جولة في غابة الفصائل السورية المسلحة
على مدى أكثر من عقد من عمر الثورة السورية، برزت عشرات التسميات للفصائل المسلحة، منها ما تلاشى واندثر، ومنها ما تأطر في كيانات جديدة تماشياً مع التحولات التي كانت تطرأ تباعاً على المشهد السوري، وتحديداً بشقّه العسكري الذي بلغ أوجه في السنوات الأولى من عمر الثورة، بعدما دفع العنف المفرط للنظام الهادف لقمع الثورة إلى عسكرتها تباعاً. أما المليشياوية، فطغت على سلوك عدد كبير من التنظيمات المسلحة.
وتشكلت الفصائل والمجموعات المسلحة تباعاً بعد الثورة، وأصبحت في ما بعد ألوية وفرقاً وجيوشاً ومليشيات. واستولت قبل عام 2015 (أي تاريخ التدخل الروسي في سورية)، على حوالي 70 بالمائة من جغرافيا البلاد بعد دحر قوات النظام عنها، قبل أن تنحسر إلى مساحات صغيرة، ويسود عليها طابع الاقتتال والشرذمة والتبعية والمليشياوية.
والمتبقيان البارزان في المشهد اليوم، هما "الجيش الوطني" هو تحالف من فصائل المعارضة السابقة التي كانت تعمل بمعظمها تحت إطار "الجيش الحر"، والذي أشرفت تركيا على تشكيله في مناطق نفوذها شمال سورية، وتحديداً في ريف حلب وتوسعت به في كل من ريفي الرقة والحسكة بعد السيطرة على مناطق هناك، فيما انضم إليه تحالف "الجبهة الوطنية للتحرير" في إدلب.
المتبقيان البارزان اليوم في مشهد المجموعات المسلحة، هما الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام
أما القوة الثانية، فهي "هيئة تحرير الشام" أو (جبهة النصرة سابقاً) التي تنتشر في إدلب، وتعتبر قوة ضخمة ولها جهاز أمني وآخر مدني كبيران. ومنذ ولادته، سلك هذا التنظيم طريقاً بعيداً عن فصائل المعارضة التي تقاتل تحت لواء الثورة السورية، مع محاولة "هيئة تحرير الشام" في الفترة الأخيرة التظاهر بتبديل منهجها وسلوكها.
عشرات آلاف المقاتلين في 11% من مساحة سورية
وبعد 12 عاماً على اندلاع الحراك المناهض لنظام بشار الأسد، تعرض الجناح العسكري للثورة للكثير من التغيرات، من حيث الشكل والمنهجية والانتشار، وباتت اليوم على الشكل التالي:
في شمال غرب سورية، توجد 4 مناطق رئيسية تتقاسم الفصائل المسلحة في ما بينها السيطرة عليها والنفوذ والمعابر، وهي: منطقة إدلب ومحيطها، ومنطقة درع الفرات (الباب وإعزاز ومارع وجرابلس ومحيطها في ريف حلب الشمالي)، ومنطقة غصن الزيتون (عفرين ومحيطها في ريف حلب الشمالي)، ونبع السلام (مساحة ممتدة بين تل أبيض في ريف الرقة إلى رأس العين بريف الحسكة)، بالإضافة إلى جيب صغير في البادية السورية، حيث يحمي "جيش سورية الحرة" أو ما كان يعرف بـ"جيش مغاوير الثورة"، قاعدة التنف لـ"التحالف الدولي" لمحاربة "داعش"، وهو فصيل مدعوم من الولايات المتحدة ومستقل عن التشكيلات المعارضة الأخرى.
في إدلب ومحيطها، تفرض "هيئة تحرير الشام" نفسها بقوام 20 ألف مقاتل يتوزعون على ألوية عدة، و"أحرار الشام" بقوام 5 آلاف مقاتل، إلى جانب وجود فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" التي تضم حوالي 20 ألف مقاتل، وهي تحالف من فصائل: فيلق الشام، جيش إدلب الحر، الفرقة الأولى الساحلية، الفرقة الثانية الساحلية، جيش النخبة، الفرقة الأولى مشاة، جيش النصر، جيش الأحرار، صقور الشام، وتجمع دمشق.
أما في المناطق الثلاث الخاضعة للنفوذ التركي بين أرياف حلب والرقة والحسكة، أي "غصن الزيتون" و"درع الفرات" و"نبع السلام"، فينتشر حوالي 30 فصيلاً عسكرياً بقوام 40 ألف مقاتل يشكلون "الجيش الوطني"، ويتوزعون على ثلاثة فيالق.
الفيلق الأول يضم: لواء الشمال، جيش الأحفاد، لواء سمرقند، لواء المنتصر بالله، أحرار الشرقية، لواء السلطان محمد الفاتح، ولواء الوقاص، فيلق الشام قطاع الشمال، الفرقة التاسعة، جيش النخبة، وجيش الشرقية.
أما الفيلق الثاني فيضم: فرقة السلطان مراد، فرقة الحمزة، سليمان شاه، لواء صقور الشمال، فرقة المعتصم، فيلق الرحمن، وأحرار الشام القاطع الشرقي.
وأخير الفيلق الثالث الذي يضم: الجبهة الشامية، جيش الإسلام، لواء السلام، فرقة الملك شاه، الفرقة 51، صقور الشام، وفيلق المجد.
كل تلك الفصائل والتشكيلات، تسيطر اليوم على نحو 11 في المائة من مساحة البلاد، في حين باتت الحصة الأكبر من السيطرة للنظام بأكثر من 63 في المائة، تليه "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) بحوالي 26 في المائة.
مقاتل بالجيش الوطني: راتبي 30 دولاراً ولا يكفيني للعيش بكرامة
بالنسبة لـ"هيئة تحرير الشام"، ورغم ركوبها موجة الثورة، إلا أنها أدت دوراً كبيراً في القضاء على العديد من فصائل المعارضة ولا تزال مصنفة كتنظيم إرهابي، الأمر الذي حوّل مناطق سيطرتها إلى مناطق خطرة على المدنيين حيث تتخذ ذريعة لقصفهم. وفصائل المعارضة التي قضت عليها "الهيئة" و"جبهة النصرة" سابقاً، هي: جبهة ثوار سورية، الفرقة 30، حركة حزم، جيش المجاهدين، ثوار الشام، حركة الزنكي، بالإضافة إلى تشتيت حركة "أحرار الشام".
الجيش الوطني السوري المعارض وتحدي المأسسة
أما بالنسبة لـ"الجيش الوطني" السوري المعارض، فهو يتبع نظرياً لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والفصائل ممثلة في الائتلاف بطبيعة الحال، وفي هيئة التفاوض وقائمة المعارضة للجنة الدستورية. أما عملياً، فتتحكم أنقرة في تمويل وقرارات "الجيش الوطني"، الذي يتهم بعدم التصرف كمؤسسة نظراً لتفرد كل فصيل بقراره، وذلك خلّف ولا يزال العديد من الاقتتالات في ما بين فصائله، أودت بحياة ضحايا أبرياء.
وتقول مصادر لـ"العربي الجديد"، إن هناك فصائل مقربة أكثر من غيرها من الجانب التركي، كفصيل "السلطان مراد" الذي يقوده فهيم عيسى، وهو سوري من أصل تركماني، وهو الذي يستلم كتلة الرواتب للفصائل ويوزعها.
وظهرت الفصائل القريبة من أنقرة أيضاً في كل من ليبيا وأذربيجان بعدما أوعزت لهم تركيا بإرسال عناصر فصائلهم إلى هناك في خضم الحرب في العاصمة الليبية طرابلس وأزمة إقليم ناغورنو كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، وهذا ما جعل الاتهامات بالارتزاق تتوجه نحو "الجيش الوطني" في العموم.
بالنسبة لأجهزة الشرطة المدنية والعسكرية، فهي ترتبط هناك بـ"الجيش الوطني" بشكل أو بآخر، لكن يسيطر عليها القرار التركي بشكل تام، وهي أجهزة متهمة بالفساد وعدم الكفاءة لا سيما مع الفلتان الأمني وتنامي الانتهاكات كالاغتيالات والخطف والسرقات والاعتقال القسري والتعسفي من قبل تلك الأجهزة ذاتها.
والتقت "العربي الجديد"، محمد الإمام، وهو مقاتل سابق في "الجيش الحر"، يقول إنه ترك القتال منذ عام 2016 بعدما قاد كتيبة عسكرية سُميّت على اسم شقيقه الذي قتل على يد النظام في عام 2012، وشارك في العديد من المعارك على رأس هذه الكتيبة.
يشير محمد إلى أن "الوضع الآن مختلف، ولا توجد معارك حقيقية، وأغلبها أصبحت موجهة لغاية ما". ويضيف: "تركت القتال ولجأت إلى هوايتي المفضلة، كرة القدم، بالإضافة إلى أنني أسعى لرزق عائلتي وأولادي بالعمل". ويؤكد محمد: "ما زلنا متمسكين بقضيتنا وأهداف الثورة التي قاتلنا من أجلها، وعندما سيباشر النظام بهجوم سأعود لحمل السلاح، لقد قدمنا شهداء وجرحى ولن نستسلم أبداً".
الفاروق أبو بكر: لا يمكن أن نتحول إلى مؤسسة ونحن ما زلنا بحالة حرب
من جهته، يشرح المقاتل السابق في صفوف "الجيش الحر"، والحالي في صفوف "الجيش الوطني"، مصطفى السيد، مراحل ودوافع المقاتلين بقوله: "في السابق كنا نقاتل في سبيل الله بكل معنى الكلمة، ولنصرة القضية، لم نكن نبحث عن راتب أو مال، كنا نمول أنفسنا من مدخراتنا أو بالاعتماد على أصدقائنا أو أقربائنا، الأمر اختلف بعد حوالي 12 عاماً".
يشير السيد لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "مع ظهور غرفة (الموك – غرفة قيادة وتنسيق عسكرية تقودها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والأردن وبعض دول الخليج)، أصبحت لدينا رواتب بالدولار الأميركي وانتعش المقاتل، لكن ومع عام 2017، عند تشكيل الجيش الوطني، الذي أصبح تابعاً لتركيا، بات الراتب يقدم بالليرة التركية، بحدود 500 إلى 600 ليرة تركية، أي ما يعادل 100 دولار في ذلك الوقت، وحالياً صار الراتب 800 ليرة، ما يعادل 30 دولارا، وهذا المبلغ غير كاف للعيش بكرامة، وحتى الدعم تقلص بشكل كبير، وأنا أبحث عن عمل إلى جانب عملي في الجيش الوطني، إذ لدي زوجة وأولاد يجب أن أؤمن لهم نفقاتهم".
ويلفت السيد إلى أنه بالنسبة للقتال، فإن الأمر أصبح روتيناً، وليس كما السابق، لافتاً إلى أنه "اليوم لا يمكننا أن نستخدم سلاحنا دون إذن قيادتنا".
من جهته، يقول الفاروق أبو بكر، القيادي في "الجيش الوطني" السوري، إن هذا الجيش هو "مؤسسة بشكل عام، ولكنه لا يتمتع بمواصفات المؤسسة". ويبرّر أبو بكر رأيه في حديث لـ"العربي الجديد"، بالقول إن "هذه المؤسسة حديثة النشأة، ولا ترقى لكي تكون وتعمل بكامل مواصفات المؤسساتية".
ويضيف أبو بكر: "الفصائل لها تاريخ قديم جداً، ومن الصعب أن يتم إنهاء أسماء وتاريخ هذه الفصائل لأسباب عدة، وهم ليسوا جيشاً منظماً، إنما هم شباب مدنيون ثائرون وحاربوا النظام". ويتابع: "الساحة ما زالت بحال حرب ونحن بحالة ثورة، والثورة تعني فوضى، ما يعني أنه لا يمكن تنظيم مؤسسة في الواقع الذي نعيشه". ويشدد في هذا السياق على أن "بناء مؤسسات الدولة يتطلب مكاناً وجغرافية مستقرة، وليست دائمة الاستهداف بالقصف والمفخخات والخلايا الإرهابية، عدا عن الجهات التي تريد العبث بالمنطقة مثل روسيا وإيران ونظام الأسد وحزب الله وقسد وداعش، وهذه العقبات هي التي تقف أمام مأسسة الجيش الوطني بشكل حقيقي".
من جهته، يرى العقيد مصطفى بكور، وهو محلل سياسي وقيادي في المعارضة، أن "عسكرة الثورة حالة طبيعية في ظلّ التجاوزات والمجازر التي ارتكبها نظام الأسد بحق السوريين، وعدم وجود أي جهد دولي لحماية المدنيين"، مبيناً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تشرذم الفصائل ناتج عن تعدد الجهات الداعمة وتعدد الأيديولوجيات ضمن صفوف الثورة".
ويلفت بكور إلى أن "هناك بعض الفصائل تحاول نقل الفصيل من الحالة الثورية العفوية إلى الحالة المؤسساتية العسكرية، لكنها لم تصل إلى مستوى يمكن أن نقول عنها إنها مؤسسة عسكرية متكاملة". ولهذا السبب، برأي بكور، فـ"إننا نشاهد أن أغلب الاقتتالات بين الفصائل التي حصلت خلال السنوات الماضية ناجمة عن خلافات على مناطق السيطرة والمصالح الضيقة، مثل المعابر والنفط وغير ذلك، وأما الدور التركي فيأخذ دور الحيادي، إلى أن تتهدد مصالحه وأمن المنطقة فيتدخل للحفاظ عليها".
ويعلق وائل علوان، وهو باحث ومطلع على شؤون الفصائل والجناح المسلح للثورة، على كل ذلك، بأن المشكلة الرئيسة بالنسبة لـ"الجيش الوطني"، هي أنه ما زال مشكلاً من فصائل ثورية، مضيفاً أن "هذه الفصائل لم تستطع أن ترقى للتنظيم المؤسساتي العسكري كما يعنون في وزارة الدفاع ورئاسة الأركان التابعة لها".
ويضيف علوان في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الحالة الفصائلية هي حالة شعبية ليست كحال مؤسسة عسكرية، فالفصائلية تقوم على مختلف أنواع وأسباب تشكيل الفصائل سواء المناطقية أو الأيديولوجية، وهذا ما جعل حالة الفصائلية مترسخة ضمن فصائل الجيش الوطني، حيث إن فرض قيادة متمثلة بوزارة الدفاع وهيئة الأركان، لم يخلق حالة حقيقية من دمج هذه الفصائل ضمن المؤسسة وإنهاء الحالة الفصائلية".
وبالنسبة لـ"هيئة تحرير الشام"، يوضح علوان أن "الوضع مختلف، لأنها تنظيم وليست فصيلا، والفرق بأن التنظيم يقوم على بنية أمنية، إلى جانب أن المجموعات العسكرية، وفصائل الجيش الوطني لم تقم على بنية أمنية وإنما على مجموعات عسكرية، وهذا أحد أسرار تماسك هيئة تحرير الشام مقارنة مع غيرها من الفصائل".
ويشير علوان إلى أن "تحرير الشام استفادت من إرث تنظيم القاعدة وخبراته السابقة في مختلف البلدان، أهمها الأردن والعراق، ونقلت تجارب من هناك، لكنها الآن تحاول أن تفرض نفسها كحالة مستقرة تدير منطقة بعيداً عن الأيديولوجية، وهي تحاول الانفصال عن هويتها الأيديولوجية، والتماشي مع المطالب الدولية لتكون فاعلة في المستقبل السياسي للبلاد عند الحل". ويرى علوان أن هذا الأمر "صعب جداً لا سيما أن هيئة تحرير الشام لا تزال مصنفة كتنظيم إرهابي في الولايات المتحدة الأميركية". ويرى علوان أخيراً أن "الجيش الوطني مرشح أكثر ليكون له دور مستقبلي، لكن بشرط التحول الحقيقي إلى المؤسساتية وإنهاء الوضع الحالي".