فلسفة الفوضى
ميادة سفر
تكرر كثيراً في السنوات الأخيرة لفظ "الفوضى" في إشارة إلى ما يجري من أحداث حول العالم، من تظاهرات شعبية يتخللها تخريب وتدمير لبعض المنشآت، فضلاً عن "الفوضى الخلاقة" التي نظرت لها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس إبان ما بات يعرف بنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط، مع ما تبعها من تدمير بلاد وتشريد سكان، لدرجة أنّ البعض وجد في ما يحدث شكلاً من أشكال الفوضوية أو اللاسلطوية أو الأناركية التي سادت في أوروبا منذ قرون، في محاولة للإيحاء بأنّ المدافعين عن الأناركية مضللين وأشرار، فهل هي أيديولوجيا عنيفة غايتها تدمير كل شيء في العالم؟ وهل ما يجري ينضوي تحت حركة اللاسلطوية بما تحمله من أفكار وتصورات للمجتمع؟
اللاسلطوية بما هي نتاج فكري اجتماعي لم تكن قائمة على نقد السلطة والدولة وحسب، بل إنها فلسفة تؤمن بحرية الإنسان، وحقه في تحديد خياراته وتقرير مصيره دون الخضوع لأية سلطة أو تدخل من أية قوة تحاول رسم نظام حياته وفرض خيارات عليها، وبالتالي فهي تطمح إلى مجتمع إنساني خال من السلطة والهيمنة سواء من الجماعة أو الفرد، وهي بذلك ترفض كل أشكال التنظيمات المجتمعية القائمة على السلطة التي تفرضها الدولة، مثل المؤسسات الحكومية والأحزاب وغيرها، وترى فيها هياكل تضع السلطة في يد أقلية تفرض هيمنتها على غالبية الشعب.
يرجع البعض هذا المفهوم إلى المدارس الفكرية في اليونان القديمة، حيث نجد أفكاراً ذات صبغة أناركية عند زينون الرواقي الذي كان يدعو إلى سيادة القانون الأخلاقي، وأنّ الأفراد إذا اتبعوا القانون الطبيعي سيعيشون بسلام وانسجام مع بعضهم، ولن تكون ثمة حاجة لأية مؤسسات تمارس الهيمنة والقهر كالجيش والمحاكم والكهنة، فضلاً أن مفكرين معاصرين مثل نعوم تشومسكي الذي قدمّ أفكاراً جديدة للفكر اللاسلطوي، مثل مفهوم السلطة الشرعية واللاشرعية، ونقده لهياكل السلطة والطبقية والتراتبية، التي يرى أنها تحد من حرية الإنسان، وهناك مفكرين آخرين كانت لهم بصماتهم الفارقة في الفكر اللاسلطوي مثل ميخائيل باكونين، ليو تولستوي، وليام غودوين، جوزيف برودون وغيرهم ممن تحدثوا وآمنوا بالفكر اللاسلطوي، والتي وإن تناقضت فيما بينها أحياناً، إلا أنها تشترك في معارضة وجود الدولة والرأسمالية.
ينظر اللاسلطويون إلى الدولة باعتبارها كياناً لا أخلاقياً، قائم على العنف والهيمنة، يمارس شكلاً من أشكال العبودية على الشعب، ولا يحترم الحرية الإنسانية، وعلى الرغم من انتشار الأفكار الديمقراطية والبرلمانات والانتخابات التي تشي بممارسة الشعب لحقه من الحكم، إلا أنّ كل تلك الممارسة بقيت في رأيهم في خدمة أقلية على حساب غالبية الشعب، حيث تسيطر جماعات ولوبيات تستبد بالأغلبية وتمارس عليها العنف بأشكاله المختلفة المادية والمعنوية.
يبدو أنّ الشعوب ضاقت ذرعاً بما تقوم به حكوماتها وما تمارسه من قهر وقمع وإذلال، فكان رد فعلها عنيفاً، مما دعا البعض للاعتقاد بأنها حركات لا سلطوية أناركية، تطالب بزوال الدولة بكل ما تمثله من سيطرة وسلطة، إلا أنّ ما يجري في غير بلد في العالم لا يمت إلى تلك الفلسفة بصلة، لأن ما تريده الشعوب ليس إلغاء الدولة ومؤسساتها السلطوية المهيمنة، بقدر ما هو التخفيف من الأعباء التي أرهقتها، وكف يد المؤسسات السياسية والأمنية والدينية التي تضيق الخناق أكثر فأكثر، وتحد من حرية الأفراد بشكل لم يعد ممكناً الاستمرار به.