العرب والأتراك.. ذوق موسيقي مشترك عمره ألف عام
من المعروف أن السلطان مراد الرابع (1612-1640) العائد من حملته على إيران، قد أحضر معه موسيقيين من بغداد إلى إسطنبول، حيث تُظهر المصادر القليلة القادمة من تلك الفترة، أن الموسيقى تطوّرت في عهد السلطان محمد الرابع ( 1642 - 1693/ ابن شقيق مراد الرابع، وحكَم بعد رحيله بعامين). ومن الواضح أن التفاعل الموسيقي قد ازداد في القرن السادس عشر في الإمبراطورية العثمانية بفضل قوتها السيادية الهائلة ونفوذها عبر ثلاث قارات.
وبحلول القرن التاسع عشر، كان الذوق الموسيقي التركي قد اعتُمِدَ، بوصفه الذوق الإمبراطوري الشائع في الجغرافيا العثمانية بأكملها تقريباً، وجرى تَبَنِّيه بشغف. وعلى وجه الخصوص، أظهر حكّام مصر الملقّبون بـ"الخديوي" ولعَهم بالموسيقى التركية، من خلال دعوة فنانين أتراك إلى مصر معلّمين ومغنين، كانوا مؤثرين من خلال علاقاتهم مع أساتذة الموسيقى المصريين. هذا الموقف من المصريين تبنَّته الإدارتان السورية والعراقية في فترة ما بعد الجمهورية، حيث دُعي أساتذة الموسيقى الأتراك إلى بلادهم لافتتاح معاهد موسيقية أو لتعليم الموسيقى. ربما لهذا السبب، اشتهرت أسماء مثل جميل بك الطنبوري، وحافظ سامي، ومنير نور الدين سلجوق، وموزيان سنار في الأوساط الموسيقية في البلدان العربية في القرن الماضي، بتسجيلاتهم أو حفلاتهم هناك.
وكما تأثّر المغرب في شمال أفريقيا، بشدّة بالموسيقى الإسبانية وأثّر فيها أيضاً، ظهر تأثير الموسيقى العثمانية بقوّة حتى وقت قريب، خاصة في مصر والجزائر وتونس، التي كانت تحت هيمنة الإمبراطورية العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر، وكان ذلك عاملاً مهماً في الحصول على بعض المقامات والأساليب الموسيقية من الأتراك. بدأت الأمم التي تعيش تحت سقف الإمبراطورية العثمانية في المنطقة العربية، في إنشاء دول جديدة في القرن العشرين، وأثناء محاولتهم إنشاء هويات وطنية خاصة بهم، حصلت الموسيقى أيضاً على نصيبها من هذه المحاولة.
إن التعايش السلمي التركي والعربي في إطار وحدة تاريخية قد تجاوز الألف عام، وكان لهذا تأثير عزّز الوحدة الثقافية والعلاقات بينهما. وبلا شك، فإن الموسيقى كانت من أبرز الأمثلة على التفاعل بين المجتمعين. بتعريف قصير، تأثّرت "الموسيقى التركية الكلاسيكية" بالتقاليد الموسيقية القوية لإيران، والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والكنيسة السريانية القديمة، والموسيقى العربية، وقد أثّرت بالتأكيد على هذه الموسيقى من خلال تحقيق الذوق الموسيقي الإمبراطوري المشترك.
تُظهر المقاييس اللحنية تشابهاً بين تركيا والعالم العربي
"الذوق الموسيقي الإمبراطوري المشترك" هو التعبير العام عن انتشار ذائقة إسطنبول، مركز السلطنة العثمانية والخلافة، من روميليا (جنوب شرق أوروبا) إلى العراق، ومن اليمن إلى الجزائر. وكانت الإمبراطورية العثمانية بسطت سيادتها على منطقة جغرافية واسعة، وحافظت على هذا التأثير لفترة طويلة. وتجدر الإشارة إلى أنه في إطار بنية الإمبراطورية متعدّدة الثقافات، قامت مجتمعات من أصول مختلفة بالتبادل الموسيقي بعضها مع بعض لعدّة قرون. بعد إعلان الجمهورية التركية، انتقد التغريبيون هذه الموسيقى لانفصالها عن الجمهور وانتمائها إلى الدائرة الضيقة للقصر العثماني في إسطنبول، بعبارات مثل "موسيقى السراي"، و"موسيقى الأندرون".
مع توسّع حدود الإمبراطورية، وصلت القوة الإمبراطورية إلى ذروتها، وجلبت ذوقاً موسيقيَّاً مشتركاً ومتشابهاً بين الأمم التي تعيش تحت الحكم نفسه، ولهذا السبب، ظلَّ الملحنون والمغنون والمُنظِّرون الأتراك واليونانيون والأرمن واليهود والعرب، إلخ، لعدة قرون، داخل إطار الموسيقى العثمانية عميقة الجذور. هناك أسماء من أصل غير تركي أخذت مكانة في الموسيقى العثمانية بوصفهم موسيقيين ومواطنين عثمانيين، ولم يتعرّضوا للتمييز في ما يتعلق بدينهم أو بأصولهم الوطنية.
للسبب نفسه، عندما تُفحَص موسيقى المقام المصرية والسورية والعراقية، التي عاشت في ظلّ الحكم العثماني لقرون، بعيدة جغرافياً عن إسطنبول، فمن السهل التحدّث عن الأذواق الموسيقية المماثلة مع إسطنبول. الاختلافات في الأسلوب واللغة، ليست سوى ثراء ثقافي، وإضافة محليّة يضعها الملحن أو عازف الساز. بالإضافة إلى ذلك، لا ينبغي نسيان التأثير القوي لتكايا الدراويش العثمانية، التي غذّتها تقاليد قوية وكانت تقريباً ساحة تدريب للموسيقى الدينية، في الجغرافيا العربية الواسعة التي عاشوا فيها، من العراق إلى سورية، في موضوع العلاقات الموسيقية التركية العربية. التكايا الصوفية ليست مجرّد أماكن لتأدية الموسيقى الدينية، كما يعتقد الكثيرون اليوم، ولكنها أماكن مهمة للغاية حيث تُعزف الموسيقى غير الدينية أيضاً، ويقوم العارفون بالموسيقى بعملية تقييم لما يجري تقديمه.
يجب البحث بدقّة عن التأثير الحقيقي للتفاعلات الموسيقية التركية والعربية في البلدان العربية مثل سورية والعراق ولبنان، وهي الأراضي السابقة للإمبراطورية العثمانية، والأقرب جغرافياً إلى تركيا. في الواقع، كان تأثير الموسيقى التركية أقدم وأقوى هنا مما كانت عليه في شمال أفريقيا. يُمكن أن نعزو ذلك إلى سببين؛ أولاً، استمرار الهيمنة العثمانية في المنطقة المعنية لفترة أطول مما كانت عليه في شمال أفريقيا، حتى عام 1918. ثانياً، نظراً لاستقرار التركمان في هذه المنطقة، فإن العلاقات في الموسيقى لها تاريخ يعود إلى ما قبل إقامة الدولة العثمانية بفترة طويلة.
وعلى الرغم من أنها بعيدة تماماً عن إسطنبول، فمن الضروري رؤية مصر في جغرافيا لها علاقات قوية مع الموسيقى التركية الكلاسيكية، وتقع ضمن مجال نفوذها، ولا ينبغي أن ننسى أن السيادة التركية في مصر ترجع إلى ما قبل العصر العثماني، وأن الثقافة التركية ظلت حيّة خاصة في المدن تحت حكم الخديوي (أسرة محمد علي باشا). الموسيقى التركية الكلاسيكية، التي انتشرت في الجغرافيا العربية من إسطنبول، عاصمة الإمبراطورية العثمانية ظلَّت مُتَّبعة لقرون، ولكن تفكّكها عام 1918، لا سيما مع بدء مصر في تبنّي اتجاهات جديدة في الموسيقى العربية، منع الاطلاع على الموسيقى في إسطنبول من كثب كما كان من قبل.
دُعي أساتذة موسيقى أتراك إلى سورية والعراق بعد استقلالهما
في واقع الأمر، بلَغ التفاعل العربي التركي في الذوق الموسيقي أعلى مستوياته عندما سيطرت الإمبراطورية العثمانية على المنطقة العربية، ومن الواضح أن هذا التفاعل جُرِّب بشكل أوضح في مدن مثل إسطنبول وبيروت والقاهرة ودمشق وحلب وبغداد، واستُخدمت آلات مثل العود والقانون والناي لعدة قرون في كل من العالم التركي والعربي وخاصة في المدن. من ناحية أخرى، تتداخل الأنظمة الموسيقية التركية العربية إلى حد كبير، وتُظهر المقاييس اللحنية والمترية تشابهاً قوياً في تركيا والعالم العربي، من الماضي إلى الحاضر، وخاصة في سورية.
"الموسيقى العربية الكلاسيكية" لها أوجه تشابه كبيرة مع الموسيقى التركية الكلاسيكية، من حيث المقامات والآلات الموسيقية المستخدمة، لفترة طويلة جداً. وإن لم لم تُفهم الكلمات، يمكن بسهولة معرفة الألحان من حيث علاقات المقام، ويمكن الاستماع إليها وفهمها بسهولة، لأن الآلات المستخدمة تعزف الموسيقى بالنغمات نفسها، وعندما يعرض الفنانون أعمالهم على الجمهور يظهر بوضوح هذا التشابه. وبدأ تشكُّل ذلك بقوّة في بداية القرن العشرين، وأصبحت الأوضاع على ما هي عليه اليوم خلال وبعد الفترة التي ندرسها.
وعندما كانت الدول العربية، التي تأسست بعد تفكّك الدولة العثمانية، تتجه نحو موسيقاها الخاصة، فقد تلقّت المساعدة والدعم من أساتذة الموسيقى التركية، وخاصة في تشكيل مؤسسات تعليم الموسيقى في مصر وسورية والعراق. وبينما تلقّى العرب هذا الدعم في الموسيقى من الأتراك، بعد فترة وجيزة من إعلان الجمهورية، كان تعليم الموسيقى الشرقية في تركيا يواجه صعوبات كثيرة، إذ كان العصر الجديد يرفض أشياء كثيرة من الماضي العثماني للبلاد، بما فيها الموسيقى. ولعل أهم مؤشر على ذلك، هو إلغاء تعليم الموسيقى التركية في المدارس عام 1926 بقرار من "دار الصنائع النفيسة".
*مؤرخ موسيقي تركي
** ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير