مشكلة الأهداف البعيدة
عطية مسوح
من أهم المشكلات التي واجهت الحركة السياسية العربية، ولا سيما التيارات القوميّة والاشتراكيّة، مشكلة العلاقة بين الأهداف البعيدة (أو ما سميت ستراتيجيّة) والأهداف القريبة أو المرحليّة. في أوائل القرن العشرين كنا – في المشرق العربيّ - نرزح تحت هيمنة الاحتلال العثمانيّ، وفي الربع الأول من القرن العشرين، وقعنا في شباك الدولتين الاستعماريتين الكبريين، بريطانيا وفرنسا.
فكانت مهمّة الخلاص من التسلّط العثمانيّ والغربيّ هي الأولى في سلسلة المهمات القوميّة العربيّة. ومن أجل هذا الهدف ظهرت الحركات السياسيّة القوميّة الأولى في المشرق العربيّ، التي طالبت بحقوق العرب بوصفهم أكثريّة سكّان الدولة العثمانيّة في البداية، ثمّ انتقلت إلى العمل على تحرير الأرجاء العربيّة من الاحتلال التركيّ وإقامة الدولة العربيّة.
كانت تلك الأهداف واقعيّة وقابلة للتحقّق، فاحتشدت حولها أوساط شعبيّة واسعة، ونشط تحت رايتها معظم السياسيين والمفكّرين والمثقّفين العرب. وكذلك كان هدف التحرّر من الاستعمار الغربيّ بين الحربين العالميتين.
الهدف الواقعيّ يحظى بتأييد الناس، ويشحذ هممهم، ويبثّ فيهم روح النضال والتضحية، فتكون نتيجة ذلك أن يتحقّق الهدف ويقطف الشعب ثمار كفاحه وتضحياته.
غير أنّ المشكلة التي نتناولها في هذه المقالة هي مشكلة الأهداف البعيدة التي تعبّر عنها الشعارات الكبرى. فمن يراجع الحياة السياسيّة العربيّة في القرن العشرين، والنشاط الفكريّ الذي رافقها، أو كان خلفيّة لها، يجد أنّ معظم الحركات والأحزاب السياسيّة – ولا سيّما ذات الأيديولوجيّات الدينيّة والقوميّة والاشتراكيّة – كانت أحزاب أهداف مصيريّة كبيرة وبعيدة المنال، وأنّ أعين قادتها والمنتمين إليها كانت تتطلّع إلى البعيد المأمول متجاوزة /إلى حدّ كبير/ الأهدافَ القريبة والملحّة، أو جاعلة منها مفردات بسيطة قليلة الأهمّيّة في ملحمة النضال من أجل الهدف البعيد، الذي – برأيها – لا يجوز أن يغيب عن عين المناضل مهما يكن الهدف المرحليّ ملحّاً.
أي – وفق هذه الرؤية - إنّ الهدف البعيد ينبغي أن يتلبّس كلّ حركة يومية أو مرحلية، وهي حركة لا قيمة لها ما لم تكن خطوة في السير إلى ذلك الهدف البعيد.
ومقابل هذه الرؤية هناك من أعطى الحركة اليوميّة والأهداف القريبة الدور الحاسم في نجاح أيّ حزب أو حركة، مقلّلاً من أهميّة الهدف البعيد، ومعبّراً عن الخشية من أن يضفي التعلّق بالبعيد طابعاّ حُلميّاً خيالياً على الحركة ويبعدها عن الواقع ومقتضياته ويحول دون إحداث تغييرات إيجابيّة فيه.
ولعلّ هذين الوجهين للرؤية يدفعان المفكّرين العرب إلى البحث عن صيغة منطقيّة ومعقولة تحقّق التوازن بينهما، فلا تضيع الأهداف البعيدة في غمرة المشكلات اليوميّة والبحث عن الحلول المناسبة للقضايا المرحليّة، ولا يُضعِفُ التعلّقُ بالأهداف البعيدة النضالَ لحلّ المشكلات الآنيّة والمرحليّة. ولإيضاح ما نرمي إليه، نعود إلى المرحلة التي أعقبت استقلال البلدان العربية فرادى عن الدول الاستعماريّة الغربيّة بعد الحرب العالميّة الثانية.
كانت المهمة الكبرى أمام شعب كلّ بلد أحرز استقلاله هي بناء دولة مؤسسات حديثة، دولة تقوم على المبادئ الإدارية والتنظيميّة الديمقراطية كما توصّلت إليها التجارب السياسيّة الحديثة في العالم، دولة فيها مؤسسات منتخبة، وقضاءٌ مستقلّ حرّ، وقانونُ أحزاب عصريّ، وصحافة تمتلك هامشاً واسعاً من الحرّيّة، ودستورٌ لا يضع أحداً فوق القوانين والمساءلة، وغير ذلك من المبادئ السياسيّة. دولة تهتمّ بالتعليم والتصنيع وتمكين المرأة من المساهمة في الحياة الاجتماعية والثقافيّة والسياسية... كانت هذه هي متطلبات مرحلة ما بعد الاستقلال، لكنّ الحركات السياسيّة، ولا سيما القومية والاشتراكية (والليبراليّة إلى حدّ ما) لم تجد السبل إلى التعاون والالتفاف حول هذه الأهداف، فظلّت البرجوازية الوطنية على حذر من أن تحوز الحركات اليسارية والقومية تأييداً شعبياً يُجعلها منافساً على السلطة، وتعلقت الحركات القومية وعلّقت أنصارها بهدف بعيد هو الوحدة العربية الشاملة أو وحدة الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق)، معتبرة الدولة القطريّة ظاهرة عابرة، وانشدّت الحركات الاشتراكية إلى هدفها البعيد فلم تدعم البرجوازية الوطنية في سعيها لبناء مؤسسات اقتصادية رأسمالية تنهض بالبلاد، معتقدة أنّ الاشتراكيّة يمكن أن «تُبنى» قبل نضج الرأسماليّة... وهكذا انصرف كل من هذه القوى الوطنية في طريقه الخاصّ بدلاً من التعاون في طريق الوصول إلى الهدف المرحليّ المشترك.
وإذا كان الهدف المرحليّ يمكن أن يقرّب القوى الوطنيّة ويقوّي نشاطها المشترك، فإنّ الأهداف البعيدة كفيلة بأن تفرّق بينها وتبعثر جهودها.. وهذا ما حصل واقعيّاً.
كم كان مفيداً مثلاً لو أن القوى المذكورة وجدت طرقاً للالتفاف حول أهداف مرحلية مشتركة، أو تنسيق العمل والنشاط من أجل السير خطوات نحو أهداف لا تختلف حولها، كحقوق المرأة وبناء مؤسسات الدولة بناء حديثاً ونشر التعليم وتطوير وسائله وغير ذلك.
وكم كان مفيداً لو أنّ القوى الليبرالية والقوميّة والاشتراكيّة، طرحت مهمات مرحلية محددة تقرّب البلدان العربية بعضها من بعض، بدلاّ من التركيز على هدف أقرب إلى الحلم هو الوحدة العربية الشاملة، كالعمل على تقارب المناهج التعليمية، وتبادل المعلمين وإيفاد الطلاب، وإقامة مشروعات اقتصادية مشتركة!.. إن النضال المشترك من أجل الأهداف المرحليّة القريبة الممكنة كان مؤهّلاً لدفع البلدان العربية في طريق النهوض، أي إنه كان سيجعل الأهداف البعيدة أقرب. وها نحن أولاء نحصد نتيجة إغفال ذلك مزيداً من البعد عن تلك الأهداف. خسرنا الكثير من الزمن والطاقات، وازددنا غرقاّ في التخلّف، لكنْ ما يزال البدء ممكناً.
*كاتب وباحث من سوريا