنَّ لي حضورها، لكني سمعت أغانيها، كذلك الحال مع مسرحية "سوبر ستار" التي قدمت في مسرح "كازينو لبنان"، وأحببت من أغانيها "هيك التقينا يا هوا".
ساهم اجتماع المواهب لديها في تأسيس صعودها نحو النجومية. هي مغنية وممثلة وتشارك راقصة في اللوحات الاستعراضية. مغنّية تؤدّي ألوان الغناء المختلفة بمقدرة: الفولكلوري اللبناني، والعاطفي، والوطني، والنغم الغربي، والألحان التراثية، واللون البدوي. وفي أغنية "سافرنا كتير وشفنا كتير" التي أنشدتها في مسرحية "سوبر ستار"، صمّم لها روميو لحود أغنية تضمّ منتخبات من أنغام مختلفة: اللون المصري (يا بهيّة) والحلبي (القراصية منين) والبغدادي (لا خبر لا حامض حلو) والخليجي (بعاد كنتم والا قريّبين) والفولكلوري اللبناني (على دلعونا).
أما الممثلة سلوى القطريب فأدّت مختلف الألوان من الكوميديا إلى الدراما، وتميّزت بالإطلالة المشرقة وبخفة الظل. وقد حافظت على رشاقتها، الأمر الذي مكّنها من المشاركة في المشاهد الراقصة. وإلى المسرحيات التي قدّمتها، قامت ببطولة المسلسل التلفزيوني اللبناني "ليالي شهرزاد" غناء وتمثيلاً، بالفصحى.
كان توفيق الباشا ملحّن الأغاني ومؤلف الموسيقى التصويرية، وكان الإخراج بتوقيع ألبير كيلو. عُرض المسلسل في معظم المحطات العربية، فذاع اسمها وعرفها الجمهور العربي الذي لم يحضر مسرحياتها في بيروت. استضيفت في بلدان مختلفة، منها الكويت، وقد أحيت فيها سهرة غنائية في مسرح الأندلس. كنت مقيماً وقتها في الكويت، وحضرت الحفل، وسعدت لأن الجمهور استقبلها بحفاوة. تقابلنا غير مرة، منها في جلسة تكريم أقامها لها وفيق جابر، القائم بأعمال السفارة اللبنانية، ودعا إليها بعض شخصيات من الجالية اللبنانية وإعلاميين. في هذه السهرة، طلب أحد الحاضرين من سلوى القطريب أن تغنّي، فاعتذرت بلطف، وكان أن كرر طلبه مخفّفاً إياه "ولو موال أو بيت عتابا"، وعاودت الاعتذار بلطف أيضاً، وتدخل زوجها ناهي لحود قائلاً: "لا يعرفها أحد مثلي. سلوى لا تغنّي إلا في المسرح، وأرجو ألّا تحرجوها". ومنها جلسة جمعت إلى مائدة العشاء: سلوى وناهي لحود، ورئيس تحرير مجلة الشبكة جورج إبراهيم الخوري، ومبدع النغم الجميل فيلمون وهبي، وأنا. أثناء تبادل الأحاديث، أثنى فيلمون وهبي على أدائها أغنية "خفيف الروح بيتعاجب"، وسألها جورج إبراهيم الخوري إذا كانت تعرف من غنّاها أول مرة. طبعاً هي تعرف، لكن قبل أن تردّ، أجاب فيلمون وهبي بقوله: "أنا". استغربنا جميعاً، وسأله جورج إبراهيم الخوري مندهشاً: "كيف؟ أنت غنّيتها"؟ قال: "لا، لكن أنا... أعرف مَنْ غنّاها"! قهقهت سلوى، وتبعناها ضاحكين.
ومع تصاعد نيران الحرب في بيروت، توقّفت العروض المسرحية. لكن العروض لإحياء الحفلات في العواصم العربية لم تتوقف. شاركت سنة 1984 في مهرجان الأغنية في الجزائر، وفي العام نفسه أحيت حفلات في معرض بغداد الدولي. ومن بعد في سورية والإمارات العربية المتحدة، وفي الأردن حيث تألقت في مهرجان جرش الشهير، ونالت جائزة تقدير فضلاً عن حفاوة الجمهور بالتصفيق الحار.
وسنة 1988، أعاد روميو لحود تقديم "بنت الجبل" بحلّة جديدة في مسرح كازينو لبنان. سافرت إلى لوس أنجليس تلبية لدعوة الجالية اللبنانية، وأحيت حفلات ناجحة. عام 1996، شاركت في مهرجان الأغنية العربية الذي أقيم في أبوظبي بمشاركة الكثير من المطربين والمطربات العرب، منهم وردة الجزائرية وماجدة الرومي وسميرة سعيد. وفي إطار المهرجان، أقيمت مسابقة أفضل مطرب وأفضل أغنية عربية، فحازت سلوى القطريب جائزة "الصقر الذهبي" كأفضل مغنيّة، ونال روميو لحود جائزة أفضل أغنية عن لحن "ذكريات". وكانت الإطلالة الأخيرة لسلوى القطريب في مهرجانات جبيل سنة 1998، حين أعادت تقديم مسرحية "ياسمين".
وأخبرني ناهي لحود أن سلوى القطريب تلقّت عرضين للغناء في أوروبا مع نجوم مشاهير. الأول من خوليو إيغليسياس، وقد سمعها تغني في بيروت، فاقترح استضافتها في باريس لتشاركه الغناء في حفل كبير، لكن الخجل غلبها وتهيّبت الموقف، فشكرت واعتذرت. أما العرض الثاني فجاء من وكيلة أعمال المغني سيرج لاما، وكانت قد سمعتها في برنامج بثّه التلفزيون الفرنسي، واقترحت أن تغنّي سلوى "خذني معك" و"قالوا لي العيد" بلحن روميو نفسه لكن بكلمات فرنسية. رحّبت سلوى، وشجّعها روميو وناهي لحود، لكن الحرب المستعرة حالت دون السفر في الوقت المحدد لحفل سيرج لاما.
اختارت سلوى القطريب لاحقاً الابتعاد عن العروض والأضواء. عاشت حالة تصوّف روحانية، ووهبت صوتها للترتيل الكنسي. وفي هذه الفترة، تفرّغت تماماً لعائلتها، ولرعاية ابنتها الوحيدة ألين لحود (تحمل اسم عمتها الكاتبة والصحافية). وكانت العلاقة بينهما سلسة وبسيطة. ورثت ألين عن أمها الصوت الجميل وحبّ الغناء، وسجلت مجموعة من الأغاني، وأعادت إنشاد بعض أغاني والدتها، خصوصاً "خدني معك"، وغنّت باللغة الفرنسية، وشاركت في مسابقات تلفزيونية عالمية.
وعلى الرغم من ابتعادها عن الأضواء، ظلّ اسم سلوى القطريب لامعاً. كانت في أوج الشهرة حين تدهورت حالتها الصحية فجأة. في 14 فبراير/ شباط 2009، شعرت سلوى بألم شديد، وتعرّضت لجلطة في الدماغ. نقلت بسرعة إلى مستشفى أوتيل ديو، لكنها دخلت في غيبوبة دامت ثمانية أيام إلى أن دهمها نزيف قوي في الدماغ، من جرّائه أسلمت الروح يوم الرابع من مارس/ آذار.