كلُّ ما تَراهُ العَين
وليتَ ما تبقّى منهُ نهارَ جمعة
ها أنا أنزعُ عنّي ثياب السَّفر:
قميصًا حاكه جَبلٌ،
بنطالًا على مقاسِ رحيلٍ طويلٍ،
وحافٍ كأنّي أمشي على نَرجسٍ أو هَمس.
وعِوضًا عنها،
ها أنا أرتدي مَللَ البارحة،
وأُعلِّقُ على صدري صورةَ الأمسِ اليابسِ بلا خُضرةٍ ولا ماء
أعودُ لهذه الرتابة التي تشبه حياةَ جدَّةٍ عاقرٍ
تُكرّر نهاراتها بهشِّ الذُّبابِ،
وكنس البابِ، والتحديق بالحائط.
ليتَ بعضَ العُمرِ مساءَ خَميسٍ
تُحْزَمُ فيه الحقائبُ، ويضبط فيه موعد اليقظةِ للفَجر،
وليتَ ما تبقّى منهُ
نهارَ جمعةٍ
وأنا فيه مسافرٌ إلى الأبد.
■■■
أوفا
مُعجِزَتي عالقةٌ في جَيبِ ملاكٍ
أو نائمةٌ على وسادةٍ في حُلم الأمس،
زنزانتي بلا رَقمٍ، ولن يَعثُر عليَّ أحد
فَمنْ لنا الآن يا أوفا، والوقتُ دخانٌ تنثفهُ المِشنقة
وفي الخارج يَتلوّنُ اسمي،
ويقطعونَ لي تذكرةً على صهوة الفَجر إلى فردوسٍ لا أعرفه.
هذهِ الأرضُ،
صَبَّتْ في فَمي رصاصَ غُزاتها وبارود قَتلتِها ولُعابَ طُغاتها
ولكنّها فردوسي الذي فيه أنتِ
وحقيبتكِ المَدرسيّة
وأساطيرنا التي تركناها ترعى مع الخِراف عند تلِّ الحَجر،
فردوسي الذي أعرِفهُ
كما يعرفُ المقتولُ وجهَ قاتله،
ملامحهُ الصخر ونظرته الحديد.
عشتُ بلا معجزةٍ
وأُقادُ إلى فناءٍ بلا معجزةٍ أيضًا
أفليس من القبيح أن يموتَ المرءُ كما يشتهي الآخرون
أفليس من التفاهةِ أن نموت يا أوفا
ونترك خلفنا البيت خائفًا بلا أُغنية،
الشاي بلا من يدفعهُ بعيدًا عن الحَطب،
القلعة بلا نارٍ يستدلُّ بها التائه،
وريحُ المساءِ الباردةِ لا تُلامس جِلدَ حبيبينِ على شاطئٍ يجاورُ القَمر.
سأعود كما يعود الأنبياء إلى ديارهم في آخر العمر
سأعودُ حتمًا،
حين لا زنازين ولا جُدران،
ولا حدود تفصل بين شفتي
ووجهكِ المنسدل عليهِ ليلُ المغيب.
■■■
أنا وعصاك
بصمتٍ، ومن دون أن ينتبه أحدٌ يا "عصا موسى"*
يَمرُّ من بين أصابِعنا العُمر،
هذا الفراغ الذي نقبضُ عليه بالكفِّ، ولكِنَّنا لا نَملكه،
لا نراهُ ولا يَرى أسفًا في عيونِنا عليه،
يمرُّ تحت أقدامنا كما لو أنَّه طيفُ دُخان
لا يُبلِّلُ، ولا يَخنقُ، ويَتبدَّدُ على مَفرقٍ في مَساء،
هكذا، بِلا تَحذيرٍ بعينٍ
بلا إشارةٍ بحاجبٍ، ولا نصيحةٍ بِطَرْفِ لسان
نكبرُ ونقطعُ الأيام في عَربةٍ من سَرابٍ تَركضُ في أرضٍ سراب.
اليوم،
بعدَ – لا أدري كَمْ فاتَنا وكَمْ سَيفوت –
عَثرتُ على وَرقةٍ صَفراء في رأسِكِ العالي
وعلى شيبةٍ أولى في رأسي الثَّقيل
هكذا صِرتُ أَقيسُ عمري بما يَصْفَرُّ منكِ ويخضرُّ.
أفَليسَ من المؤسفِ يا موسى
أن نكبر لوحدنا في الغرفة،
بلا غابةٍ، بلا مدنٍ تَسبحُ مصابيحها في بحرٍ مجاورٍ،
فقط يا رفيق، أنا وعصاك.
* نبتة ظلّية تنمو وتكبر في الغُرف.
■■■
في بقعةٍ سَحيقَةٍ منَ البَيتْ
مشنوقٌ بهذا اللَّهب النّازلِ من مَزاجِ آلهةٍ تعكَّرت غفوتها
وعلى فَمٍ مفتوحٍ تَغلي فيه خَلقٌ كثيرةٌ،
أتدلّى مثلَ سَمكةٍ يابسةٍ لا تَدفعُ شَرًّا ولا تَجلبُ خيرًا،
أتعرَّقُ غَضبًا لا يُهدِّدُ حُكمًا بالموتِ،
وأُصابُ بوهن البراكينِ وخمولها،
وفي كلِّ هذا،
لا أُحرِّكُ مِجدافًا ولا أملأُ بتلويحةٍ فَراغَ الكون
لا أرفسُ غُبارَ العدمِ ولا أَنفخُ على شَمعةِ وجودي،
لا أموتُ ولا أشهقُ ولا أختنق،
إنَّني أتفرَّجُ على هذه القبائل التي تصلُ باستمرار،
قبائلُ فُصولٍ من الصيفِ الحَقير
تَشوي القيرَ وتُحمِّصُ الحَصى وتحتفل،
وأنا مائدتها التي ستنزلُ من السماء في غضون الليل
لا لتُشبع بطونًا جائعةً
بل ليكملوا على نارٍ هادئةٍ،
في هذهِ البُقعةِ السَحيقَةِ منَ البَيتْ، شِوائي.
■■■
مباغتة، إلى أبد الآبدين
هؤلاء الذين يُفرقعون الآن في المِقلاة
نحنُ يا معشرَ الملائكةِ المُنعَّمين بالبَردِ والفاكهة
وهذه الشَّمعةُ التي نَغلي على نارِها
مصبوبةً على باب الجَحيمِ، ومشعولةً من قَدحةِ سَعيرها.
إنَّنا وجبةٌ تتلظّى ببطءٍ في هذا الغَليان ولا أحد يَغرِفُها
تتفحَّمُ بصمتٍ ولا أحدَ ينتبه لِسُخامِها
لكنَّنا مثلَ طائرِ الفينيق
كلّما نفضَ الموتُ يديه مِنّا ومسحَ جبينه،
نُباغته
ومن رمادنا نُولد،
ونكايةً به
نَحتَرِقُ مرَّةً أخرى.
وماذا بعد؟
نُولَدُ مرارًا
وإلى أبد الآبدين.
■■■
للتوِّ نهضتُ من رَقدتي
كنتُ مُتبخِّرًا في هذه المدينةِ السائلةِ على جَبينِ آلهةٍ تتعرَّق
ربما مفقودًا ولا أثرَ لي على كومةِ رَملٍ أو بَصمةٍ على مِقبضِ باب
وعلى الأكثرِ
مُتحجِّرًا في توابيت الصيفِ
للتوِّ نهضتُ من رَقدتي
وما انتبهتُ على كتفِ مَنْ تَوكَّأتُ
وبماءِ مَنْ غَسلتُ غواشَ الوجود،
كنتُ لا شيءَ حين نهضتُ
فَمنْ زرع في أوَّلِ خطوةٍ لي، عينيكِ،
ومَنْ أَوْدَعَ فيهما لَمعة الهِجران!
مَنْ حَكمَ على لونِها بأن يُسكِر
وعلى رَمْشَتِها بأنْ تُثير غُبارَ الفَناءِ وتخفيه.
للتوِّ نهضتُ
راضيًا بِهَجرٍ سَريع، وأُعلِّم نَفسي هَذياناتٍ أبديّة:
ليسَ كلُّ ما تَراهُ العَين
مِلكًا لها.
* شاعر وتشكيلي من العراق